أولاً: نبذة تاريخية عن الدولة المدنية
ظهرت فكرة الدولة المدنية عبر محاولات فلاسفة التنوير في أثناء "عصر النهضة " والذي هو عبارة عن حركة ثقافية استمرت تقريبا من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر، وكانت بدايتها في أواخر العصور الوسطى من إيطاليا ثم أخذت في الانتشار إلى بقية أوروبا، والهدف من فكرة الدولة المدنية هو لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية في الحكم والسيادة، وقد تبلورت فكرة "الدولة المدنية" عبر إسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية.
ولكى يبلور المفكرون طبيعة الدولة الجديدة لجأوا إلى تصوير حالة الطبيعة التي تقوم على الفوضى وعلى طغيان الأقوى، فهذه الحالة تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة، فتفقد الروح المدنية التي تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك. إن تأسيس الدولة المدنية هو الكفيل بسيادة هذه الروح التي تمنع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم شؤون التعاقد، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم وانتماءاتهم وتمثل الدولة إرادة المجتمع.
ثانياً: جذورها
مفهوم الدولة المدنية ليس بالجديد، وإنما يرجع إلى أن حكماء بلاد اليونان الأوائل في عصور ما قبل الميلاد هم أول الفلاسفة عبر التاريخ الذين وضعوا نظرية الدولة المدنية، لتكون مؤسسة مناهضة لسلطة الاستبداد بعد أن هيمنت على إرادة المجتمع اليوناني لفترة من الزمن. لكن نقطة اختلاف مفهوم الدولة آنذاك عن مفهوم الدولة الليبرالية الحديثة تمثلت في تقسيم المجتمع اليوناني إلى طبقات اجتماعية كطبقة الأشراف وتتكون من أفراد الحكام والكهنة والقضاة، ثم طبقة أصحاب المهن تليها طبقة الفلاحين الفقراء، ثم تعقبها طبقة الأرقاء.
أما في أوروبا الحديثة فإن الدولة اتخذت مسارا تاريخيا سياسيا جديدا مغايرا، بعد أن نشأت على أنقاض سلطة الاستبداد الإقطاعية الكنسية، وكان أبرز مفهوم نظري حقوقي وقانوني، وأهم وظيفة ارتكزت عليها تطبيقيا، هي آلية الاحتكام لسلوك العقد الاجتماعي الذي يتطلب احتراما والتزاما متبادلا بين كافة أفراد المجتمع دون أدنى استثناء بالنسبة للحقوق والحريات والوظائف والواجبات، سواء كانت مادية أم معنوية، وأسلوب الاتفاق اجتماعيا.
ثالثاً: مفهوم الدولة المدنية
الدولة المدنية: هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينة أو الفكرية، وهنالك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ومن أهم مبادئ "الدولة المدنية" ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فهنالك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.
رابعاً: أسس الدولة المدنية
للدولة المدنية أسس ترتكز عليها، وأهمها الآتي:
1. أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، كما أنها لاتُعادي الدين أو ترفضه، فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة.
2. المواطنة، والذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
3. تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات.
4. الديمقراطية، هي التي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة.
5. الفصل بين السلطات.
6. استقلال القضاء
خامساً: الدولة المدنية ثقافة متدرجة
بكل تأكيد بأن المسار التاريخي للدولة المدنية جاء بعد معاناة وقفزات تاريخية من مرحلة إلى أخرى مع الأخذ بنظر الاعتبار إيجابيات كل مرحلة وسلبياتها. فعلى سبيل المثال الدولة المدنية في أوروبا حالياً هي نتاج الوضع السياسي والاجتماعي الذي حكم أوروبا بشكل تراكمي، لاسيما في العصور الوسطى حتى بدء مفهوم الدولة المدنية يتبلور بشكل تدريجي من خلال المراحل التي مرت بها القارة الأوروبية من عصر النهضة مروراً بحركة الإصلاح الديني ومن ثم الثورة الصناعية وعصر التنوير. إذ حققت كل مرحلة من هذه المراحل قفزات نوعية كبيرة في بلورة مفهوم الدولة المدنية في أوروبا. وبذلك رسخت كل مرحلة من هذه المراحل ثقافة شعبية وسياسية تشبعت بالروح المدنية والديمقراطية وقبول الآخر.
