العادات والتقاليد من مكونات الثقافة التي تطبع شخصية الافراد والمجتمعات، وتعطيهم هويتهم الثقافية الخاصة بهم، فهي تتمسك بها وتدافع عنها بوجه الطوارئ من العادات وسائر المفردات الثقافية الوافدة، بقطع النظر عما اذا كانت صحيحة أم لا، لأنها تعيش معهم في مختلف تفاصيل حياتهم...
"إنما بُعثت لإتمم مكارم الأخلاق"
رسول الله، صلى الله عليه وآله
العادات والتقاليد من مكونات الثقافة التي تطبع شخصية الافراد والمجتمعات، وتعطيهم هويتهم الثقافية الخاصة بهم، فهي تتمسك بها وتدافع عنها بوجه الطوارئ من العادات وسائر المفردات الثقافية الوافدة، بقطع النظر عما اذا كانت صحيحة أم لا، لأنها تعيش معهم في مختلف تفاصيل حياتهم؛ في المأكل، والملبس، والسلوك العام، والزواج، والتعاملات في السوق، وغيرها كثير من جوانب الحياة.
لهذه العادات والتقاليد مصادر عدّة، فأحياناً تكون العقيدة مصدراً لها، واحياناً أخرى يكون الحاكم والزعيم المُلهم مصدراً لصياغة بعض هذه العادات، كما إن للوراثة وتقليد الآباء الماضين دوراً في تحولها الى سنّة ثابتة في المجتمع، ومن هذه المصادر ينقسم طريقي الصواب والخطأ، فالعقيدة ربما تضخ تعاليم وأحكام تصوغ من خلالها عادات وتقاليد حسنة وجميلة، كما فعل الإسلام مع أهل المدينة من خلال الأخلاق والآداب التي نشرها الرسول الأكرم بين الناس، ثم مع سكان الجزيرة العربية، ومن ثمّ سائر البلاد التي وصلها شعاع الاسلام، كما أن هذه العقيدة في مكان آخر نراها تضخ تعاليم وأحكام تجعل اتباعه يستلقون على وجوههم في الأرض لتدوس عليهم الابقار ويكتسبوا بذلك البركة والتقرّب الى آلهتهم!
وهكذا؛ ربما نجد رمز سياسي يغرس في نفوس المجتمع عادة العنف في الكلام والسلوك العام، بينما يغرز رمز ديني بالمقابل عادة مراعاة المعوزين لدى تبضعهم في السوق ومجاملتهم بالقول: "احسبها عليّ ربما ليس عندك المالي الكافي"، وأكثر من هذا؛ يلتزم البائع بأن ترجح كفّة الميزان لصالح المشتري تفادياً لخطأ الميزان وفق مبدأ "دقّة ميزان"، وهو ما حصل في العراق.
اصطدام بعض هذه العادات والتقاليد بالتقدم العلمي، وملامستهم للتطور الهائل في وسائل الحياة، وفي الخدمات، الى جانب التلاقح الفكري والثقافي بين الأمم والشعوب من خلال الزيارات المتبادلة، والتعارف السريع والواسع الابعاد بفضل الانترنت، كل هذا دفع بالكثير لأن يفكر بالاستغناء عما تعلّمه من الآباء والاجداد عندما يجد أنها لم تقدم له التكنولوجيا الحديثة، ولا العمران الجميل، ولا الحياة المرفهة التي استمتعت بها شعوب البلاد الغربية في فترة من الزمن.
العلماء والمفكرون حذروا منذ القرن الماضي من مغبة التنكّر للعادات والتقاليد المحلية، والتوسّل بالعادات الغربية للوصول الى منجزات الحضارة الغربية، وأكدوا في كتاباتهم ومحاضراتهم على النتائج العكسية المترتبة على هذا الانحراف الخطير، وأن ارتداء الملابس من ماركات عالمية، او وضع القبعة على الرأس، او الإمساك بالسيجارة في الأماكن العامة، او تناول الاطعمة ذات المنشأ الغربي، وتداول الكلمات الاجنبية، وحتى الأكل بالملعقة والشوكة، ولا حتى الإدمان على قراءة الكتب في البيوت وفي الاماكن العامة، لن يقرّب صاحبه مطلقاً الى حياة التحضّر والتقدم، لأن كل هذه ليست سوى مظاهر تخفي سلوك ونمط من التفكير وظروف اجتماعية خاصة تجعل من تلك العادات مفيدة ومثمرة.
