الركائز التي تقوم عليها الوقاية الفعالة من الأوبئة، والتأهب لها، والاستجابة لها معروفة تماما: فلابد من تبادل المعرفة والتكنولوجيا ذات الصلة بوضوح، ولابد من إنتاج اللقاحات والاختبارات والعلاجات على نطاق واسع. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من توفير التمويل الكافي على المستويين الوطني والدولي، ولابد من...
بقلم: ويني بيانييما، جوزيف ستيغليتز

نيويورك- في وقت سابق من هذا العام، حذر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قائلا: "إن التاريخ يعلمنا أن ظهور الوباء القادم هي مسألة متى، وليس ما إذا سيحدث ذلك". وهو على صواب في ذلك. ولهذا السبب من المهم جدا أن تنجح حكومات العالم في التفاوض على اتفاق بشأن الوقاية من الأوبئة والتأهب لها، والاستجابة لها. ولم يتمكن المفاوضون من الالتزام بآخر موعد نهائي للتوصل إلى اتفاق. إنهم يحتاجون إلى المزيد من الوقت، ولكن يجب أن يدركوا أيضاً أن الوقت ينفذ.

ونحن نعتقد أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق يحمي العالم إذا استوعبت الحكومات الدروس المستفادة من وباء الإيدز وكوفيد-19. ولكن البعض يتردد في ذلك.

وتبدأ مسودة الاتفاق بشأن الوباء ببيان جريء وملهِم يؤيد التضامن والإنصاف وحقوق الإنسان. وتدعم هذه المبادئ الوقاية من الوباء والاستجابة له بفعالية؛ وتضمنت نسخ الاتفاق التي اقتُرحت في وقت سابق التزامات تُلزم الحكومات بتنفيذ هذه المبادئ. ولكن المفاوضات خلقت ضغوطا للتخفيف من العديد من هذه الالتزامات، لذا، فإن عددا من مسودات الاتفاق المقترحة لن تضمن أن تكون الاستجابة للوباء القادم أقوى من الاستجابة لفيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).

وحتى الآن، اتسمت المفاوضات بالانقسام بين الشمال العالمي والجنوب العالمي- وهو نفس الانقسام الذي أعاق الاستجابة لجائحة كوفيد-19. إذ تشير البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى الحاجة إلى التزامات ملزِمة لضمان إنتاج التقنيات الطبية وتوزيعها على نطاق واسع في المرة القادمة. ولكنها واجهت معارضة من بعض البلدان الغنية بخصوص هذه النقطة، مع أنه من مصلحة الجميع ضمان العدالة والمساواة فيما يتعلق بالوصول الشامل إلى المنتجات، بما في ذلك أدوات التشخيص واللقاحات اللازمة للتغلب على الأوبئة.

ولا ينبغي أن تكون المنتجات الصحية نادرة: فالإنتاج المتنوع جغرافياً يمكن أن يساعد في ضمان وفرة العرض. بيد أنه في كثير من الأحيان، بعد أن صبت الحكومات الأموال العمومية في السعي وراء تحقيق الإنجازات الطبية المنقذة للحياة، سُلمت الحقوق الحصرية الخاصة باللقاحات والعلاجات التي توصلت إليها إلى شركات الأدوية الخاصة. والنتيجة الحتمية هي أن الجرعات لا توفَّر إلا للدول التي تستطيع أن تدفع أسعارا مرتفعة بالمقابل، مما يجعل البلدان الفقيرة تكافح من أجل تأمين اللقاحات والاختبارات والعلاجات في الوقت المناسب. وهذه الندرة المميتة ليست خللاً في النظام؛ بل هي سمة مميزة للاحتكارات الخاصة.

واستغرق زعماء العالم وقتا طويلا في إدراك ذلك خلال جائحة الإيدز. إذ في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، توفي 12 مليون أفريقي بسبب الإيدز بينما كانوا ينتظرون حصولهم على الأدوية المنقذة للحياة، التي كانت متاحة على نطاق واسع للناس في شمال الكرة الأرضية. ثم بدأ الجنوب العالمي في إنتاج المزيد من الأدوية الجنيسة بأسعار معقولة، وانخفضت تكلفة العلاج من أكثر من 10 آلاف دولار لكل مريض سنويا إلى أقل بكثير من 100 دولار. والآن، يحصل ثلاثة أرباع الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية على العلاج الذي يحتاجونه ليعيشوا حياة طويلة ومكتملة. وإذا أصبح الحصول على علاج الإيدز مضمونا للجميع، فسوف يتمكن العالم من القضاء على الإيدز باعتباره تهديدا للصحة العامة بحلول عام 2030. وفضلا على إنقاذ الملايين من الأرواح، فإن هذا من شأنه أن يعزز الاستقرار العالمي، والأمن الصحي، والنمو الاقتصادي، وأن ينعكس إيجابا على البلدان ذات الدخل المرتفع أيضا.