سادساً: وظائف الدولة المدنية
بصورة عامة تتجسد وظائف الدولة المدنية وتتلخص في الآتي:
1. توفير فرص العمل والعيش الكريم لمواطنيها، لكن الشرط الأساس لحصولهم على الدخل المالي العادل هو اشتراكهم في عملية إنتاج السلع والخدمات، وتجنب تحولهم إلى عاطلين يشكلون عبئا على الميزانية العامة أو مثالا للبطالة المقنعة.
2. بناء مجتمع اقتصادي نموذجي، وتأهيل أفراده ليكونوا منتجين وليسوا عاطلين يشكون الفقر باعتباره ظاهرة اجتماعية سلبية تتناقض مع قيم ومثل وثقافة الدولة المدنية الحديثة.
3. توفير المناخ الأمني والاستقرار النفسي لكل المواطنين، باعتبار أن الحاجة إلى الأمن ضرورة اجتماعية ونفسية لايمكن الاستغناء عنها.
4. تهيئة سبل التعبير عن حرية الرأي بشتى الطرق وفق ضوابط قانونية محددة ورسمية.
5. بناء المؤسسات التعليمية وتهيئة مستلزماتها، لنشر المعرفة المهنية والثقافة العامة من أجل تنمية المواطنين معرفيا ومهنيا.
6. الاهتمام بالقطاعات الحكومية كافة سواء الصناعية منها أو الزراعية.
سابعاً: المظاهر المدنية في عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر
يعد عهد الإمام عليّ (ع) إلى مالك الأشتر "مفخرة في المنهج السياسي والدولة الصالحة. إذ كتب الإمام علي عهداً إلى عامله على مصر مالك الأشتر النخعي، وفيه وصاياه التي تُعد منهجاً في السياسة الإسلامية والدولة الصالحة، ولذا فإنَّ التقرير الدولي لمنظمة الأمم المتحدة قد اقتبس من هذا العهد فقرات كثيرة، لحث الدول العربية على الاقتداء بسياسة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب العادلة، ومنهجه في الحكم، ومساواته للناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين.
وتضمنت الوثيقة التي بعث بها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر (رض) والي مصر أهم الأفكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والإدارة بل من أهم الركائز الفكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة إلى أحد ولاته. وقد تضمن هذا العهد "رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة سواءً كان تعامل الحاكم مع الشعب أو مع رجال السلطة وفق سياسة تكفل للجميع الاستقرار والتقدم، وكما يوضح أسس العلاقات الخارجية مع العدو والصديق بشكل يحفظ للأمة كرامتها وعزتها واستقلالها التام". والذي يمكن ملاحظته في الدولة التي تشكلت في عهد الإمام علي(ع) هي دولة قائمة على النظام المركزي وهو خضوع المرؤوس للرئيس وتلقي تعليماته وتنفيذها من جهة أخرى. وقد تضمن عهد الإمام علي (ع) أسس للحكم الصالح منها:
1. الأمانة: إن يشعر الحاكم بان الحُكم أمانة لديه وتكليف إلهي له، وليس منحة أو ملكا شخصيا له.
2. المشاورة والتعاون: فالحاكم لا يستغني عن نصح ومشاورة الرعية، والمشاورة تعني اليوم في الفكر السياسي المعاصر (الاستشارة) أي مستشاري السلطة التنفيذية أو التشريعية.
3. المحبة والتسامح: إن يستشعر الوالي الرحمة والمحبة واللطف للرعية، لأنهم صنفان "أما أخ له في الدين أو نظيراً له في الخلق".
4. العدل: إن الباحث في التفكير الإسلامي يدرك أن "العدالة هي قمة الشروط اللازمة للخليفة أو الرئيس في الإسلام".
