حرية الفرد الحقة تتمشى مع حرية الدولة، فعندما يطيعها فهو يقدم فروض الولاء للسلطة التي تحمي مصالح المجتمع الدائمة من المصالح الذاتية الممثلة في الهيئات الأخرى التي تدخل في نطاق سلطة الدولة؛ إذ إن الدولة هي الهيئة العليا التي بين طياتها تجد الهيئات الأخرى معنى وجودها...
ظهرت النظرية المثالية في الدولة لعلاج هذا العيب، والرأي الذي سعت إلى إثباته مبنيٌّ على أربعة أسس متصلة بعضها ببعض، فقد أنكرت أولًا أن الحرية معناها انعدام الضوابط، وهي تعتبر هذا الرأي سلبيًّا مبالغًا في السلبية، وقد يكون انتفاء الضوابط من ظروف الحرية، ولكنه ليس روح الحرية بذاتها.
وهي تؤكد أن هذا الروح هو الحق في تقرير المصير، فالواجب هو أن أحكم نفسي بنفسي، وإذا أنا لم أُطِع الغير لكي أنجو من العبودية؛ فلا بد لي من طاعة نفسي لكي تكون حريتي ذات هدف إبداعي.
ولكن تقرير المصير ليس معناه طاعة أية رغبات عارضة تطرأ على ذهني، فإن عبودية الشخص للحوافز المفاجئة هو أسوأ صور الرق. ويجب أن يكون معنى الحرية حسب مدلول تقرير المصير وهو أن يسيطر على ذلك النظام الثابت المستمر من الرغبات التي تتمثل فيه ذاتيتي الحقيقية. فهناك أهتدي حقيقة إلى ذاتيتي، وهناك أجد أعظم فرصة ممكنة لتحقيق ذاتيتي على أفضل وجه، وأنا أكون حرًّا حقًّا عندما أطيع القواعد التي وضعتها لنفسي في حدود الغرض الأسمى الذي أسعى إلى إدراكه. فهذا الغرض هو الخير الحقيقي لي وفي طاعتي لمقتضياته أجد حريتي؛ لأنه بغير هذا الهدف الذي أرمي إليه أكون كالسباح الذي تتقاذفه أمواج بحر لم يرتَدْه أحد، وأتحرك بدون اتجاه، وأكون عبدًا لعوامل لا تمكنني السيطرة عليها.
ويجب ألا أفعل ما يمليه الحافز الأعمى، بل أفعل ما تفرضه ذاتي الحقيقية، ولكن ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ إن رد الرجل المثالي هو الرد الحيوي في هذا الصدد، وتتمشى إرادتي الحقة مع أغراض تقاليد المجتمع العامة التي أنتمي إليها، وإن هدفي في الحياة ليس من صنع يدي، لقد شكلته مجموعة الأغراض والأهداف الموجودة في المجتمع الذي وجدت نفسي فيه، فإذا أصبح هذا الهدف في عزلة، فسأكون عاجزًا عن تحقيق أهداف سامية، ولكني أستطيع ذلك عن طريق العلاقات الاجتماعية التي تعطي لحياتي معنى وتقوم بتوجيهها، وإن إرادتي التي لو لم تكن، والتي لن تسعى إلى أكثر من إشباع لا يتمشى مع المنطق للدافع المباشر الذي إن كان في عزلة فسيكون خاليًا من أهداف دائمة.
إن إرادتي سيحولها الإطار الاجتماعي الذي وُضعت فيه، ونجد كما جاء في تعبير بوزانكيه «أشياء لها من القوة على أن تجعل من الحياة حياة تستحق الشخصية أن تعيش فيها هذه الشخصية التي تتحكم في هذه الأشياء.»
إننا كمخلوقات عاقلة لا نستطيع الهروب من الالتزامات الموجودة في ذلك الإطار الذي أشرنا إليه، إذ إنها تمثل شطرًا كبيرًا من وجودنا، وهي تكون -سواء اعترفنا بذلك أم لم نعترف- الأهداف الدائمة لذلك السعي لتيسير تحقيقها، هذا السعي الذي يزيد من حياتنا جمالًا ويكسبها معنى ولونًا. وطالما لا تتسنى الحياة للمجتمع إلا عندما تنفذ هذه الالتزامات بطريقة جبرية عندما نضع ذلك الهدف نصب أعينها، فإن المؤسسات التي تطوي هذه الالتزامات بين ثناياها لها دعوى واضحة بالنسبة لولائنا؛ إذ إننا عندما نطيعها نتمتع بالحرية كاملة، وعندما نطيعها فإننا نحقق هذه الإرادة الحقة التي تمكننا من تنظيم أنفسنا لتحقيق أعلى مراتب الرضا التي نبتغيها، وإننا لنسلم بأن العبودية للحوافز الطافرة مما لا يليق بالمخلوقات العاقلة، وبدلًا منها نلتزم بطاعة قواعد السلوك التي يعتبر الولاء لها هو الشرط اللازم للحياة السامية المهيأة للإنسان وتكمن حريتنا في طاعة فضائل المجتمع.
