ما هو المال العام؟ ومن له حق الاستفادة من المال العام في الإسلام؟ ومن هي الجهة المخولة بالتصرف فيه؟ وما هي شروط التصرف فيه؟ وماهي قواعد الحماية التي وفرها الإسلام للمحافظة على مال المسلمين؟ وهل سلم مال بيت المسلمين من الإسراف والنهب والاستئثار؟ وماهي العقوبات التي حددها الإسلام...
ما هو المال العام؟ ومن له حق الاستفادة من المال العام في الإسلام؟ ومن هي الجهة المخولة بالتصرف فيه؟ وما هي شروط التصرف فيه؟ وماهي قواعد الحماية التي وفرها الإسلام للمحافظة على مال المسلمين؟ وهل سلم مال بيت المسلمين من الإسراف والنهب والاستئثار؟ وماهي العقوبات التي حددها الإسلام لكل من يستغل المال العام لمصلحته أو مصلحة أشخاص مقربين له؟
لا يهتم أكثرية الناس بشيء كما يهتمون بالمال، فالمال قوام حياة الناس ومعاشهم. وقد عبر الله عز وجل عن ذلك أفضل تعبير، حيث قال:(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أي تحبون جمع المال واقتناءه حبا كثيرا شديدا. والناس مرة يمتلكون المال على سبيل الاستئثار؛ فيكونون أحرارا في إنفاقه على الوجوه التي يرونها فيها مصلحة لهم أو لذويهم، كل بحسب اعتقاده والتزامه الأخلاقي والاجتماعي والديني. وأخرى هم لا يمتلكون المال على سبيل الاستئثار، بل هم مخولون في التصرف فيه للمصلحة العامة بالنيابة عن أبناء الأمة الآخرين. وهو ما يُعرف بـ(المال العام).
وقد حظي المال العام بالأهمية الكبرى، أكثر مما حظي به المال الخاص، كونه لا يتعلق بمالك واحد، وإنما يتعلق بمجموع أفراد الأمة، فهو ملك لهم، وينبغي أن يٌصرف لمصلحتهم جمعيا. وهذا الاهتمام الكبير بالمال العام لا يقتصر على التشريعات الوطنية وحسب، بل تعداها إلى التشريعات الدولية. والسبب الرئيس في ذلك هو أن المال عموما، والمال العام تحديدا هو المحرك الأساس لاقتصاد الدول والشعوب، ويؤثر على مجموع القطاعات التنموية الأخرى، ويترك أثره واضحا على إدارة الدولة، وتسيس الأمة. ولذلك تسعى القوانين الدولية إلى ضبط حركة هذا المال والحد من ظاهرة استغلاله والتصرف فيه من قبل القائمين عليه، سواء كانوا حكاما أو موظفين موكلين فيه، الذين في الغالب يتصرفون في المال العام على غير الوجوه المحددة لهم.
ويُعرف المال العام بأنه كل ما كان مُخَصَّصًا لمصلحة عموم الناس ومنافعهم، أو لمصلحة عامة، كدور العبادة والتعليم والعلاج والأيتام والمسنين والخدمات الاجتماعية المختلفة، والطُّرق والجسور والموانئ، والقناطر والمرافِق العامَّة، ومشروعات البِنْيَة الأساسية للمجتمع، مثل: المياه والكهرباء، والاتصالات والصرف الصحي، والشوارع والطُّرق، والأراضي المختلفة المخصَّصة لمنافع الدولة، مثل: الملاعب والساحات الرياضية، والمعادن المستخرَجة من الأرضٍ عامَّة، والبحار والأنهار ومصافي المياه، والتِّرَع والقَنَوات وغيرها، بالإضافة إلى العملات النقدية. وقد عرفت المادة (71) من القانون المدني العراقي (40 لسنة 1 195) الأموال العامة (تعتبر أموالاً عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو للأشخاص المعنوية العامـة والتـي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانوني).
تعد مسؤولية إدارة المال العام والمحافظة عليه وصيانته، وحمايته من الاعتداء، هي مسؤولية الدولة ممثلة بأجهزتها المختصة والمخولة قانونا بالإشراف على هذا المال أو استعماله بالطرق المحددة قانونا. ومن خلال هذه المؤسسات العمومية يحصل الناس أو أغلبهم على المنفعة العامة، سواء كان ذلك مجانا أو مقابل أجور. ولا تقتصر المحافظة على المال العام على هذه الأجهزة الحكومية إنما يتحمل المواطنون مسؤولية حماية هذه الأموال وصيانتها من التلف أيضا. فقد نصت المادة (٢٧) من الدستور العراق على أن (أولا: للأموال العامة حُرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن.).
يرى الإسلام أن الله عز وجل هو المالك الحقيقي لهذا المال، وقد استخلف الله تعالى بعض الأفراد على المال العام، والناس مكلفون بالمحافظة عليه، حيث إن نفعه يعود عليهم جميعا، دون أن يستأثر أحد به لنفسه، ويعتبر ولي الأمر مكلف من قبل الله تعالى بحماية هذا المال ومن الاعتداء عليه، لما له من القوة والسلطان والأجهزة المختلفة والموظفين العموميين للمحافظة عليه، لأن الاعتداء على المال العام من قبل الموظفين وغيرهم في أجهزة الدولة واستغلال وظيفتهم يهدد الأمن الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي. والناس في الشريعة الإسلامية أيضا مسؤولون عن حماية المال العام ما استطاعوا إلـى ذلـك سبيلاً.
ومع تلك الرؤية الإسلامية للمحافظة على المال العام كونه ملكا للأمة لم يسلم هذا المال من التجاوز عليه، بدأ من اليوم الأول لانتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى حتى يومنا هذا. وكان الحكام والأمراء والرؤساء الذين حكموا باسم الإسلام أو باسم المسلمين ومن نصبوا من الولاة ليحكم البلاد بالنيابة عنه هم أول من تجاوزوا على المال، وأول من جعلوه مالا خاصا لهم ووزعوه على الأقرباء والأتباع والأنصار ليكسبوا ودهم ويتجنبوا سخطهم، بينما ظل عامة المسلمين يئنون تحت وطأة الفقر والحرمان، ولا يجدون ما يسدون به رمقهم وجوعهم.
وقد تعددت صور الاعتداء على المال العام، سواء من الحكام أو من المحكومين على حد سواء. ولعل أبرز صور الاعتداء هو اختلاس المال العام، وجعله مالا خاصا، وتوزيع المال على غير مستحقيه، واستعمال المال العام في الحروب والنزاعات القبلية والعشائرية والمذهبية والحزبية، وفي تأليب الناس بعضهم على بعض، وتنصيب من لا يستحق إدارة البلاد والمحافظة على مال العباد، ناهيك عن عمليات تهريب الأموال العامة إلى بلاد أخرى لغرض الاستثمار الخاص، واستعماله في البقاء في السلطة والحكم.
ولما كان الناس على دين ملوكهم، فقد سلك بعض الناس سلوك الملوك والأمراء والرؤساء في الاستحواذ على المال العام وقضمه، وراحوا يستولون على المال العام من نقود وعقارات وأبنية وغيرها، ويحولونها إلى مال خاص، أو يقصرون منفعة تلك الأموال عليهم دون غيرهم من المواطنين تحت حجج واهية لا تنتمي لروح الإسلام بشي. وقد يظن أو يتوهم بعض الناس أن سرقة المال العام تنحصر في بعض أشكال السطو أو الاختلاس غير أن الأمر أوسع من ذلك بكثير، فالتهرب من سداد مستحقات الوزارات والجهات والهيئات والمؤسسات المملوكة للدولة هو في حكم سرقة المال العام، بل هو سرقة حقيقية وفعلية له، فسرقة الخدمات لا تختلف عن سرقة الأموال والسطو عليها، لأن الخدمات في الحقيقة هي مقومة بمال، فمن يسرق الكهرباء، أو يسرق المياه، أو يتهرب من سداد أية أموال مستحقة عليه للدولة، كمن يسرق المال سواء بسواء، كما أن من يتحايل على صرف ما لا يستحق كمن يقوم بتزوير بعض الأوراق للحصول على دعم لا يستحقه آكلٌ للسحت، لأنه يأخذ ما لا حق له فيه، ويستوي مع هؤلاء في الإثم والمعصية من يعينهم على ذلك أو يغض الطرف عنه، أو يتقاعس عن وضع الأمور في نصابها، أو تحصيل ما أسند إليه تحصيله من مستحقات المال العام.
في الواقع أرسي الإمام علي عليه السلام أثناء حكمه في الكوفة أعظم قواعد لإدارة المال العام والمحافظة عليه، وهذه القواعد والإجراءات الصارمة كانت تبدأ منه هو عليه السلام، ومن المقربين له في النسب، ومن الذين قام بتعينهم وتنصيبهم على إدارة الولايات الإسلامية، حيث كان يؤكد الإمام علي عليه السلام على عدد من القضايا أهمها:
1. إن كلِّ مالٍ موجودٍ بأيدي المسؤول والمتصدي والمتولي لأمور المسلمين هو أمانةٌ، وليس هبةً يحل له التصرف فيها كيفما شاء. يقول الإمام (عليه السلام) لأحد الولاة (وإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ ولَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ، وأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ) وبهذا يكون المسؤول خازناً لهذا المال وليس مالكاً، فالمال لله عز وجل، ولذا أتم الإمام كلامه بقوله (وفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ).
2. على من أؤتمن على المال العام أن يحذر الوقوع في خيانة ما أؤتمن عليه، ولذا كان لسان الوعيد الشديد من الإمام (عليه السلام) على مخالفة ذلك (ومَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، ولَمْ يُنَزِّه نَفْسَه ودِينَه عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِه الذُّلَّ والْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وأَخْزَى، وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ..)، فخيانة بيت المال المسلمين متعددة الجهات فهي خيانة للأمة لأن المال للمسلمين وخيانة لأولياء هذا المال وهو صاحب التفويض بالتصرف في المال.
3. لابد من صرف المال في موارده، فلا يصح من المسؤول الإجحاف وعدم إعطاء الحقوق لأصحابها والحفاظ على بيت المال لا يبرر حرمان من يستحق، ولذا خاطب الإمام (عليه السلام) أحد عماله قائلا له (وانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللَّهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ والْمَجَاعَةِ مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ والْخَلَّاتِ).
4. الحذر من الإسراف، وتقدير المصرف بالضرورة، فلا فرق بين حالتي وفرة المال أو قلته، فعلى الإنسان أن يحذر من الصرف الزائد عن مقدار الحاجة، وطريق ذلك أن يستذكر الآخرة وأنه مسؤول عما يصدر منه من تصرف بين يدي الله عز وجل.
نخلص من ذلك إلى ما يأتي:
1. المال العام هو المال المملوك للأمة كلها، كالموارد والشركات والمؤسسات والمباني والطرق والمدارس والجامعات ووسائل المواصلات، وما يشمل النقود والعروض والأراضي والآليات والمصانع، والانتفاع بهذه الأموال والممتلكات حق للأمة كلها.
2. إن الهدف من وجود المال العام هو تحقيق المصلحة العامة، ومن يتولى أمرها لا يعد مالكاً لها، وليس من حقه التصرف المطلق فيها، بل هو أجير أو مؤتمن عليها أو حافظ لها، وعليه أن يديرها وفق القواعد القانونية والشرعية
3. لا تقع مسؤولية حماية المال العام على أجهزة الدولة وحسب بل هي مسؤولية كل مواطن، فكل من وجد تجاوزا على المال العام، سواء من قبل القائمين عليه، أو من قبل عموم المواطنين عليه أن ينكر ذلك ويرفضه بشتى أنواع الرفض والاستهجان، لأن السكوت عن هذا التجاوز يعطي فرصة لكل من تسول نفسه التعدي على المال العام.
4. يعد الاعتداء على المال العام في الشريعة الإسلامية جرما يعاقب عليه فاعله عقوبات في الدنيا والآخرة، لأنه اعتدى على مال ليس ماله، وتصرف في حق ليس من حقوقه.
5. ومن أجل منع الاعتداء على المال العام ينبغي على الدولة إصلاح الجهاز الرقابي والإداري لديها، بما يضمن توفر الحرص الشديد على المال العام وعدم التفريط به.
اضف تعليق