عندما نواجه السب بسبّ مثله، لن نفعل شيء سوى جعل السب أمراً طبيعياً، و من أدوات الحوار، بينما العفو يقمع السب والشتم في مكانه، فهو يهدئ الاجواء أولاً؛ ثم يلفت الانتباه الى الحالة المرضية الناقضة للفطرة السليمة الداعية لشكر المُنعم الذي يعطي بلا حساب ولا عقاب في هذه الحياة الدنيا...
نلاحظ في الوسط الاجتماعي حالة انزلاق اللسان فيما لا يتوافق مع منظومة الآداب والقيم الاخلاقية والدينية خلال احاديث جانبية، او خلال مشادّة كلامية ترتفع فيها نبرة الصوت، وتحتدّ المناقشة، ثم اندلاع معركة كلامية، يفقد صاحبه توازنه وصوابه، ويتلفظ بما يعيب ويُشكل عليه أدبياً وشرعياً، مما يقتضي معه التدخل السريع من القريبين لوضع حدّ للنزاع أولاً؛ ثم التحذير من عواقب الالفاظ المسيئة، وآثارها النفسية والتربوية.
لماذا السبّ؟!
في مقابل تحذير "النصوص الدينية" من مغبة حالة الانزلاق هذه، والتأكيد الوافر من الروايات والاحاديث على سوء العاقبة والنتائج غير المحمودة على مستوى الفرد والجماعة، وأن "اللسان" يتعرض للعذاب يوم القيامة أكثر من سائر الجوارح، نلاحظ ثمة تخفيفاً للصدمة على أنها "كلمات تُقال"، فيتم تنحيتها من أصل المشكلة والازمة بهدف إخمادها، فعندما تنطوي صفحة المشكلة، تنطوي معها كل الكملمات وما قيل وقال، وينتهي كل شيء، و نسمع من البعض؛ إنها نتاج حالة العصبية والانفعال، مع هذا او ذاك، ولا داعي للتحقيق وتعميق المشكلة بمزيد من المحاسبة والعتاب، وإخراج المنفعل من ساحة المواجهة سريعاً مهما قال وتلفظ مع ابنه، او زوجته، او جاره.
علماء النفس من جانبهم يفسرون الاسباب على أنها من وسائل الدفاع عن النفس في لحظات غضب هائجة تكون الحاجة فيها لتوجيه كلمات من الوزن الثقيل وإلقائها على الطرف المقابل بما يلحق به أذى نفسي سريع، فأحياناً يكون السبّ بتناول الأعراض، واحياناً يكون السبّ للذوات المقدسة، وهذا ما نلاحظه أكثر شيوعاً في بعض المجتمعات نظراً لمعرفة الغاضب –رغم حالته النفسية غير الطبيعية- إن تناول ذوات بشرية على صلة قريبة بالطرف المقابل ربما يزيد من تعقيد المشكلة بدلاً من ان تكون سلاحاً لمواجهته وإلحاق الأذى به، بينما تناول ذوات مقدسة ذات جنبة معنوية فان ردود الفعل –عادة- تكون بشكل أخفّ، إلا من اشخاص لديهم منسوباً عالياً من الايمان، ويعرفون قيمة الذوات المقدسة ومكانتها الروحية والانسانية ايضاً، وأنها مصدر الخير والبركة والسعادة في الحياة.
ضبط ردود الفعل
من الصعب على مؤمن بالله –تعالى- و بأوليائه الصالحين، ويلهج بذكرهم ويمجّد بهم في علاقة حب عميقة وحقيقية، أن يلتزم الصمت إزاء من يتطاول عليهم بالسبّ والشتم لأي سبب كان، فمن الطبيعي ينتابه شعور بالاشمئزاز والغضب لردع الطرف المرتكب هذا التصرف الخاطئ، إنما المهم ايضاً؛ معالجة الخطأ بما هو صحيح، وبخطوات ثابتة ودقيقة، أولها؛ ضبط النفس والحؤول دون صدور ردود افعال بدعوى الدفاع عن المقدسات.