ولكن ما هي النواحي التي تحدد مضمونها؟ فوسط ذلك الخضم من المطالب المتصارعة لولاء الفرد. هذا الولاء الذي يواجهه في معيشته، كيف له أن يعرف ذلك الذي يجسم إرادته الحقة؟ فهو عضو في هيئات لا حصر لها ولا عدد، كالأسرة والقرية والنقابة والكنيسة - كل ذلك يسير في اتجاهات متناقضة. فما هو الأساس الذي يمكن للفرد الاعتماد عليه حتى يدرك تمام الإدراك أنه بذلك قد اختار حريته؟ أما الرد المثالي فهو الرد الذي لا مناص منه، وهو أن حرية الفرد الحقة تتمشى مع حرية الدولة، فعندما يطيعها فهو يقدم فروض الولاء للسلطة التي تحمي مصالح المجتمع الدائمة من المصالح الذاتية الممثلة في الهيئات الأخرى التي تدخل في نطاق سلطة الدولة؛ إذ إن الدولة هي الهيئة العليا التي بين طياتها تجد الهيئات الأخرى معنى وجودها، هي «المنظم الوحيد للحقوق، وحامي حمى القيم الأخلاقية، فكلما تمشت إرادتنا مع إرادتها أمكننا أن نحقق تلك الحقوق، وتلك القيم الأخلاقية في حياتنا، وفضلًا عن ذلك فإن هذا التحقيق هو الهدف الحقيقي للحرية المعقولة».
وإن الإنصاف لوجهة النظر هذه يقتضي الإشارة إلى إحدى النقط التي تؤكدها قبل المضي في دراستها، ولا ينادي الرجل المثالي بأن الدولة هي المهيمنة على ضمير الفرد، فإذا اعتقدت بوجوب عصيان أوامرها فلدي من شعور بتقدير الواجب ما يؤهلني للقيام بذلك، وفي الحقيقة يجب أن يدفعني عامل أكثر من الرغبة الشخصية إلى التمرد والعصيان «ويجب علي أن أتذكر أنه كلما» دنوت من ذاتيتي، تمشيت مع «العقل الجماعي». وطالما كان هذا العقل الجماعي هو الدولة، فإن لي الحق في أن أثور وأن أتمرد على أساس الاعتقاد العام الذي ينادي بأني أمثل مصالح الدولة الدائمة خيرًا من ممثليها الشرعيين. ويجب عليَّ أن أتذكر المدى الذي ربما أتورط فيه من خطأ التقدير في هذه النظرة، وثانيًا المخاطر التي أتعرض لها في التضحية بالقيم الدائمة للمنظمة الاجتماعية قربانًا لكسب عملي سريع. وعلى العموم، فمن عادة الثائر أن ينسب إلى الدولة أخطاء ترجع إلى ما تقوم به الحكومة من أعمال، فعندما يسعى إلى الإطاحة بالحكومة فهو يعرض الخير الدائم للخطر.
وجدير بالملاحظة أن هذا التأكيد يهدم النظرية المثالية؛ إذ إنه من المعترف به وجود حق وواجب في التمرد والثورة، بالرغم من ممارسة هذا الحق في النادر، وبالتالي فإن ولائي ليس لمؤسسة من المؤسسات، ولكن لأهداف هذه المؤسسة التي تسعى إلى تحقيقها، ولقد طُلب إليَّ أن أطيعها طالما هي تقوم حقيقة بتحقيق هذه الأهداف، وإني لا أعرف ما إذا كانت تقوم بذلك إلا عن طريق دراسة ما تؤديه من عمل، فإذا تيقنت بعد دراستي لها أنها لا تقوم بتحقيقها، فموقفي واضح كل الوضوح. وتتمشى حريتي الحقة مع إرادة الدولة عندما تكون إرادة الدولة «حامية حمى القيم الأخلاقية». فإما أن ينادي الرجل المثالي بأن جميع الدول تقوم بهذا الدور تلقائيًّا، وإما أن هؤلاء الذين يستأثرون بالسلطة ولا يقومون بأي عمل لا يمثلون الدولة.