وكان متوقعا أن تساهم هذه الدروس التي تعلمناها بشق الأنفس في تشكيل الاستجابة لفيروس كورونا. ولكن هذا لم يحصل. وبدلا من ذلك، مُنحت شركات الأدوية احتكارات اللقاح، لذلك سلمت الجرعات إلى البلدان الغنية أولا، مما جعل البلدان الفقيرة غير قادرة على تأمين الإمدادات من اللقاح- وكانت النتائج مأساوية. وكان من الممكن أن ينقذ إطلاق لقاح كوفيد-19 بقدر أكبر من الإنصاف حياة 1.3 مليون شخص في السنة الأولى فقط. وهذا لا يشمل الخسائر الفادحة غير المباشرة في الأرواح والصحة الناجمة عن إعادة توجيه الموارد الصحية نحو حالات كوفيد-19.

وبالإضافة إلى التكاليف البشرية الباهظة، فقد كانت هناك تداعيات اقتصادية خطيرة. ويفيد أحد التقديرات أن عدم المساواة في اللقاحات كلف الاقتصاد العالمي 2.3 تريليون دولار. وفي نهاية المطاف، كانت بلدان الشمال العالمي تلعب لعبة ذات حصيلة سلبية: فالأرباح المتزايدة لقِلة من شركات الأدوية وعدد قليل من أباطرة صناعة الأدوية المليارديرات ضئيلة بالمقارنة مع الخسائر التي تكبدها الجميع.

إن الركائز التي تقوم عليها الوقاية الفعالة من الأوبئة، والتأهب لها، والاستجابة لها معروفة تماما: فلابد من تبادل المعرفة والتكنولوجيا ذات الصلة بوضوح، ولابد من إنتاج اللقاحات والاختبارات والعلاجات على نطاق واسع. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من توفير التمويل الكافي على المستويين الوطني والدولي، ولا بد من إزالة حواجز الملكية الفكرية التي تمنع الشركات المصنعة الآمنة والقادرة من المساهمة في الاستجابة للجائحة.

إن العمل التطوعي ليس كافيا. وقد أدركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذه الحقيقة واتخذا تدابير انتقائية لفرض تبادل التكنولوجيا والمعرفة. ومن الضروري أن ينص الاتفاق بشأن الوباء على مزيد من التدابير، بما في ذلك فرض التزامات ملزِمة تلزم جميع البلدان بتقاسم الموارد والمعرفة ذات الصلة بوضوح أثناء الوباء. وبدون هذه الالتزامات، لن يتمكن العالم من تحقيق أهداف الاتفاق.

ولا يمكننا الاعتماد على حسن نوايا شركات الأدوية حتى نكفل إعطاء الأولوية للصحة العالمية بدلا من تحقيق الأرباح. فخلال أزمة كوفيد-19، دفعت الضغوطات العامة الشديدة شركتي (BioNTech بيونتيك وModerna موديرنا) إلى التعهد بإطلاق عملياتهما في أفريقيا. وكان ذلك تنازلا بسيطا من شركتين حققتا، إلى جانب شركة فايزر، 1000 دولار في الثانية من عمليات توفير اللقاحات للدول الغنية أولاً. ولكن تبين أن حتى هذا فاق طاقتهما. والآن بعد أن تحول تركيز الإعلام إلى مواضيع أخرى، قلصت شركة "بيونتيك" خططها المتعلقة بالإنتاج الأفريقي بقدر كبير، وأجلت شركة "موديرنا" خططها بالكامل. والدرس واضح هنا: لا يمكن للحكومات أن تضمن الوصول إلى المنتجات الصحية إلا عن طريق فرض ذلك.

وبعد أن عشنا تجربة وباءين مميتين- حيث شاهدنا كما شاهد كثيرون، الأصدقاء وأفراد العائلة يعانون ويلقون حتفهم- لم نعد نستحمل تخيل حدوث هذا الدمار من جديد. ويعطي الاتفاق بشأن الوباء الأمل في إيجاد طريق أفضل وأكثر إنصافا للمضي قدما في هذا الصدد. وللنجاح في ذلك، يتعين على القادة أن يدعموا خطابهم النبيل بضمانات قوية تكفل أن نطبق الدروس التي تعلمناها من الوباء الأخير في الاستجابة للوباء القادم.

* ويني بيانييما، هي المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، ووكيلة الأمين العام للأمم المتحدة.

** جوزيف إي. ستيغليتز، كبير الاقتصاديين الأسبق في البنك الدولي والرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي، وأستاذ جامعي في جامعة كولومبيا، وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ومؤلف لكتاب صدر أخيرا بعنوان: الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق