لقد اتخذ السيد الشهيد لنفسه دوراً أبوياً لطلبة العلوم الدينية، فالقضية ليست فقط تشييد حوزة علمية تلقى في الدروس وتخرج علماء او خطباء، وانما
وفد مرجعي عالي المستوى برئاسة المرجع الديني السيد ميرزا مهدي الشيرازي، يرافقه ثلّة من ابنائه وعدد من علماء الدين من كربلاء المقدسة، يتوجه الى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج في خمسينيات القرن الماضي، فصار طريقهم البري على سوريا، ثم على البقعة التي تضم مرقد السيد زينب بنت أمير المؤمنين، عليه السلام، وكانت لهم وقفة للزيارة و أيضاً التأمل في حاضر مستقبل هذه البقعة، وبعد نظرة معمّقة وتأمل طويل توجه المرجع الشيرازي –الأب- الى أبنائه بالسؤال:
من منكم يقدر على إنشاء حوزة علمية الى جوار هذا المرقد الطاهر؟
سؤال مثير من جميع الجوانب؛ حوزة علمية في هذه البقعة الجرداء غير المؤهلة بالسكان، ثم حوزة علمية في بلد مثل سوريا، حيث الأقلية الشيعية، مع وجود الحوزات العلمية في المدن الشيعية المعروفة. فلم يتقدم أحد للإستجابة إلا السيد حسن الشيرازي، أبدى استعداده الكامل للعمل على إنشاء حوزة علمية في هذا المكان مهما كلف الأمر.
وهكذا صدح الشهيد المناضل بالفكرة الحضارية لوالده الفذّ، لتكون سنّة حسنة من بعدهم، بأن تشيّد الحوزات العلمية الى جوار مراقد أهل البيت، عليهم السلام، وليس فقط الى جوار الأئمة المعصومين، لمزيد من نشر علوم وثقافة أهل البيت، عليهم السلام.
وبدأ السيد الشهيد مشواره الطويل منذ تلك الايام؛ يخطط و يمنهج ويحدد الوسائل الممكنة وحجم الامكانات، والاهم من كل ذلك، كان مدركاً لحجم التحديات لمثل هكذا مشروع في تلك الفترة.
وفي عام 1975، خرجت الحوزة العلمية الزينبية الى الوجود بتعاون عدد من طلبة العلوم الدينية، ولاسيما من الاخوة الافغان الذين اضطرتهم الظروف لمغادرة بلادهم الى حيث الاجواء المناسبة التي ينهلون من علوم أهل البيت، عليهم السلام، ومن هنا كانت بداية التحديات الكبرى أمام السيد الشهيد والتي كافحها بصلابة عزيمته وصبره ورؤيته المستقبلية، ومن ابرز هذه التحديات:
1- عدم الحاجة الى حوزة علمية مع وجود حوزات علمية في المدن المقدسة، مثل النجف الاشرف وكربلاء المقدسة، وقم المقدسة.
2- المشكلة القانونية أمام طلبة العلوم الدينية من الاخوة الافغان، فقد كانت الجهات المعنية في سوريا آنذاك تمتنع عن تزويدهم بتصاريح إقامة في سوريا لعدم توفرهم للشروط اللازمة، ولم تكن الحوزة العلمية او دراسة العلوم الدينية من البنود المعروفة لدى الدولة السورية ليتفهم المسؤولون آنذاك بطلب من هذا النوع.
3- المشكلة النفسية التي يخلقها البعض ممن يقعون بسهولة في شرك الحسد، فكانوا يعارضون بشدة هذا المشروع، فكان السيد الشهيد يسمع الكلمات الاستفزازية والاستهزاء، الى درجة أن توجه أحدهم الى السيد الشهيد بأن "من الافضل لك ان تبني حماماً في هذه المنطقة وليس حوزة علمية"!
