الغاية من التحول إلى اللامركزية، هو من أجل تجاوز مفاسد المركزية وتحطيم قوالبها الإدارية التي سيطرت على طبيعة إدارة الحكومات سواء كانت المركزية المفرطة أو التفويضية بما يحفظ للإنسان حريته في مجتمع يتشارك كافة أبنائه في السلطة والثروة، وهي ذات الأهداف التي جعلت من اللامركزية...

نتيجة للتطورات التي أحدثتها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية على المستوى العالمي، فضلاً عن التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، زاد الاهتمام بالكثير من المفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الصالح.

وبما أن هذه المفاهيم مرتبطة بالنظام السياسي وطبيعة إدارة الدولة زاد الاهتمام بمفهوم اللامركزية كأحد أهم أنماط الإدارة التي انطلقت منها فلسفة الحكم في الوقت الحاضر، باعتبار أن اللامركزية أداة تنموية تمكِّن من عملية صنع القرار المتعلق بتنمية المجتمع بما يعود بالفائدة على الجميع.

إذ لجأت الدولة ومنذ بدایة نشوئها إلى الأخذ بأسلوب المركزیة الإداریة بهدف تقوية السلطة السیاسیة المركزیة، وبعد أن استقرت الدولة واعتمادها على أساليب الديمقراطية في الحكم، وجدت الحاجة إلى اعتماد أسلوب اللامركزیة الإداریة في مجالات تخص المشروعات والهيئات والمصالح العامة أو في مجالات تخص الوحدات الإقليمية والمحلیة، وبذلك یكون وحدة السلطة الإداریة أو تعددها هو معیار التمییز بین اعتماد كل من أسلوب المركزیة الإداریة أو أسلوب اللامركزیة الإداریة في الدولة.

إذ يرى البعض بأن الغاية من التحول إلى اللامركزية، هو من أجل تجاوز مفاسد المركزية وتحطيم قوالبها الإدارية التي سيطرت على طبيعة إدارة الحكومات سواء كانت المركزية المفرطة أو التفويضية بما يحفظ للإنسان حريته في مجتمع يتشارك كافة أبنائه في السلطة والثروة، وهي ذات الأهداف التي جعلت من اللامركزية مطلباً شعبياً ونخبوياً في العراق للتخلص من سيطرة الحكومة المركزية على أغلب مفاصل الحكومات المحلية، وفي ظل التوجه السياسي الذي تسعى إليه الحكومة العراقية في نقل الصلاحيات إلى الحكومات المحلية، تبرز الحاجة إلى معرفة اللامركزية وطبيعة موائمتها مع الدستور والنظام السياسي العراقي طبقاً لمعطيات المرحلة الراهنة.

كيف أشار الدستور العراقي إلى اللامركزية؟

مثل إقرار الدستور العراقي الحالي عام 2005 نقلة نوعية باتجاه إعتماد الإدارة اللامركزية، فقد تضمن الدستور مواد نصت صراحة على اللامركزية الإدارية، وأشار بشكل صريح في الباب الخامس في الفصل الأول تحت عنوان (الأقاليم) في المادة (116) إلى اللامركزية، وجاء فيها "يتكون النظام الإتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية"، وأشارت المادة (119) إلى حق كل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، وحددت المادة (120) حق كل إقليم بوضع دستور على أن لا يتعارض مع الدستور الإتحادي.

أما المادة (122) فقد أشارت بشكل واضح وصريح إلى اللامركزية الإدارية، إذ أكدت على أن "تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة، بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وينظم ذلك بقانون"، وحددت نفس المادة في الفقرة ثالثاً بأن "المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة يعد الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من قبل المجلس"، فضلاً عن ذلك، فقد نصت المادة (1) على أن "جمهورية العراق دولةُ اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي". وهنا نلاحظ بأن المشرع العراقي في هذه النصوص الدستورية ثبت التشكيلات الإدارية كما هي من حيث المحافظة والقضاء والناحية، وأشار في الفقرة ثانيا من المادة (122) الدستورية إلى اللامركزية ووجوب اعتمادها في الإدارة المحلية.

نصوص دستورية غير واضحة

في الوقت الذي نجد فيه بأن هناك مواد دستورية نصت بشكل واضح وصريح على الإدارة اللامركزية في الدستور العراقي، نجد بعض النصوص الدستورية التي لم تكن حاسمة وواضحة بل جاءت (مطاطية) وغامضة تسمح بأكثر من تفسير وأكثر من دلالة مما خلق نوع من التنازع والإرباك لدى السلطات المحلية من جهة والوزارات الاتحادية من جهة أخرى مثل المواد الدستورية التي جعلت من بعض الاختصاصات مشتركة بين المركز والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم كما نصت عليه المادة (112) من الدستور حول النفط والغاز والمادة (113) حول الآثار والمادة (114) التي حددت الاختصاصات المشتركة بين الحكومات المركزية والإقليمية والمحافظات، كما أشارت المادة (115) من الدستور على أن:

"كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في حالة الخلاف بينهما". وفي هذا الخصوص ربما تكون هناك مواد مطاطية، تقبل التفسير والتأويل بأكثر من إتجاه، مما جعلها بأن تكون عرضة للتوافقات السياسية والحزبية بما يتماشى مع مزاج الأحزاب والقوى السياسية العراقية؛ مما أسهمت بشكل كبير في تغييب تطبيق مفهوم اللامركزية الإدارية واستشراء الفساد المالي والإداري.

بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية

إن وضع الدولة العراقية كما حدده الدستور مبني على شكلين: الأول إتحاد فيدرالي فيه اللامركزية السياسية ويتكون من المركز والإقليم (بغداد وإقليم كُردستان) وربما تكون مع أقاليم مفترقة تؤسس فيما بعد، والثاني: محافظات غير مرتبطة بإقليم تعتمد اللامركزية الإدارية وفقا للمادة (122) من الدستور التي أشرنا لها أعلاه. وعلى الرغم من أن المشرع العراقي ضمن الفيدرالية في الدستور العراقي، إلا أن الإرادة السياسية والحزبية وقفت ضد تطبيقها. فمرة نجد بأن الأحزاب السياسية العراقية تطالب بتطبيق الفيدرالية ومرة نجدها ضد تطبيقها، فضلاً عن ذلك، فأن تطبيق الفيدرالية أو اللامركزية السياسية بحد ذاته يواجه تحديات كبيرة على مستوى التطبيق، وهناك خلاف كبير ودائم بين المركز وإقليم كُردستان سواء فيما يتعلق بإدارة الموارد والسلطات الإتحادية أو فيما يتعلق بالمناطق المتنازع عليها، مما أسهم في تعطيل اللامركزية الإدارية.

مستقبل اللامركزية الإدارية في العراق

على الرغم من أن الدستور العراقي أشار بشكل واضح وصريح إلى مفهوم اللامركزية الإدارية في إدارة الدولة العراقية وأعطى سلطات للمحافظات التي لم تنتظم في إقليم، إلا أن معيار الأخذ بها لا يتوقف على الدستور فقط، فهناك الكثير من العوامل والمؤثرات والتحديات التي من الممكن أن تكون سبباً مباشراً في تحديد مستقبل اللامركزية في العراق. ويأتي الوضع الأمني في مقدمة تلك الأسباب، فما يزال الوضع الأمني في العراق محط تجاذبات سياسية داخلية وخارجية، لاسيما مع استمرار مقومات تلك التجاذبات على المستويين (المحلي والإقليمي)، كذلك ما يزال الفساد المالي والإداري يمثل تهديدا كبيرا لمستقبل اللامركزية، فضلاً عن ذلك، هناك عوامل تتعلق بإرادة الأحزاب والقوى السياسية العراقية في تفعيل وتجميد بعض مواد الدستور، وانعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، وعدم توفر البنى التحتية في أغلب المحافظات العراقية التي من شأنها أن تكون حاضنة قوية لنقل الصلاحيات إلى المحافظات غير المنتظمة في إقليم.

بموازاة ذلك، فإن التغلب على تلك التحديات والعمل على توفير الاستقرار السياسي في العراق وإبعاده عن سياسة المحاور الدولية وإبعاد أمنه عن حالة التجاذبات المحلية والإقليمية، وضرورة تفعيل مواد الدستور المعطلة، لاسيما المواد التي تتعلق بالإدارة اللامركزية ومكافحة الفساد بكل أشكاله، والعمل على تعزيز بناء الثقة السياسية بين الأحزاب والقوى السياسية نفسها، وبين السلطة والمجتمع، فضلاً عن ذلك، لا بد من العمل على إنهاء عملية المحاصصة الحزبية التي تتقاسمها الأحزاب والقوى السياسية على مستوى مجالس المحافظات، والعمل على تهيئة البنى التحتية اللازمة التي من شأنها أن تؤمن عملية نقل الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية.

كل تلك المعالجات من الممكن أن تسهم بشكل كبير في ترسيخ مفهوم اللامركزية بشكل فعلي في العراق. أي بمعنى أن الأخذ باللامركزية سيبقى مرهوناً بمعالجة الأخطاء التي انبنت عليها العملية السياسية بعد عام 2003.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق