المدح يُشجَّع في الحالات التي يظهر فيها الإحسان والعطاء، فيُذكر المؤمن بما قدَّمه من عمل صالح ليرتقي به نحو أعلى درجات الفضل. في حين يُنصح بالذَّم في المواقف التي تقتضي التَّنبيه على الأخطاء والمعاصي، وذلك ليس بغرض إهانة الفرد أو التَّقليل من شأنه؛ بل من أجل أن يراجع نفسه...
المدح والذَّم ليسا مجرَّد كلمات نطلقها جزافًا؛ بل هما مفهومان عميقا المعنى، يختزنان في طيَّاتهما مسؤوليَّة عظيمة وتقديرًا دقيقًا للأفعال والسلوكيات البشريَّة؛ فالمدح والذَّم، وإن بديا ظاهريًا كأداة بسيطة للتَّعبير عن الرِّضا أو الاستنكار، إلَّا أنَّ لهما من التَّأثير ما يعكس بصورة غير مباشرة ملامح الشَّخصيَّة والمجتمع، ويلعبان دورًا بالغ الأثر في تشكيل سلوك الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
من هنا، تبرز الحاجة الملحَّة لفهم الدَّوافع التي تقتضي المدح أو الذَّم، حتَّى نتمكَّن من توظيفهما في سياقاتهما الصَّحيحة؛ فالمدح، إذا وُظف بحكمة، يصبح بمثابة النُّور الذي يضيء طريق الخير، فيحفِّز الشَّخص على الاستمرار في الصَّالح من العمل، ويمنحه القوَّة للاستمرار في نهجٍ مستقيم. وأمَّا الذَّم، إذا وقع في سياقه السَّليم، فهو أداة تصحيحيَّة، تهدف إلى إزالة العيوب من النَّفس البشريَّة، وتوجيه الشَّخص نحو التَّغيير والإصلاح.
وفي ضوء التَّعاليم الإسلاميَّة السَّمحة، نجد أنَّ المدح يُشجَّع في الحالات التي يظهر فيها الإحسان والعطاء، فيُذكر المؤمن بما قدَّمه من عمل صالح ليرتقي به نحو أعلى درجات الفضل. في حين يُنصح بالذَّم في المواقف التي تقتضي التَّنبيه على الأخطاء والمعاصي، وذلك ليس بغرض إهانة الفرد أو التَّقليل من شأنه؛ بل من أجل أن يراجع نفسه ويعود إلى الصَّواب.
لذلك، ينبغي أن نُمارس هذين المفهومين وفقًا لمنهجية متوازنة وحكيمة؛ حتَّى لا نفرط في المدح فتنتفخ الأنا، ولا نبالغ في الذَّم فتنتشر الأحقاد، وكذلك أن نحرص على أن يكون التَّوجيه بالمدح والذَّم قائمًا على أساس العدل والمساواة، بعيدًا عن التَّعصُّب أو الانحياز؛ لذلك، نقف عند بعض المحاور الأساسيَّة التي نحتاج إلى التَّركيز عليها لفهم المدح والذَّم في إطار رؤية إسلاميَّة إنسانيَّة متكاملة، بعيدة عن الغلو والتَّطرف، وقائمة على الحكمة والتَّعقل:
المحور الأول: حكم حبِّ المدح، وكراهة الذَّم من النَّاحية الأخلاقيَّة.
«المدح بسكون الدَّال بعد ميم مفتوحة: الثَّناء الحسن، ومدحه وامتدحه... وكذا المدح بكسر الميم، ومدحته من باب نفع: أثنيت عليه بما فيه من الصِّفات الجميلة خلقيَّة كانت أو اختياريَّة...» (1).
إنَّ حبَّ المدح وكراهة الذم من المهلكات العظيمة التي تردي الإنسان في مهالك الغرور، وتجرُّه إلى الوقوع في فخاخ الرِّياء والفساد الرُّوحي، خاصَّة حينما يتسلل إلى قلبه حبُّ الجاه ويغريه السَّعي وراء إرضاء النَّاس على حساب إرضاء الله (سبحانه وتعالى)؛ فهذه المشاعر الجيَّاشة التي تتولد من حبِّ المدح والخوف من الذَّم تجعل الإنسان يتحوَّل إلى كائن يضحي بأصله وقيمه، ويخلع عن نفسه رداء الإيمان في سعيه المحموم وراء رضا المخلوقين.
من هذا المنطلق، فإنَّ الذي يحبُّ المدح ويكره الذَّم سيصبح أسيرًا لهذه الرَّغبات المتقلبة، فتتغيَّر أفعاله وحركاته، ويدخل في حالة من الازدواجية في الشَّخصيَّة، ويظهر بما لا يطابق واقعه، ويتصرَّف بما يتناسب مع تطلعات الآخرين، لا بما يرضي الله (عزَّ وجلَّ)؛ ففي لحظة قد يتخلَّى عن الالتزام بمبادئه؛ بل قد يفرِّط في أداء الواجبات الدِّينيَّة أو يتهاون في ترك المحظورات تجنبًا لمشاعر الرَّفض الاجتماعي أو الفشل في نيل رضا النَّاس.
وهكذا تصبح تلك العاطفة المتمثلة في حبِّ المدح وكراهة الذَّم سببًا رئيسًا في انحراف سلوك الفرد عن الطَّريق المستقيم، وتوجهه نحو تفضيل المديح الدنيوي على رضا الله (تعالى)، فيجعل من مصلحة النَّاس في المقام الأوَّل على حساب مصلحة دينه وإيمانه، وبدلًا من أن يسعى إلى إرضاء الله (تعالى) ويقوم بأفعاله لله (سبحانه) وحده، يضطر إلى موازنة خطواته مع معايير الآخرين، فيظهر لهم بما يعجبهم أو يحترمهم، حتَّى وإن كان ذلك يتناقض مع مبادئه الدِّينيَّة أو الأخلاقيَّة.
لهذا، على المسلم أن يكون يقظًا لمثل هذه المهلكات، ويعمل على تطهير قلبه من حبِّ المدح وكراهة الذَّم، ويعيد توازن علاقته مع نفسه ومع الله (تعالى)، ليكون هدفه الأوَّل هو التقرب إلى الله (عزَّ وجلَّ)، لا الانشغال بإرضاء الناس؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنْ انْزَعَجَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ، وَلَا بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ»(2)، وعنه (عليه السلام): «أَجْهَلُ النَّاسِ المغترُّ بِقَوْلِ مَادِحٍ مُتَمَلِّقٍ؛ يُحَسِّنُ لَهُ الْقَبِيحَ وَيُبَغِّضُ لَهُ النَّصِيحَ»(3).
«إنَّ علاج هذا الدَّاء يكمن في أن يتخلَّص الإنسان من تعلقه المفرط بثناء النَّاس ومدحهم، وأن يعكف على بناء ذاته وتطويرها وفقًا لقيمه العليا ومبادئه الدِّينيَّة، بعيدًا عن التَّأثر المبالغ فيه بما يقوله النَّاس من مدح أو ذم؛ وهذه المهمَّة، على الرَّغم من صعوبتها البالغة، هي التي تُمثل الطريق السليم نحو التَّحرر من أسر حبِّ الجاه والسُّمعة الزَّائفة.
إنَّ الإنسان الذي يرغب في التَّخلص من هذه التَّبعيَّة المستمرَّة لآراء الآخرين يجب عليه أن يتجه أوَّلًا إلى مراجعة نفسه بصدق ونزاهة، وعليه أن يراقب تصرفاته وأعماله من زاوية متجردة، بعيدًا عن التفاخر أو الخوف من النَّقد، وأن يواجه نقائصه بكلِّ شجاعة، ويعمل على إصلاحها؛ فإذا نظر إلى نفسه كقاضٍ عادل ينظر إلى أفعاله ومشاعره من دون تحيز، فسيتعلم أن يتقبَّل الذَّم كما يتقبل المدح؛ بل وأحيانًا سيجد في الذَّم حافزًا للتصحيح والارتقاء.
وتتطلَّب هذه المراجعة المستمرَّة للنفس أن تكون بعيدة عن العجب والتفاخر، وأن يكون الإنسان صريحًا مع نفسه في تقييم سلوكياته، وألَّا ينغمس في السَّعي وراء المديح أو الهروب من الذَّم؛ بل أن يسعى لإرضاء الله (عزَّ وجلَّ) في السرِّ والعلن، فيكون بذلك قد قطع الطريق على الأهواء النفسيَّة التي تجذب النَّاس نحو حبِّ الشُّهرة أو الخوف من النَّقد.