5. عدم الاحتجاب عن الرعية: فان ذلك شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، وذلك الاحتجاب سوف يعظم الصغير ويصغر الكبير من الأمور عند الرعية.
6. أن يواسي بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية.
7. المسؤولية: إن من صفات الحاكم الإحساس بالمسؤولية فالإمام يقول اتقوا الله في عباده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم.
8. النزاهة: وذلك بأن لا يستأثر بشي من أموال المسلمين لنفسه وأن يساوي الناس بعيشه.
9. الحرية: إن ضمان الحريات في حكومة الإمام علي(ع) تعتبر من أهم الركائز التي بنيت عليها الدولة، إذ أن المواطن يعيش في دولة تضمن للفرد حرية التعبير، وحرية نقد السلطة والحكومة.
ثامناً: إصلاحات الإمام علي (ع)
يمكن التطرق ببساطة إلى إصلاحات الإمام السياسية والإدارية في عصره بالرغم من التحديات السياسية التي واجهها الإمام من بني أمية وبعض المنتفعين من تردي الأوضاع، فضلاً عن التركة الثقيلة التي خلفها مقتل الخليفة الثالث (عثمان أبن عفان)، والفساد السياسي والمالي الذي أصاب كل مؤسسات الدولة آنذاك. وقد حملت تلك الإصلاحات طابع مدني بعيداَ عن التعصب والعصبية.
1. تطهير جهاز الدولة: أي أن الإمام (ع) التفت منذ تسنمه الحكم إلى جهاز الدولة الإداري والتنظيمي بشكل عام, حتى يتسنى له تطهيه من العناصر الفاسدة وغير الكفؤة والمتحزبة، وأول عمل قام به الإمام (ع) فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عَزل وُلاة عثمان الذين سَخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة، وأُثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال، ثم بادر الإمام إلى عزل (ع) معاوية بن أبي سفيان أيضاً.
2. تأميم الأموال المختلسة: الأمر الثاني الذي تابعه الإمام (ع) غاية في الأهمية وهو " إرجاع الأموال المختلسة ومحاكمة مختلسيها"، ولذلك أصدر الإمام (ع) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد. فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه، والأموال التي استأثر بها، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه، وأضافها الإمام (ع) إلى بيت المال.
3. السياسة المالية: كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) امتداد لسياسة الرسول الأعظم (ص) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأمة توزيعاً عادلاً على الجميع. ومن مظاهر هذه السياسة هي:
أ- المساواة في التوزيع والعطاء، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز، وإنما الجميع على حدٍّ سواء. فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأسرة النبي (ص) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره.
ب- الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية.
ت- عدم الاستئثار بأي شيء من أموال الدولة.
4. السياسة الداخلية: عنى الإمام (ع) بإزالة جميع أسباب التخلف والانحطاط، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلبات حياته، من الأمن والرخاء والاستقرار، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها:
أ- المساواة: وتجسّدت في (المساواة في الحقوق والواجبات, والمساواة في العطاء, والمساواة أمام القانون). وقد ألزم الإمام (ع) عُماله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم. فيقول (ع) في بعض رسائله إلى عماله: (واخفضْ للرعيّة جناحك... والخ).
ب- الحرية: أما الحرية عند الإمام (ع) فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان، ويجب أن تتوفر للجميع، شريطة أن لا تستغل في الاعتداء والإضرار بالناس، وكان من أبرز معالمها هي الحرية السياسية. ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه. وقد منح الإمام (ع) هذه الحرية بأرحب مفاهيمها للناس، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته.
نستشف من ذلك بأن عهد الإمام علي لماك الأشتر تميز بالمظاهر الدولة المدنية، بغض النظر عن الفهم المعاصر لهذا المفهوم. فإن عهد الإمام وإصلاحاته السياسية ضاربة في عمق التمدن والمدنية سواء بشكل أو بآخر.
اضف تعليق