ربما يتخذ البعض المقدسات سهاماً جاهزة لتوجيهها الى الخصم، بيد أنه ليس بالضرورة أن يكون هذا البعض عارفاً بحقيقة هذه المقدسات، ودلالاتها ومكانتها بالنسبة اليه شخصياً، وللعالم والكون، فالفارق كبير بين من يؤمن ايماناً حقيقياً وقاطعاً بأن الله –تعالى- هو الذي يرزقه، وهو الذي يقضي ويقدّر له أموره في الحياة، وهو رب العالمين، وبيده مقادير السموات والارض، ومن يؤمن ايماناً قاطعاً بأن نجاحه في التجارة والعمل إنما بذكائه وقدراته الذاتية.
وهذا يذكرني بما جرى لصديق لي جرت مشادة له مع شقيقه الأصغر عندما عاقبه على فعل سيئ، فعمد هذا الشقيق الى مكتبته وإحضار القرآن الكريم و فصله نصفين أمامه، كنوع من الانتقام والرد.
طبعاً؛ الحادثة تعود لسنوات بعيدة لم يكن فيها مستوى الوعي بالدرجة الجيدة اليوم، حيث الغالبية العظمى من افراد المجتمع، وحتى صغار السنّ يعرفون قيمة ومنزلة القرآن الكريم، ولن يتجرؤوا على تكرار ما فعله ذلك الطفل الصغير، بما يعني أن الجهل بالأحكام وبحقائق الامور يدفع الكثير لارتكاب افعال يجدونها غير ذات اهمية، ولا تستحق المحاسبة من المحيطين.
فعندما نتلفظ بالقول المأثور: "الله كريم"، لابد أن نعرف المعنى الكامل والشامل لهذه العبارة، بما يعطينا جانباً معرفياً يمكننا من استشعار الخوف من جهة، والرجاء من جهة اخرى ضمن معادلة ربانية رائعة، فمن يعرف شيئا حقّ معرفته لن يزهد فيه في كل الاحوال.
وإذن؛ فان من يتلفظ بما يُسيئ للمقدسات لن يكون كافراً بقدر ما يُعد جاهلاً يحتاج الى جرعات من الوعي والعلم والمعرفة، وهذه لن تصل للمصاب بهذه النوبات العصبية إلا بخطوات تتسم ببرود الاعصاب وطول أناة، لأن هذه الظاهرة نراها وصلت الى صغار السن المتأثرين بالمحيط الأسري والاجتماعي، مما يحتاج الى أدوات ذكية تحتوي هذه الشريحة الفقيرة ثقافياً وإرشادها الى طريق الصواب.
و ما أروع من تجارب أمير المؤمنين، عليه السلام، مع مجتمعه لنتخذه درساً بليغاً ليكفية التعامل مع هكذا أمور، عندما وصفه ذلك الخارجي (من جماعة الخوارج) بأن "كافر"، بعد أن بين الإمام مسألة فقهية بشكل باهر، فقال الرجل: "قُتل الكافر ما أفقهه"؟! فأراد أصحابه تأديبه، فنهاهم الإمام وقال: "إنما هو سبٌ بسبّ وعفوٌ عن ذنب، وقد عفوت عنه". فعندما نواجه السب بسبّ مثله، لن نفعل شيء سوى جعل السب أمراً طبيعياً، و من أدوات الحوار، بينما العفو يقمع السب والشتم في مكانه، فهو يهدئ الاجواء أولاً؛ ثم يلفت الانتباه الى الحالة المرضية الناقضة للفطرة السليمة الداعية لشكر المُنعم الذي يعطي بلا حساب ولا عقاب في هذه الحياة الدنيا، فليس من الانصاف مطلقاً التعامل بهذه الطريقة، ومن ثم؛ التعريف بمكانة وأهمية المقدسات في حياة الانسان والبشر، وأنها مصدر كل الخير والبركة والنجاة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اضف تعليق