والنتيجة المرجوة هي أن يضبط الإنسان نفسه على ميزان الحقِّ، ويعيش وفقًا لمبادئه وثوابت دينه، من دون أن يتأثر بما يقول الناس أو يسعى إلى إرضائهم على حساب رضى الله (تعالى)، وبمراجعة النَّفس المستمرَّة، والاعتراف بالعيوب، والتطلع إلى الإصلاح، يصبح الإنسان أكثر توازنًا وتفهمًا للواقع، ويكتسب القدرة على تحمل المدح والذَّم بحكمة وسكينة» (4).
إنَّ المدح والذَّم، على الرغم ممَّا قد يحملان من تأثيرات عاطفية قويَّة، يمكن أن يُصبحا وسيلة عظيمة للتطور الشخصي إذا ما تعامل الإنسان معهما بحكمة ووعي؛ ففي كلِّ مرَّة يُمدح فيها الشخص، يجب عليه أن يراها فرصة لتطوير ذاته وزيادة علمه أو مهاراته في المجال الذي نال عليه الثناء؛ فعندما يُشيد به في علمه أو عمله، يجب أن يكون هذا المدح دافعًا له للبحث المستمر عن المعرفة، والسَّعي لتحصيل المزيد من العلوم، ويجب أن يُدرك أن هذا المدح ليس نهاية الطريق؛ بل هو بداية جديدة لتحدِّيات أكبر وأهداف أعلى.
وفي المقابل، عندما يتعرَّض للذَّم أو النَّقد، يجب ألَّا يراه مصدرًا للإحباط أو الانكسار؛ بل حافزًا للتفكير والتأمل في سلوكياته وأفعاله؛ فإذا كان الذّم بناءً ومبنيًا على ملاحظة حقيقية لعيب في شخصيته أو سلوكه، فإنه يجب عليه أن يعود إلى نفسه ويعترف بالعيب إن كان موجودًا، ويعمل على إصلاحه بكلِّ جدية. وأمَّا إذا كان الذَّم غير مبرر أو مبنيًا على سوء فهم، فعليه أن يكون حكيمًا في التعامل معه، دون أن يسمح له بالمساس بمعنوياته أو التأثير على ثقته بنفسه.
إنَّ الإنسان الذي يتعامل مع المدح والذَّم بتوازن وموضوعية سيكون أكثر قدرة على الارتقاء إلى أفضل نسخة من نفسه، ويعيش حياة مليئة بالتَّحسن المستمر والنمو الدائم؛ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة المتقين: «...إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ» (5).
ثمَّ إنَّ مدح النَّاس وذمهم ورضاهم أمرٌ متقلبِّ ومؤقت، ولا يمكن للإنسان أن يعتمد عليه بشكل دائم؛ بل إنَّ هذه الآراء تتغيَّر بتغير الزَّمان والمكان، وتتأثَّر بعوامل عديدة خارجة عن إرادة الفرد؛ فالنَّاس في حياتهم اليوميَّة يتفاوتون في آراءهم ومواقفهم، وقد يمدحون اليوم وينتقدون غدًا، وقد يرضون لحظة ثمَّ يغضبون في لحظة أخرى؛ لذا، من الخطأ الفادح أن يجعل الإنسان سعيه في الحياة مرهونًا بتقييمات الآخرين أو رهينًا برغبتهم في إرضائه.
من هذه النقطة على الإنسان أن يوجه أهدافه وأفعاله نحو رضا الله (سبحانه وتعالى)، ويكون دائمًا على يقين أنَّ رضا الله (تعالى) هو الثبات الحقيقي الذي لا يتغير، وأنَّ العمل من أجل إرضائه هو الذي يثمر في الدُّنيا والآخرة. فالإنسان الذي يسعى لتحقيق رضا الناس في كلِّ شيء، سوف يجد نفسه في صراع دائم مع آراء الآخرين، ولن يصل إلى النجاح الحقيقي؛ لأن رضا النَّاس غاية لا تدرك، والأهمُّ من ذلك، أنَّ الإنسان يجب أن يظلَّ متمسكًا بالقيم الأخلاقيَّة والمبادئ السامية التي لا تتأثَّر بتقلبات الدنيا؛ فالقيم مثل الصدق والأمانة والعدل وأن تكون محركًا لقراراته وسلوكياته، بغضِّ النظر عن الآراء المتباينة من حوله، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه ثابتًا إلَّا عندما يعيش الإنسان بقناعة راسخة ونيَّة صافية، بعيدًا عن الانجذاب وراء المدح أو الخوف من الذَّم.
رضا النَّاس غاية لا تدرك
روي أنَّ لقمان الحكيم (عليه السلام) قال لولده في وصيَّته: لا تقلق قلبك برضا النَّاس ومدحهم وذمهم؛ فإنَّ ذلك لا يحصل ولو بالغ الإنسان في تحصيله بغاية قدرته.
فقال له ولده: ما معناه؛ أحبُّ أن أرى لذلك مثالًا أو فعالًا أو مقالًا.
فقال له: أخرج أنا وأنت، فخرجا، ومعهما بهيمة فركبه لقمان، وترك ولده يمشي خلفه فاجتازا على القوم.
فقالوا: هذا شيخ قاسي القلب، قليل الرَّحمة، يركب هو الدَّابة، وهو أقوى من هذا الصَّبي، ويترك هذا الصَّبي يمشي وراءه. إنَّ هذا بئس التَّدبير.
فقال لولده: سمعت قولهم، وإنكارهم لركوبي ومشيك؟
فقال: نعم.
فقال: اركب أنت يا ولدي حتَّى أمشي أنا فركب ولده، ومشى لقمان فاجتازوا على جماعة أخرى، فقالوا: هذا بأس الوالد، وهذا بأس الولد أمَّا أبوه، فإنَّه ما أدَّب هذا الصَّبي حتَّى ركب الدَّابة، وترك والده يمشي وراءه، والوالد أحقُّ بالاحترام والركوب، وأمَّا الولد فإنَّه قد عقَّ والده بهذا الحال فكلاهما أساء الفعال!
فقال لقمان لولده: سمعت؟
فقال: نعم.
فقال: نركب معًا الدابة: فركبا معاً فاجتازا على جماعة فقالوا: ما في قلب هذين الرَّاكبين رحمة، ولا عندهم من الله خير يركبان معًا الدَّابة يقطعان ظهرها، ويحملانها ما لا تطيق، لو كان قد ركب واحد، ومشى واحد كان أصلح وأجود.
فقال: سمعت؟
قال: نعم. فقال: هات حتَّى نترك الدَّابة تمشي خالية من ركوبنا فساقا الدَّابة بين أيديهما وهما يمشيان فاجتازا على جماعة فقالوا: هذا عجيب من هذين الشَّخصين يتركان دابة فارغة تمشي بغير راكب ويمشيان! وذمُّوهما على ذلك كما ذمُّوهما على كلِّ ما كان. فقال لولده: ترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟
فلا تلتفت إليهم، واشتغل برضا الله (جلَّ جلاله)؛ ففيه شغل شاغل وسعادة وإقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال (6).
المحور الثاني: آثار المدح والذَّم.
عند تأمل النصوص الشريفة المتعلقة بالمدح والذم، نجد أنَّ العديد منها تحذر من المبالغة في المدح في بعض الحالات، وذلك لما قد يترتب على المدح من آثار سلبيَّة على النفس البشرية؛ فغالبًا ما يؤدي المدح المفرط إلى نتائج غير محمودة تؤثر على سلوك الشخص وحالته النفسية؛ ومن هذه الآثار:
1. قد يُصاب الشخص الممدوح بالغرور والاعتقاد الخاطئ أنَّه قد بلغ الكمال في العمل الذي يتمُّ مدحه عليه، فيظنُّ أنَّه قد وصل إلى درجة الكمال فيترك السَّعي المستمر نحو تحسين نفسه وتطوير عمله، وهذا التَّوقف عن السَّعي نحو الكمال قد يُحبط الطموحات الشخصيَّة ويحدُّ من تطور الفرد، إذ يصبح راضيًا بما وصل إليه دون محاولة للسعي إلى المزيد.
2. قد يغذي المدح شعور الشخص بالتفاخر والكبر، مما يجعله يبتعد عن تواضع القلب الذي هو من أبرز صفات المؤمنين؛ فالإعجاب بالنَّفس والشعور بالعظمة يؤدِّيان إلى تصاعد مشاعر العُجب والاعتداد بالذَّات، مما يفتح باب التفاخر والتعالي على الآخرين، وهذه الصِّفات السَّيئة ليست فقط ضارَّة بالعلاقات الإنسانيَّة؛ بل إنَّها تقود إلى انحرافات أخلاقيَّة خطيرة، مثل الحسد، حيث قد يشعر الشخص الممدوح بالتفوق على الآخرين، فيغفل عن الأخطاء والعيوب التي قد تكون موجودة في نفسه.