الحلقة المفقودة في هذا الخطاب الثقافي؛ العادات والتقاليد الحسنة الموجودة في مجتمعاتنا، فاذا سئم الناس من بعض الموروث الثقافي، هل يعني أن كل ما لديهم سيئ وغير نافع؟ مع علم الجميع بأن المجتمعات الشرقية لها من الكثير مما هو حسِن وجميل ومتطابق مع العقل والفطرة الانسانية، بل إن المستشرقين سجلوا لديهم الكثير مما أثار استحسانهم، وما لم يألفوه في مجتمعاتهم قط، مثل؛ التطهير بالماء، والاستحمام، وإفشاء السلام، وإكرام الضيف، وإغاثة المحتاج، وعادات لها صلة مباشرة بمنظومة القيم الاخلاقية والدينية المنظمة لحياة الانسان والمجتمع.
ولكن! ما وجدناه طيلة العقود الماضية، سلسلة طويلة من التحذيرات المصحوبة بخطاب سلبي يثير بوجه الناس بعض العادات او الحالات الانسانية الموجودة في كل مكان، مثل؛ الانصياع للأجنبي، والتخاذل، والازدواجية، وعبادة الذات، وخطاب نراه متصلاً بالهمّ السياسي، وسرعة استيلاء الاستعمار البريطاني والفرنسي على البلاد الاسلامية ثقافياً وسياسياً، وعجز أهل البلاد عن إثبات وجودهم وهويتهم التاريخية.
وهذا يذكرني بما قام به صدام في بدايات استيلائه على قمة الحكم عندما توجه الى العراقيين بخطاب يثير فيهم الحميّة والنخوة والشجاعة والأصالة، وكل ما ورثوه من ثقافتهم العربية، فراح ينفخ في البطولة والكرم والقوة، مستصحباً الرموز التاريخية لتكريس صور الفرسان الشجعان والقادة الفاتحين، فكانت النتيجة لديه؛ خلق عادة العنف والقسوة في السلوك العام، بدءاً من طريقة التكلم، وحتى حل المشاكل بين الجيران والاصدقاء، لتتنحى قيم مثل التسامح، والعفو، والإحسان، التي كان يعرفها العراقيون منذ زمن بعيد، كل هذا من أجل تحقيق هدف واحد؛ أن يقف الجميع تحت كرسي الحكم للحفاظ على استقراره، مع تنفيذ ما يأتي من الأعلى، حتى وإن تسبب في الموت الزؤام بعشرات الآلاف في حرب عبثية دامت ثمان سنوات.
ففي بلد مثل العراق بعمقه الحضاري، وريادته في ابتكار الكتابة، وسنّ القوانين، واختراع العجلة، وبعمقه الثقافي ذو الاربعة عشر قرناً، فانه يمتلك خزيناً ثرياً من العادات والتقاليد الحسنة ذات المدخلية في صياغة الشخصية والهوية القادرة على خلق إرادة وعزيمة تحتاجها مشاريع النهوض والتنمية والتطور.
عادة الكرم واستضافة الغرباء بالشكل المذهل الذي رآه العالم بأسره خلال زيارة أربعين الامام الحسين، تمثل واحدة من هذا الموروث الضخم، وقد ظهرت وتبلورت بشكل عفوي تماماً خلال مناسبة لم تكن من صنع أحد، ولم ينفق أحد شيئاً او يخطط لها، فهي موجودة منذ مئات السنين، علاوة على هذا؛ فان الكرم، يمثل الحالة النفسية الايجابية المتقدمة لدى الانسان، فهي تحتاج لأن يكون صاحبها صادقاً، مسالماً، ودوداً، خالياً من العقد النفسية، حتى يكون عطاءه عفوياً دون تكلّف.
إن الحديث الدائم عن العادات السيئة عند الطفل الصغير والرجل الكبير، وما نلاحظه في المجتمع لا يكفي لأن نأمن شرها، إنما نحتاج بالدرجة الاولى بلورة ما لدينا من عادات وتقاليد حسنة نسيناها من الآباء والأمهات، طالما خلقت الحياة الطيبة في سالف الزمان، واليوم نستذكر تلك الأيام والزمن الجميل دون أن نعرف من صنع ذلك الزمن الجميل، وهل ظهر فجأة ثم اختفى فجأة؟!
التزاور بين الجيران وبين الاقارب والأرحام، وتعميق العلاقة بين الأب وابنه، وبين الأم وابنتها، والتنزه عائلياً مع إعداد موائد الطعام في أحضان الطبيعة، و التأكيد على الثقة المتبادلة والصدق والأمانة في السوق والتعاملات التجارية، وغيرها كثير من شأنها أن تصوغ شخصية الانسان والمجتمع القادر على خلق واقع جديد وجميل، وهو تحديداً ما فعله رسول الله، صلى الله عليه وآله في بدء تأسيسه للمجتمع الاسلامي الأول، بأن لاحظ العادات الحسنة الموجودة، ثم أضفى عليها التعديلات المطلوبة، و زاد عليها مما بشّرت به السماء من قيم وأحكام وآداب.
اضف تعليق