أما التحدي الاكبر والأهم، فكان المال؛ لتشييد مبنى الحوزة وما تحتاجه من مستلزمات، وايضاً لتغطية احتياجات طلبة العلوم الدينية الذين كانوا في تلك الفترة يعانون حالة معيشية صعبة للغاية، بيد أن الايادي البيضاء لعدد كبير من التجار وأهل البصيرة والخير، ساندت السيد الشهيد على إتمام المشروع، ولم يتوقف السيد الشهيد عند هذا الطموح، بل وتعداه الى ما أفضل وأكمل، حيث دعا التجار والميسورين لشراء قطعة أرض في نفس منطقة السيدة زينب، مساحتها 20 ألف متر تقريباً لبناء مجمّعات مختلفة للمدرّسين والطلاب، تحتوي على أقسام مختلفة من سكن ومستوصف وحسينية ومسجد وكلّ ما يهمّ ويخدم رجال الدين.
لقد اتخذ السيد الشهيد لنفسه دوراً أبوياً لطلبة العلوم الدينية في سوريا، فالقضية ليست فقط تشييد حوزة علمية تلقى في الدروس وتخرج علماء او خطباء، وانما كان همّه تخريج رجال رساليين يحملون القضايا الاسلامية على عاتقهم، وكان هذا يحتاج لشحذ الهمم وتعزيز الثقة بالنفس واستشعار الكرامة في ظل حوزة علمية رسالية.
وقد حصل أن غاب أحد طلبة العلوم الدينية من الاخوة الافغان، فتقصّى الخبر عنه، فقيل له: لنظراً لضيق الحالة المادية، وتعرض أمه لوعكة صحية، فانه مضطر للعمل الخدمي لتغطية تكاليف علاج أمه، فما كان من السيد الشهيد إلا ان شكل وفداً لزيارة هذا الطالب في بيته، ودعوة الجميع للتبرع لسد هذه الحاجة ليتفرغ هذا الطالب لدروسه الحوزوية.
ومما ينقل عن المقربين منه، في تلك الفترة أن حصلت مشكلة قانونية حادة مع الطلبة الافغان، وكادت السلطات أن تنفذ قرارها بترحيلهم الى افغانستان، بيد أن السيد الشهيد بقوة شخصيته وذكائه وحسن تدبيره، نجح في تسوية الأمر مع المسؤولين السوريين وأقنعهم بالعدول عن القرار والسماح لهؤلاء بالإقامة في سوريا لغرض طلب العلوم الدينية.
ومن أجل ذلك، أقام جسور طويلة ومتينة من العلاقات مع عدد المسؤولين والمتنفذين في سوريا لخدمة اهدافه المقدسة، ومن أبرز تلك العلاقات؛ علاقة الصداقة التي أقامها مع شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بحيث تحول السيد الشهيد صديقاً مقرباً اليه، يتنقل معه في زياراته ويجالسه ويناقشه في أمور عديدة.
لو أجلنا الحديث عن الإعجاز و الامور الغيبية المساندة لمشروع الحوزة العلمية الزينبية، يكفي الاشارة الى استمرار وجود هذه الحوزة المباركة حتى اليوم رغم ما شهدته سوريا، وتحديداً منطقة السيدة زينب من تهديدات ماحقة خلال السنوات الست الماضية، فقد جرت حولها المعارك الضارية والانفجارات، بل كانت أيدي التكفير والارهاب على مقربة من المنقطة والمرقد ايضاً في بدايات اندلاع الحرب في سوريا.
أما طلبة العلوم الدينية من الاخوة الافغان وايضاً العرب في هذه الحوزة، فقد بلغوا من العمر عتيّا، واستشهد من استشهد منهم، ومات من مات، وكان آخر الغائبين الشيخ عباس النوري، أحد المقربين من السيد الشهيد ومن الرعيل الاول للحوزة الزينبية، ثم كبر الابناء وهم يشهدون هذا الانجاز الكبير والصمود العجيب أمام العواصف والتحديات، فيستذكرون ذلك الكفاح والجهاد، كما يستذكره طلبة العلوم الدينية والعلماء في جميع انحاء البلاد الاسلامية والعالم، ليجعلوه نبراساً في طريق بناء حوزة علمية ناجحة، وعلماء دين قادرين على تغيير الواقع وصنع المستقبل الافضل.
اضف تعليق