لذلك، نجد أنَّ الإسلام يحذِّر من المدح المبالغ فيه، ويشدد على ضرورة أن يكون الإنسان حذرًا من تأثيراته السلبيَّة، وفي الوقت نفسه، تدعو النصوص الشريفة إلى توجيه المدح بحذر، وأن يكون مرتبطًا بالعمل الصادق والإخلاص، من دون أن يُسهم في تغذية الأنا أو تعميق الغرور، فالإنسان يجب أن يظل دومًا في حالة من الاستغفار والتواضع، مدركًا أنَّ الكمال ليس إلَّا لله (تعالى) وحده، وأنَّ النَّجاح الحقيقي هو في التقدم المستمر نحو الله (تعالى)، وليس في نيل المديح من النَّاس.
إذن، يكمن العلاج في أن يظلَّ الشخص واعيًا لآثار المدح على نفسه، ويُحسن التعامل معه بحيث لا يترك له مجالًا لإشعال نار الغرور أو التوقف عن السعي نحو الأفضل؛ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ مَدَحَكَ فَقَدْ ذَبَحَكَ» (7).
إنَّ تشبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) للمدح بالذبح ليس عبثًا، بل هو تشبيه دقيق يعكس الأثر الكبير الذي قد يتركه المدح الزائد على الشخص، فالذبح يؤدي إلى موت الشخص، وكذلك المدح المفرط يؤدي إلى "موت" أخلاق الشخص وسقوطه في فخ الغرور والمكابرة، فتضعف شخصيته وتتحطم قدراته.
وعنه (عليه السلام): «احْتَرِسُوا مِنْ سَوْرَةِ الْإِطْرَاءِ وَالْمَدْحِ، فَإِنَّ لَهَا رِيحاً خَبِيثَةً فِي الْقَلْبِ» (8)، وعنه (عليه السلام): «الإِطْرَاءُ يُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَيُدْنِي مِنَ الغِرَّةِ» (9).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يَصيرُ العَبدُ عَبدًا خالِصًا للَّه تعالى حتّى يَصيرَ المَدحُ والذَّمُّ عِندَهُ سَواءً؛ لأنَّ المَمدوحَ عِندَ اللَّهِ لا يَصيرُ مَذمومًا بِذَمِّهِم، وكذلكَ المَذمومُ. ولا تَفرَحْ بمَدحِ أحَدٍ؛ فإنّهُ لا يَزيدُ في مَنزِلَتِكَ عِندَ اللَّهِ، ولا يُغنيكَ عَنِ المَحكومِ لكَ والمَقدورِ علَيكَ، ولا تَحزَنْ أيضًا بذَمِّ أحدٍ؛ فإنّهُ لا يَنقُصُ عَنكَ ذَرّةً» (10).
المحور الثَّالث: متى نمدح، ومتى نذم؟
القاعدة التي نقيس بها المدح والذَّم هي: «مدح من لا يستحق أو يوجب مدحه كبرًا أو خيلاءً أو ما أشبه مذموم، ومدح من يستحق أو يوجب مدحه إصلاحًا وصلاحًا مرغوب» (11)؛ فعندما يمدح الله (سبحانه وتعالى) أنبياءه وأوصياءه (عليهم السلام)، مثلما فعل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، فإنَّ هذا المدح ليس مجرَّد تعبير عن تقدير بل هو إظهار للمثل العليا والأسوة الصَّالحة التي يجب أن يتبعها المسلمون. كما أنَّ مدح الصحابة الأبرار مثل أبي ذر، وسلمان، وعمار، والمقداد (رضوان الله عليهم) هو تذكير للأمَّة بمواقفهم المشرفة وأخلاقهم الفاضلة، مما يشجِّع المسلمين على الاقتداء بهم والسَّير على نهجهم في الإيمان والتَّقوى.
وفي المقابل عندما يذمُّ الله (سبحانه وتعالى) بعض الأفراد أو السلوكيات، يكون الذم تحذيرًا من التبعية لمنهج خاطئ أو سيئ، وكما أنَّ المدح يهدف إلى تعزيز القيم العليا، فإنَّ الذم يهدف إلى تحذير النَّاس من الوقوع في الفخاخ الأخلاقية التي تؤدِّي إلى الفساد والانحراف.
المحور الرَّابع: المدح والذَّم من الناحية الفقهية.
