فكلما أهملت الحكومات مؤسساتها العمومية، وابتعدت عن تطبيق القوانين والأنظمة والإجراءات، ولم تلتفت إلى مساءلة المسؤولين والموظفين المخالفين والمقصرين والمتلاعبين بالمال العام، والآخذين الرشى من الأفراد والشركات والمنظمات والدول ظلما وبهتانا، عوض تقديم خدمات مجانية أو خدمات غير قانونية، انعكس ذلك سلبا على جميع المتعاملين مع المؤسسة العمومية...

هناك علاقة وطيدة بين تحسين أداء المؤسسات الحكومية وبين مراعاة متطلبات المستفيدين من خدمات القطاع الحكومي. فكلما عملت الحكومات على تحسين أداء مؤسساتها العامة وتطويرها، من حيث القوانين والأنظمة والإجراءات، ومن حيث تحديد المسؤوليات والمهمات، ومن حيث تعزيز مفهوم المتابعة والتقييم، والمساءلة والمحاسبة، انعكس ذلك إيجابا على جميع المتعاملين مع المؤسسة العمومية من أفراد وشركات ومنظمات ودول، وأدى ذلك إلى نشر ثقافة التمييز والإبداع، وتحقيق رضا المواطنين عموما.

والعكس صحيح أيضا فكلما أهملت الحكومات مؤسساتها العمومية، وابتعدت عن تطبيق القوانين والأنظمة والإجراءات، ولم تلتفت إلى مساءلة المسؤولين والموظفين المخالفين والمقصرين والمتلاعبين بالمال العام، والآخذين الرشى من الأفراد والشركات والمنظمات والدول ظلما وبهتانا، عوض تقديم خدمات مجانية أو خدمات غير قانونية، انعكس ذلك سلبا على جميع المتعاملين مع المؤسسة العمومية، بل يؤثر أول ما يؤثر على الحكومة ومؤسساتها أولا، وعلى مصداقية علاقتها مع مواطنيها والشركات والمنظمات والدول ثانيا. فتفقد رضا المواطنين وتخسر الشركات والدول... وقد أكدت مؤسسة التمويل الدولية (IFC) بأن أي نظام لا يتبع معايير الحوكمة المؤسسية سيكون خارج التصنيفات الدولية المعتمدة من قبل البنك الدولي، وسوف لن يحصل على أية مساعدات مالية.

كما أكدت العديد من الدراسات على أهمية الالتزام بمبادئ الحوكمة وأثرها في زيادة ثقة الشعب في إدارة الحكومة، وبالتالي قدرة الدول على جذب مستثمرين محليين أو أجانب، وما يترتب على ذلك من تنمية اقتصادات تلك الدول. وصاحب ذلك قيام العديد من دول العالم والمنظمات الدولية بالاهتمام بمفهوم الحوكمة، وذلك من خلال قيام الهيئات العلمية، والجهات التشريعية بإصدار مجموعة من اللوائح والقوانين والتقارير والقواعد التي تؤكد على أهمية الالتزام تطبيق تلك المبادئ والقواعد.

لذلك تعد (الحوكمة) أمراً ضرورياً لبناء ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها من خلال رفع كفاءة الأداءً الحكومي، ووضع الأنظمة الكفيلة بالحد من تضارب المصالح، وإعداد أنظمة للرقابة على أدائها، وتصميم هيكل يحدد توزيع كافة الحقوق والمسؤوليات، وتحديد القواعد والإجراءات المتعلقة بسير العمل في الدوائر الحكومية. حيث ترتكز الحوكمة من المنظور الحكومي على المحورين أساسين، هما: الكفاءة والفعالية في إدارة موارد الدولة. وضمان حقوق الأطراف ذات العلاقة، لاسيما المواطنين.