بيد أنه في الحالة الأولى، لا نجد أي أساس يقوم عليه الحق في الثورة والتمرد، ونجد في الحالة الثانية أنه طالما لم تكن الثورة موجهة ضد الدولة فإنها لا تتيح الفرصة أمام النقد الذي يؤكده الرجل المثالي.
ومجمل القول أن الحقيقة تكمن في أن نظرية الدولة المثالية لم تتوصل -حتى في صيغتها الحديثة- إلى حل مشكلة العلاقة الأساسية بين المثل الأعلى والحقيقة؛ إذ إن الدولة التي تكلم عنها تكمن (كما أصر بوازنكيه على القول) في مجال المدركات، وهي بذلك لم تكن دولة من الدول الحقيقية، ولكنها طريقة للقياس نقيس بها ما تقوم به الدول الأخرى من أعمال، وهي في هذا الوضع لا تقوم بحل مشكلة الالتزام السياسي في العالم الواقعي. فهي تحكي لنا مقومات الدولة التي نقدم فروض الولاء لها. بيد أننا نواجه مشكلة ما إذا كانت الدولة في العالم الواقعي تقوم بتحقيق تلك الشروط التي يترتب عليها استحقاقها.
ولكن إذا وافقنا هيجل على ما يقوله، وأكدنا أن الفرد الحقيقي هو الفرد العاقل، ومهما يكن يجب أن يكون كذلك، فإننا نحرم وجوه الخير الواضحة للجنس البشري؛ إذ إن ذلك الذي يتسم بالشجاعة هو الذي يثبت ويؤكد مثلًا أن الدولة الفرنسية قبل عام ١٧٨٩م، أو أن دولة روسيا القيصرية تستحق الولاء الذي قدمه لها مواطنوها. كما أن أي رأي عن الدولة يؤدي إلى استنتاجات ملتوية - تبدو لأول وهلة على الأقل - أنها متناقضة كل التناقض، فهو لذلك لا يستحق أن نثق به. فهو إما أن يكون مجرد تفسير بُني على ذلك التأكيد الذي يقول: إن كل شيء موجود يعتبر شيئًا صحيحًا، ولا يعتقد في ذلك أحد، وإما أن يكون دراسة تقضي بأن طريقة التغيير يجب أن تسلك طريق الإقناع لا طريق القوة، وتعتبر هذه دعوى مؤداها أن وسيلة الثورة باعتبارها أداة لإجراء التغيير الاجتماعي تعتبر طريقًا غالي الثمن إذا قورن بقيمة نتائجه.
ولكن إذا تغاضينا عن كل ذلك، فإن النظرية المثالية لا تبعث على الرضا، فهي قاصرة من الناحية السيكولوجية ولا سيَّما في تحليل طبيعة الإرادة، وتصبح الحقيقة التي تنادي بها هي أن ما وقع عليه اختياري لأعمله، ولقد أسفت على هذا الاختيار تصبح أساسًا للنظر إلى ما يجد من أسف على أنه شرط أساسي بالنسبة لذاتيتي أكثر من النظر في الاختيار الأول، على أنه أكثر واقعية وأكثر حقيقة، فأنا أكون إرادتي بكل ما فيها من قصور، وإنها تكون تلك الشخصية التي تميزني عن غيري من بقية أفرد الجنس البشري، وإن إرجاع تلك الحقيقة إلى ذلك الجزء من إرادتي وهي متحررة من ذلك القصور الذي يميز جزءًا آخر لتعتبر مجرد ألفاظ بليغة؛ لأنني يجب أن أمثل ذاتيتي. وتوحي -كما يوحي المثاليون- بأني أستطيع أن أقوم بما تفصح عنه شخصيتي عندما أحدد ما يحدده المجتمع الذي أنتمي إليه، ومعنى ذلك أنني أخطئ في تقدير طبيعة الشخصية.
وما من شك في أن وجهة النظر المثالية قد اعتراها الضعف والوهن حتى إنها عجزت عن إدراك طبيعة الشخصية.
ولا تكمن أهميتها في عزلة نهائية نمر بها كل يوم، ولكن في المساهمة التي تهبها هذه العزلة لحياة الكل حيث يشاطر فيها الفرد. وعلى ذلك يمكن القول بأن عزلتي غير حقيقية، أي إنها تكون وحدة مع عزلة الجميع الذين يمرون بتجربة مشتركة أمر أنا أيضًا بها، بيد أن النقطة التي أهملناها هنا هي النقطة الحيوية التي تقول: إن الخبرة المشتركة لن تمثل نفسها في شخص ما كما تتمثل في شخص آخر، فكارل ماركس ومستر جلادستون لم يستخلصا نفس النتائج من الحياة الاجتماعية التي عاشا فيها. فلا يصدر الاتحاد عن المشاركة في عالم مشترك، بل هو يصدر عن وجهة نظر واحدة حول الأعمال التي يهيئها ذلك العالم المشترك. ولا يصبح للتاريخ أي معنًى ما لم نعتقد أن الأفراد يجوز اختلافهم حول الأفكار الموجودة في ذلك العالم. فليس الاتحاد وليد شيء يُمنح، لقد خرج إلى حيز الوجود؛ لأن الأفراد أدركوه عن طريق بحثهم عن أهداف متشابهة، وهي ناحية خاصة بي، بمعنى أنه لا يدرك معناها أحد عدا ما أكتبه هنا.
وتكمن أهمية هذه النظرة في أنها تمكننا من نبذ الفكرة المثالية عن الحرية؛ إذ إنه عندما يُنظر إلى الشخصية على أنها ليست واقعية في انعزالها، ولكن على أنها تشترك مع شخصيات أخرى، نجد أن الإكراه هنا لا يُقصد منه استخدام الدولة للقوة ضد الفرد، ولكن فرض الإكراه على الإرادة التي تتوق إليها ذاتيته الحقيقية، ومن هذه الزاوية لا نجد أية مشكلة عن الحرية؛ إذ عندما يكره الفرد بهذه الطريقة، فهو في الحقيقة قد أبدى استعداده لقبول ما تتوق إليه ذاتيته الحقة، ولكن نجد كثيرًا منا ينادون بأن الرجل الثوري لا يدرك مطلقًا أن الحكومة التي تسجنه هي في الواقع تمنح الحرية لذاتيته الحقة. فإن ما يمر به من تجارب هو الإكراه، وهو ينظر إلى ذلك على أنه حرمان من الحرية، فإذا أخبرناه أنه قد تمتع بالحرية عندما حيل بينه وبين تحقيق الغرض الذي ينظر إليه على أنه «علة وجوده» فمعنى هذا أنك تسلب الألفاظ معناها.
وليس هناك من رد على هذه النظرة يبعث على الرضا عندما نجاري بوزانكيه فيما قاله من أن نبذ المثالية يجعل من المتعذر تفسير تناقض الحكم الخاص. وإني أشعر بالحرية في مجتمع يمارس سلطة الإجبار على نفسي للحد الذي أتقبل فيه الأهداف التي من أجلها يقوم المجتمع بممارسة هذه السلطة، بل وربما أتنازل عن حقي في مقاومة هذه السلطة بكل سرور في بعض الأحيان؛ لأني -لكي أعادل كفتي الميزان أتخذ وجهة النظر التي تقول: إن خير النواحي العامة التي يسعى المجتمع لتحقيقها تفوق نواحي الشر التي ينطوي عليها ذلك الهدف الذي أمقته وأبغضه. ولكن ليس معنى ذلك أني أرحب بالإجبار والإكراه؛ لأني أجد فيه (إذا قمنا بتحليله) الأغراض الحقيقية التي أسعى إلى تحقيقها، أما ذلك الننكنفورمست (المنشق عن الكاثوليكية) الذي قام بدفع ضريبة تعليمه طبقًا لقانون عام ١٩٠٢م؛ فهو لم يقم بذلك لأن حريته الحقة قد وافقت على هذا القانون. فهو قد قام بذلك لأنه اتبع وجهة النظر التي تقول: خير لك أن تصبر على قانون عقيم من أن تتحدى السلطة التي تستمد منها جميع القوانين. بيد أن ذلك القرار لم يجعله يشعر بحريته إلا أن ما يتركه من أثر هو إقناعه بضرورة تغيير هؤلاء الذين يمارسون سلطة الدولة لسن قوانين عقيمة.
اضف تعليق