كلما يطوي الفساد في العراق أياماً أخرى من عمره، كلما توغل الناس في طباعهم الانفعالي، وبدلاً من ان يشكل هذا الانفعال مصدر قلق يدفع الفاسدين للإقلاع عن هذه الظاهرة، لشدّة ردود الفعل والمتابعة، نراه يخلق واقعاً رديفاً لما يخلفه الفساد نفسه من واقع اجتماعي واقتصادي مزري، وهذا بحد ذاته يزيد في تعقيد منظومة المشاكل لدينا في العراق.
وبالرغم من ابتكار الادب السياسي العراقي لمصطلح "بوصلة الاصلاحات"، لا نلمس أثراً لهذه البوصلة او علائم لها في الواقع، لفقدان المعايير الثابتة لإصدار الحكم على هذه القضية او ذاك الانسان، بغض النظر عن صفته ومكانته، وإلا؛ كيف يكون الاعتماد على البوصلة – الحقيقية وليست المستعارة- التي يستخدمها ربان السفينة في تحديد الاتجاه الصحيح الى بر الأمان، ما لم تكن لديه معايير ومقاييس خاصة على ضوئها يصدر احكامه لطاقم السفينة لاتخاذ اللازم؟
وقضية استجواب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، وخروجها السريع من ساحة المزايدات السياسية ودخولها مباشرة الى قلوب وضمائر شريحة لا بأس بها من المجتمع، تمثل ضربة جديدة غير مقصودة – ربما- من قبل الجماهير الى مشروع الاصلاحات، فالوزير المستجوب والمتهم بالفساد، تمكن خلال ساعات معدودة من التحول الى وزير مظلوم وسيف بتار للفاسدين، وربما يكون منصبه العسكري كوزير دفاع، وارتدائه البزة العسكرية خلال جلسة الاستجواب العاصفة والمثير في مجلس النواب، مدخلية في صناعة معايير ومقاييس خاصة في أذهان البعض.
هنا لا تهمنا كثيراً، حقيقة نوايا وزير الدفاع الذي لم يشفع له سلاح الفضيحة في الاحتفاظ بمنصبه كوزير دفاع، وما اذا كان حقاً يروم محاربة الفاسدين، لأن هذا من شأن العمل الجماعي وليس الفردي، إنما الذي يهمّ الناس الوصول الى رؤية واضحة ومعايير محددة لتلك البوصلة، فهل بات نشر الغسيل الوسخ لهذا وذاك، يضفي على الفاعل صفة النزاهة والقداسة؟
انها وسيلة طالما استخدمها نواب و وزراء وحتى مسؤولون مدنيون وعسكريون خلال السنوات الماضية، وهي قديمة – جديدة؛ "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وهي من شيم الساسة وما عهدته دهاليز السلطة، حيث الفضائح المالية والسياسية والاخلاقية، فما الذي يستفيده الناس؟
أين مليارات الدولارات التي نُهبت من وزارات التجارة والكهرباء والدفاع، وهي أموال ربما تكفي لأن تسد نفقات شعوب وليس الشعب العراقي وحده؟ ثم أين السراق واللصوص الذين أسقط في أيديهم في مجلس نواب الشعب العراقي؟
وأجدني ملزماً بالإشارة الى دهليز واحد من تلك الدهاليز المظلمة في أروقة الحكم، حيث يتم بيع وشراء الوثائق الدامغة والتسجيلات الصوتية والصور لهذا الوزير او ذاك النائب، ولو لم تكن تلك الوثائق التي نشرت على مسامع العراقيون طيلة السنوات الماضية، من افرازات تلك الدهاليز، ولم تكن نتاج تصفية حسابات، لما تمكن هذا الفاسد وذاك المختلس من الخروج من البرلمان مرفوع الرأس وهو يحكم ربطة عنقه ويشد أزرار سترته لا يلوي على شيء، ثم يتفاجأ الناس جميعاً بمغادرته العراق بكل سهولة عائداً من حيث جاء.
والذين يجب ان نسأل عنهم ايضاً؛ أولئك النواب المنتخبون الذين طالما لوحوا عالياً بالوثائق الدامغة وصرخوا وأفحموا وعبئوا الرأي العام ثم كسبوا التأييد والمحبوبية الجماهيرية، أين هم اليوم؟ وهل انتهى دورهم عند تلك اللحظة في جلسة الاستجواب لهذا الوزير وذاك؟! أين هم من وسائل الاعلام التي تمثل ضمير المجتمع ولسان الرأي العام، وأين هم من مؤسسات المجتمع المدني والمراكز الاكاديمية والبحثية التي تمثل القواعد لتشكيل الوعي والثقافة؟
ليس من السهل التعرّف على المعايير والمقاييس الصحيحة للتعامل مع بوصلة الاصلاحات، وهل يجهل أحد قيم الصدق والأمانة والعدل وقيم اخلاقية و انسانية؟ إنما المشكلة في التبني والالتزام، وهذا ينسحب على "بوصلات" أخرى، لاسيما على صعيد المجتمع، فمن الذي تتجسد فيه القيم الاخلاقية والانسانية؟ وهل للسلوك والثقافة وطريقة التفكير، دخلٌ في تكوين هذه الشخصية التي يبحث عن الناس؟ أم إن مجرد مبادرة معينة ذات صبغة انسانية تكفي لإضفاء صفة "الانسانية" او "الاخلاقية" على انسان ما، كما يفعل نجوم الطرب والسينما والرياضة وحتى عارضات الازياء وأشباههن، بحثاً عن الطابع الايجابي المحبب الى النفوس والفطرة الانسانية.
إن الانفاق السخي على الايتام والاطفال المصابون بأمراض خطيرة وغيرها من المبادرات الانسانية، لا غبار عليها، بل هي محمودة في ذاتها، كما هو الحال في ذلك السياسي الذي يكشف الفاسدين للناس، إنما العبرة في النتائج، حيث تلغى التناقضات ويكون كل شيء ممكناً، فالممثل – مثلاً- الذي يعيش الجحيم في حياته الزوجية، يمكن أن يكون مثالاً يحتذى به لافراد الأسرة الجالسين قبالة جهاز التلفاز، كما يمكن للانسان الفاسد والمشبوه، داعية للنزاهة والمطالبة بحقوق الضعفاء والمحرومين.
اضف تعليق