والسؤال هنا لماذا هناك ترابط بين حقوق المواطنين وبين تحسين أداء مؤسسات القطاع العام؟ وما هو مفهوم الحوكمة؟ وكيف يمكن تطبيقه؟ وماهي الآثار التي تترتب عليه؟

لا يكاد يستغني عدد كبير من المواطنين والمقيمين عن التواصل مع المؤسسات العمومية لإنجاز متطلباتهم الضرورية التي تتوقف عليها حقوقهم وواجباتهم ومصالحهم من الولادة حتى الوفاة. فاستخراج شهادة الولادة من اختصاص جهة حكومية، في الغالب هي وزارة الصحة، واستخراج البطاقة الشخصية من اختصاص جهة حكومية، في الغالب هي وزارة الداخلية، واستخراج إجازة العمل أو التوظيف من اختصاص جهة حكومية، في الغالب هي وزارة العمل. وهكذا عند وفاة الشخص يكون على ذوي المتوفي مراجعة وزارة الصحة لإنجاز متطلبات الدفن، كما يُلزم الورثة بمراجعة وزارة العدل والمحاكم المختصة لتقسيم الإرث، وتحديد الحقوق المالية.

وفي العديد من الدول -ومنها العراق- يجد المواطنون أنفسهم في زحمة الإجراءات الحكومية المعقدة تارة، والمستفزة تارة أخرى، فيصعب عليهم إنجاز متطلباتهم ما لم يتمكنوا من التواصل مع أحد الأصدقاء أو المعارف (نظام الواسطة) أو يدفعوا مبالغ مالية (رشوة) لموظفي المؤسسة العمومية أو للوسطاء لتسريع معاملاتهم. رغم أن بعض المؤسسات العمومية -وبالتعاون مع المؤسسات الرقابية- تضع إعلانات ولافتات تحذر من الابتزاز والرشى، وتضع هواتف للتواصل المباشر مع المسؤولين في المؤسسات الأعلى، إلا أن المواطنين لا يثقون بمثل هذه الإعلانات واللافتات، ولا يرون أن أصحابها قادرين على الحد من الفساد الإداري والمالي في تلك المؤسسات.

يقول السيد (رعد) في تظلمه المقدمة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء إن إحدى دوائر التسجيل العقاري في بغداد أوقفت عملية بيع الأرض التي يملكها، لحين التأكد من صحة أو عدم صحة كتاب صادر عن جهة عليا. وقد طُلب منه أن يدفع مبلغا من المال لغض النظر عن الكتاب المذكور، واستكمال إجراءات البيع فرفض. ويقول السيد (عباس) إنه اشترى أرضا زراعية في ديالى، منذ ثلاث سنوات، ولم يتمكن من مداورتها بسبب تشابه الأسماء (في محافظة أخرى) ولم تحسم المعاملة إلى الآن، وُطلب منه أن يدفع مبلغا من المال لغض النظر عن إجراء تشابه الأسماء، ولكنه لا يمتلك المال المطلوب لدفعه للموظف المعني بالمعاملة. ويقول (إسلام) إنه لكي يستكمل إجراءات القرض العقاري في الوقت المحدد، اضطر للتنسيق مع موظفي المصرف العقاري ودوائر البلدية ودائرة التسجيل العقاري وغيرها، ودفع مبالغ نقدية لكل موظف وصلت المبالغ التي دفعها إلى الموظفين إلى نحو (600 ألف دينار عراقي)!

مرت دول كثيرة بمثل ما يمر به العراق، واستطاعت من خلال التعاون مع المنظمات الأممية من الحد من ظاهرة الفساد الإداري والمالي في المؤسسات الحكومية وتسريع وتيرة إنجاز المعاملات، وذلك بتطبيق معايير الحوكمة في النزاهة والشفافية والمسألة، وتطبيق المسؤولية الاجتماعية، واعتماد العدالة في تطبيق القوانين والتعليمات بشكل عادل وشفاف.

تٌعرف الحوكمة في المؤسسات الحكومية أنها (مجموعة التشريعات والسياسات والهياكل التنظيمية والإجراءات والضوابط التي تدار بها المؤسسات الحكومية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بكفاءة وفعالية وبأفضل الأساليب المهنية والأخلاقية بنزاهة وشفافية طبقا لآليات متابعة وتقيين ومساءلة، لتقديم الخدمات الحكومية للمواطن)، كما تعرف أنها (المحافظة على المال العام، وتقديم وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وضمان حقوقهم، وتحقيق رضاء المواطنين عن الخدمات المقدمة، والتخطيط ومراجعة القرارات وتحديد طرق قياس الأداء، والتحسين والتطوير، وتحديد معايير وقوانين ثابتة وعادلة تتميز بالشفافية والوضوح، ودعم وتطوير المنظومة الرقابية ككل، ورفع مستوى الإفصاح والشفافية وتحقيق مبدأ النزاهة، والقضاء على الفساد المالي والإداري، وتحسين قدرات وأداء المؤسسات الحكومية..)

