حتى يكون للعفو مكانةً مرموقة في سلوكنا اليومي وتعاملاتنا بين الافراد، ينبغي أولاً الوقوف عند الحد الفاصل بين العفو عن المُسيء، والتساهل مع الفعل السيئ، فالعفو والتسامح يفيد الانسان في تقويم سلوكه والتنبه عن عدم تكرار الخطأ والفعل السيئ، بينما التساهل يفضي الى تكريس الفعل السيئ والاعتراف به كحالة طبيعية...
"عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً فتعافوا يعزّكم الله".
رسول الله، صلى الله عليه وآله
الصفات الأخلاقية ملكات نفسية تنمو في داخل نفس الانسان ولا تخرج الى الواقع الخارجي إلا عند الحاجة، فهي تنتمي الى الحالة المعنوية، بينما المال والسلطة والوجاهة وأشباهها تمثل قوة مادية ملموسة ذات تأثير في الواقع الخارجي على طول الخط.
فالانسان الصبور او المتسامح أو الصادق او القنوع، يسير في الشارع والسوق ولا يقرأ أحد في وجهه سمة معينة، أو يرى شارة دالة على شيء، بينما من يسير في الشارع على متن سيارة فارهة، او يرافقه عدة أشخاص فان الأمر مختلف تماماً.
قبل فترة حدثني أحد الاخوة الزائرين في عيادتهم لي بعد حادث سير، عن حادث سير مشابه وقع مع صاحب دراجة ارتطم بسيارته الفارهة التي كان تعود الى جهة سياسية معروفة، وما أن رأي شرطي المرور –يقول المتحدث- السيارة ومن فيها أصدر أمره فوراً الى صاحب الدراجة بالنهوض ولملمة الحادث وعدم التعقيد ومواصلة طريقه!
هذه الرؤية هي التي أوهمت الكثير بأن تحكيم القيم الأخلاقية في الحياة العملية اليوم مدعاة للضعف والخسارة، بل واستفحال الظلم والتعدّي، ومن أبرز الصفات الاخلاقية المقصودة بهذا؛ العفو والتسامح، في حين إن هذه الصفة كانت تشكل أحد ركائز الامن والاستقرار النفسي والاجتماعي في المجتمع الاسلامي الذي شيّده النبي الأكرم، وإن كانت ثمة مشاحنات بين الافراد، فمنشأها جاهلي، أبرزها العداوات والثارات بين القبائل آنذاك، وهي الحالة الممتدة بذيولها الى الزمن الحاضر، وقد حاول النبي الأكرم، ومن بعده أمير المؤمنين، وحتى الأئمة المعصومين، عليهم السلام، مكافحتها، وإرشاد المجتمع الى أضرارها، بالمقابل التشجيع على التحلّي بالعفو والتسامح بين الافراد والجماعات.
العفو وليس التساهل
حتى يكون للعفو مكانةً مرموقة في سلوكنا اليومي وتعاملاتنا بين الافراد، ينبغي أولاً الوقوف عند الحد الفاصل بين العفو عن المُسيء، والتساهل مع الفعل السيئ، فالعفو والتسامح يفيد الانسان في تقويم سلوكه والتنبه عن عدم تكرار الخطأ والفعل السيئ، بينما التساهل يفضي الى تكريس الفعل السيئ والاعتراف به كحالة طبيعية.
لو نراجع حادثة تكفير أمير المؤمنين من قبل أحد الخوارج، في تعليق له على مسألة شرعية ذكرها الإمام في جمع من أصحابه: "قاتله الله من كافر ما أفقهه"؟! ونلاحظ رد فعل الإمام بأنه "إنما هو سبٌّ بسبّ او عفوٌ عن ذنب"، فالعفو هنا للمذنب والمخطئ، وليس لشخصه ولذاته في محاولة لتذكيره بخطئه او ربما لمساعدته للعودة الى رشده.
في الوقت نفسه نجد الدعوات المؤكدة من أهل البيت، عليهم السلام، على الحزم أمام الظلم بكل اشكاله وأحجامه، فلا عفو أمام ظالم، لأن الظلم ليس هفوة عابرة، او خطأ غير مقصود، بقدر ما هو سلوك ومنهج عند البعض في حياته وفي علاقاته مع الآخرين، فكما يحترم الاسلام الحالة النفسية وتقلباتها العفوية والخارجة عن الإرادة احياناً، فانه يحرص كل الحرص على حقوق عامة الناس من أن يجتاحها الظلم والجور لاسيما فيما يتعلق بالمال، وسائر الممتلكات، وحتى الظلم المعنوي، كأن يكون إطلاق أحكام جائرة، او إشاعة لمقولة غير صحيحة تسبب تشويه السمعة وتسقيط شخص ما.
البناء مقابل الهدم
لو نفترض عدم وجود خصلة العفو في منظومتنا الاخلاقية، و كنّا نحتكم الى الحدود والقصاص والعقاب لأي خطأ يحصل من الصغير او الكبير، وفي كل أرجاء المجتمع، هل يمكن تخيّل المشهد الاجتماعي كيف يكون؟!
أفراد متوترون عصبياً ونفسياً، وقلق دائم من الآخر؛ الأخ، او الأخت، او الزميل في العمل والدراسة، وحتى خلال السير بالسيارة في الشارع، وفي كل مكان، فالقلق والاضطراب يشمل المخطئ وايضاً؛ من لم يرتكب الخطأ ويحتمل صدور الخطأ منه عفوياً في كل لحظة، لئلا تحتوشه أصابع الاتهام وتطارده العقوبات والمطالبة بالتعويض!
الفرصة التي يتحدث عنها علماء النفس والاجتماع ليستعيد الانسان المخطئ ترميم علاقاته مع الآخرين، ومع نفسه ايضاً، لا تأتي عبر الهواء الطلق إنما تتوفر من خلال كلمة العفو والسماح من المحيط الاجتماعي لتمنح صاحبها مجالاً لاستعادة انفاسه والتفكير بهدوء واستقرار في كل ما جرى وفعله، ثم إعادة الحساب في كل ذلك، والخروج بالنتيجة الصحيحة.
هذا ما يتعلق بأحد وجهي القضية؛ المجتمع، يبقى الوجه الآخر والأهم؛ وهو صاحب الخطأ المتوقع العفو والتسامح من الآخرين، فان عليه أن يتوقع عفواً يؤشر الى خطل ما ذهب اليه من فعل او قول، وليس مباركته والربت على كتفه وتصديقه، ومن ثم تكريس الخطأ، فهذا ما لا يرتضيه العقل ولا يتوافق مع القيم الاخلاقية ولا مع المنطق، فكما يعتدّ الفرد بنفسه وبسلوكه وافكاره، فإن للمحيطين به افكارهم وأذواقهم، وكما يحرص على ألا تتعرض شخصيته للخدش بانتقاد او محاسبة، فان شخصية المجتمع –كمسمّى افتراضي- او سائر الافراد والناس جميعاً يحرصون على أن ينخدش الظاهر العام بأخطاء شخصية مثل قول وفعل او حتى طريقة السير والظهور في الشارع.
الناس جميعاً تحب وتحرص على الهدوء والاستقرار واحترام الثوابت والحرمات ليعيش الجميع بسلام وأمان ضمن كيان اجتماعي متماسك.
اضف تعليق