وتبعًا للنصوص الشَّريفة الواردة فإنَّ الفقهاء قد استنبطوا مجموعة من الأحكام الشرعيَّة حول هذا الموضوع منها:
الحكم الأوَّل: «يستحب بيان فضائل الآخرين، ومحاسن أخلاقهم كما قالت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): «وأنتم موصوفون...الخ» (12) فإنَّه داخل في روايات مدح المؤمن، ومصداق لقوله سبحانه: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (13). وإن كانت سلبًا إلَّا أنها عرفًا تشمل الإيجاب أيضًا، هذا مضافًا إلى أنَّه نوع تحريض على النصرة كما قال (تعالى): (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (14) ...» (15).
الحكم الثاني: «يستحب للمظلوم أن يذكر فضائل من يستنصره حثًا له على النصرة، فإنَّه أدعى لإثارة المحبة، والغيرة، والشهامة، والمروءة فيه... وفيها ما ورد من مدح الأصحاب في الحرب كما مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في صفين فقال:
يا أيها السائل عن أصــحابي --- إن كنت تبغي خبر الصواب
أنبئك عنهم غــــير ما تكـــذاب --- بأنَّهم أوعية الكتـــــاب
صبر لدى الهيجاء والضـــراب فسل بذاك معشر الأحزاب» (16) (17).
الحكم الثالث: «يحرم مدح من لا يستحق المدح، وكذا حمده، والثَّناء عليه، والمراد إنشاءه أو الإخبار عن الماضي صادقًا أو عن المستقبل رجاءً، لا ذكر ما ليس فيه أخبارًا فإنَّه كذب... والمراد بمن لا يستحق: الجبابرة، والظلمة ممن لا يطلق عليه هذا اللفظ بالحمل الشائع، لا كلَّ عاص، وإن كان ظالمًا لغة واصطلاحًا قال (سبحانه): (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ) (18)، إلى غيرها مما دلَّ على ظلم العاصي، كما ليس منه الكافر الذي لا يطلق عليه هذا اللفظ قال (تعالى): (وَالكَافرُونَ همُ الظَّالمونَ) (19)(20)».
الحكم الرابع: «إنَّ حرمة مدح الظالم بالحكم الأولي، وأمَّا إذا اضطر إلى ذلك كان من الاستثناء؛ لأنَّه (ليس شيء مما حرَّمه الله إلَّا وقد أحله لمن اضطر إليه) وقد دلَّ عليه وعلى الإكراه حديث الرفع وغيره، كما أنَّ التقية كذلك، ويكون من الجائز أيضًا إذا كان لأمر أهم كهدايته أو كفّه عن الظلم» (21)، و«أما مدح الكافر بما فيه، والعاصي كذلك إذا لم يكن يطلق عليه ذلك على ما عرفت فليس منه...» (22).
الحكم الخامس: «... ذم العادل ومن لا يستحق الذم فلا إشكال في حرمته مطلقًا في غير موارد الاستثناء؛ مثل التقية؛ كما قال الصادق (عليه السلام) في وجه ذمه لأفاضل أصحاب: مستدلاً بقوله (سبحانه): (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (23) إلى غير ذلك...» (24).
الحكم السادس: «... لو أوجب مدح الظالم أو ذم العاقل تقوية الكافرين أو الظلمة وتضعيف العدول أو المؤمنين فالحرمة أشد...» (25).
يتضح لنا ممَّا مرَّ أنَّ المدح والذَّم ليسا مجرد آراء عابرة يمكن أن تؤثِّر في حياتنا بشكل عشوائي؛ بل هما من الأدوات التي يمكن أن يكون لهما دور عميق في تشكيل شخصياتنا وسلوكياتنا. وإنَّ التَّعامل مع المدح والذَّم بحكمة وتوازن هو الطريق لتحقيق الاستقامة؛ فمن طريق فهم آثار المدح وأضراره إذا أفرطنا فيه، وكذلك كيفية الاستفادة من الذم كأداة للتقويم والارتقاء، نتمكَّن من العيش حياة أكثر اتزانًا وإيمانًا.
كما يبرز لنا من خلال النصوص الشرعية والتوجيهات الإسلاميَّة أنَّ الأهمَّ من تقييم الناس لعملنا هو رضا الله (سبحانه وتعالى)، وإنَّ توازننا يجب أن ينبع من إيماننا وقيمنا العميقة، لا من تعلقنا بما يقوله الناس، وبذلك، نحقق السَّعادة الحقيقيَّة التي لا تتأثَّر بتقلبات المدح والذَّم؛ بل ترتكز على نيَّة صافية وإخلاص لله (تعالى)، وهو ما يجعلنا نعيش حياة مستقرة ومتواضعة بعيدة عن الغرور أو الخوف من النقد.
اضف تعليق