ويكاد يجمع الباحثون والكاتبون حول الحوكمة أنها تقوم على أربعة أسس رئيسة هي (العدالة، وتحديد المسؤولية بدقة، والمسائلة والمحاسبة، وأخيرا الشفافية (الصدق والأمانة). وهذا المعنى للحوكمة يتفق مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية في حفاظها على المقاصد، فالمال يعد أحد المقاصد الخمس التي يجب حفظها وحمايتها بكل الطرق والسبل المشروعة، هذا فضلا عن موقف الإسلام من قيم العدالة والصدق والأمانة والحث عليهما بشكل عام، ناهيك عن موقف الإسلام من الكذب وشهادة الزور فهي من الكبائر.

ففيما يتعلق بالعدالة؛ فلا شك أن العدالة من أهم الأسس التي تقوم العقود الشرعية عليها، وذلك ما نجده في آيات عديدة في القرآن الكريم منها قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ) وقوله تعالى (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) وقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)

وفيما يتعلق بالمسؤولية؛ فإن تحديد المسؤولية بدقة أمر مهم وقد حددتها الشريعة بشكل دقيق، ويساند ذلك عند الفرد المسلم الدافع الديني، لأن أيّ مسؤولية يتحملها المسلم بناء على تعاقد مع غيره لا يكون مسؤولا فقط أمام من تعاقد معه إنما هو مسؤول أولاً أمام الله، عزّ وجل، الذي أمر بالوفاء بالعقود.

وفيما يتعلق بالمساءلة؛ فقد وضعت الشريعة الإسلامية في تنظيمها لعقود المعاملات أسسًا لمحاسبة كل طرف على مدى التزامه بأداء ما عليه من واجبات في العقد، وقررت عقوبات حاسمة لمن يخلّ بها، والأمر لا يقتصر على الجزاء الشرعي أو الإداري أو القضائي، بل يستشعر المسلم الجزاء من الله، عز وجل، خاصة في الحالات التي يتمكّن فيها الإنسان من الإفلات من رقابة البشر والعقوبات الإدارية.

وفيما يتعلق بالشفافية، والتي تعني الصدق والأمانة والدقة والشمول للمعلومات التي تُقدَّم عن أعمال الشركة للأطراف الذين لا تمكنهم ظروفهم من الإشراف المباشر على أعمال الشركة التي لهم فيها مصالح للتعرف إلى مدى أمانة وكفاءة الإدارة في إدارة أموالهم، والمحافظة على حقوقهم وتمكينهم من اتخاذ القرارات السليمة في علاقاتهم بالشركة،

وفي المحصلة فان غاية الحوكمة في القطاع العام هي تعزيز ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها من خلال تحقيق الأهداف الآتية:

1. زيادة نسبة رضا المواطن عن الخدمات التي يقدمها القطاع العام.

2. تحقيق مبدأ المحاسبة والمساءلة للدوائر الحكومية وموظفيها والالتزام بالقوانين والأنظمة.

3. تحقيق مبدأ النزاهة والعدل والشفافية في استخدام السلطة وإدارة المال العام وموارد الدولة، والحد من استغلال السلطة العامة لأغراض خاصة.

4. تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين.

5. تحقيق الحماية اللازمة للملكية العامة مع مراعاة مصالح الأطراف ذات العلاقة.

6. العمل على تحقيق الأهداف الوطنية الإستراتيجية وتحقيق الاستقرار المالي للدوائر الحكومية.

7. رفع مستوى قدرات الدوائر الحكومية من خلال تعزيز وتطوير الأداء المؤسسي عن طريق المتابعة والتقييم بشكل مستمر.

8. إنشاء أنظمة فعالة لإدارة مخاطر العمل المؤسسي وتخفيف آثار المخاطر والأزمات المالية.

..........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2023
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق