شاشي ثارور
نيودلهي – عادة لا يميل الشعب الهندي إلى الخوض في الماضي الاستعماري للبلاد. سواء بسبب القوة الوطنية أو الضعف الحضاري، رفضت الهند منذ فترة طويلة حمل أي ضغينة ضد بريطانيا رغم 200 سنة من الاستعباد الامبريالي والنهب والاستغلال. لكن موقف الهند الهادئ من الماضي لا يُنسِي ما تم القيام به.
بعد بضع سنوات، سأل ونستون تشرشل رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، الذي كان قد قضى ما يقرب من عشر سنوات من حياته في السجون البريطانية، عن سبب الغياب الواضح للضغينة عنده. وقال نهرو إن "رجلا عظيما" المهاتما غاندي، قد دعا الهنود أن يتحلوا بالصبر "لا الخوف ولا الكراهية".
ولكن على الرغم من المظاهر، فاٍن رواسب الاستعمار لم تتلاشى بشكل كلي. هذا أول ما تعلمته في صيف عام 2015 لما ألقيت خطابا كان له رد فعل قوي في جميع أنحاء الهند.
وانتشر الخطاب بسرعة كبيرة على وسائل الإعلام الاجتماعية، وصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين زيارة في 48 ساعة فقط، كما أعادت المواقع في جميع أنحاء العالم نشر ذلك الخطاب. وتوقف خصومي اليمينيون عن التصدي لي عبر وسائل الإعلام الاجتماعية فقط لفترة كافية لدعم خطابي. وبذلت متحدثة لوك سابها، سوميترا ماهاجان، جهدا كبيرا لتهنئني في مناسبة حضرها رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والذي هنأني علنا لقولي "الأشياء المناسبة في المكان المناسب".
وأسمعت المدارس والكليات الخطاب لطلابهم. ونظمت الجامعة المركزية لجامو، ندوة استمرت يوما كاملا، حيث تناول فيها علماء بارزون نقاط محددة كنت قد تطرقت إليها. وكُتبت مئات المقالات ردا على ذلك، سواء لدعم أو معارضة تصريحاتي.
بعد عامين، ما يزال الناس يستوقفونني في الأماكن العامة لمدح "خطابي في أكسفورد". ظل كتابي حول نفس الموضوع بعنوان "عصر الظلام"، على قوائم أفضل الكتب مبيعا في الهند منذ نشره قبل ثلاثة أشهر. النسخة البريطانية من الكتاب تحت عنوان "الإمبراطورية غير المشرفة: ماذا فعل البريطانيون للهند" ستكون من أفضل الكتب خلال الشهر المقبل.
ونظرا لمواقف الهند منذ فترة طويلة من الاستعمار، لم أكن أتوقع مثل هذه الاستجابة. لكن ربما كان ينبغي توقعه. على كل حال، استولت بريطانيا على الهند : واحدة من أغنى الدول في العالم -ما يمثل 27٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 1700– وبعد أكثر من 200 عام من الحكم الاستعماري، جعلتها واحدة من أفقر دول العالم.
كما دمرت بريطانيا الهند من خلال النهب والمصادرة، والسرقة المطلقة – كل هذا في مناخ من العنصرية العميقة والسخرية غير الأخلاقية. وبرر البريطانيون أفعالهم بالنفاق المذهل، مستعملين القوة الغاشمة.
ودعا المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت القهر الاستعماري البريطاني في الهند "أكبر جريمة في التاريخ كله". سواء وافق أحد على ذلك أم لا، فمن الواضح أن الإمبريالية لم تكن، كما ادعى بعض المدافعين البريطانيين المخادعين، مؤسسة مُحبة للغير.
أما بريطانيا فقد كانت تعاني من نوع من فقدان الذاكرة التاريخي بشأن الاستعمار. كما أشار موني محسن، كاتب باكستاني مؤخرا، فالاستعمار البريطاني غائب بشكل واضح من المناهج الدراسية في المملكة المتحدة. طفلي محسن، على الرغم من تعلمهما في أفضل المدارس في لندن، لم يقدم لهما ولو درس واحد حول التاريخ الاستعماري.
ويندهش اللندنيون من مدينتهم الرائعة، جاهلين الجشع والسرقة والنهب الذي أدى إلى ازدهارها. ويجهل العديد من البريطانيين حقا الفظائع التي ارتكبها أسلافهم، وبعضهم يعيش في وهم بأن الإمبراطورية البريطانية كانت نوعا ما في مهمة حضارية لتمكين المواطنين الجاهلين.
هذا يفتح الطريق للتلاعب بالروايات التاريخية، حيث المسلسلات التلفزيونية، ورومانسيتها الرقيقة عن "حاكم الهند"، الذي يقدم صورة وردية عن الحقبة الاستعمارية. وقد كتب العديد من المؤرخين البريطانيين كتبا ناجحة بشكل كبير تمجد الفضائل المفترضة للإمبراطورية.
في العقد أو العقدين الماضيين، كتبت قصص شعبية من قبل أمثال نيال فيرغسون ولورانس جيمس بعبارات متوهجة وممجدة للإمبراطورية البريطانية. مثل هذه القصص لا تعترف بالفظائع والاستغلال والنهب والعنصرية التي قام عليها المشروع الإمبراطوري.
كل هذا يفسر -ولكن لا يبر- جهل البريطانيين. ولا يمكن فهم الوقت الحاضر، من حيث المقارنات التاريخية البسيطة، بتجاهل دروس التاريخ. إذا كنت لا تعرف من أين أتيت، كيف ستعرف إلى أين أنت ذاهب؟
هذا لا ينطبق فقط على البريطانيين، ولكن أيضا على زملائي الهنود، الذين أظهروا قدرة غير عادية ليسامحوا وينسوا. وبقدر ما يجب أن نغفر، لا ينبغي لنا أن ننسى. بهذا المعنى، كان رد الفعل القوي لخطابي عام 2015 في اتحاد أكسفورد مشجعا تماما.
اليوم، العلاقة الحديثة بين بريطانيا والهند -وهما بلدان سياديان ومتساويان- مختلفة جدا بشكل واضح عن العلاقة الاستعمارية في الماضي. وبينما ضربت مبيعات كتابي الرقم القياسي في مكتبات دلهي، تستعد رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لزيارة الهند للحصول على استثمارات. وكما ذكرتُ في كثير من الأحيان، لا نحتاج إلى السعي للانتقام لأجل التاريخ. التاريخ ينتقم بذاته.
اضف تعليق