ينظر الكثيرون إلى الهيدروجين بوصفه الوقود "المعجزة" الذي من شأنه أن ينقذ العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري، في ظل السعي إلى خفض انبعاثات الكربون بعيدًا عن الوقود الأحفوري، ومع ذلك، فإن تحقيق مستوى أقل من الطموحات التي ينطوي عليها الهيدروجين ما يزال أمرًا شاقًا...
ينظر الكثيرون إلى الهيدروجين بوصفه الوقود "المعجزة" الذي من شأنه أن ينقذ العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري، في ظل السعي إلى خفض انبعاثات الكربون بعيدًا عن الوقود الأحفوري، ومع ذلك، فإن تحقيق مستوى أقل من الطموحات التي ينطوي عليها الهيدروجين ما يزال أمرًا شاقًا، كما أن آفاقه لا تخدمها الضجة المتعلقة بالوقود؛ نظرًا لما يواجهه من صعوبات متعددة.
ووفق المعلومات التي رصدتها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، تُعدّ زيادة إنتاج الهيدروجين أبطأ بكثير مما كان متوقعًا، والآن تبدو أهداف عام 2030 بعيدة المنال على الإطلاق، ولا تكمن المشكلة -فقط- في أن زيادة كميات الهيدروجين أصعب من المأمول؛ ولكن هناك -أيضًا- شكوك متزايدة بشأن مدى فائدته على أرض الواقع.
نظرة مختلفة
شهدت تكاليف الدفعة الأولى من مشروعات الهيدروجين عدّة مراجعات، وفي بعض الحالات تضاعفت، ولم تحقق إعانات الدعم حتى الآن أيّ شيء مثل الدفعة المطلوبة، وفي الواقع، ربما تُصرف 200 مليار دولار من الإعانات في الوقت المناسب لتوليد الهيدروجين بحلول عام 2030؛ مقارنةً بمبلغ تريليونين إلى 4 تريليونات دولار المطلوب لتحقيق الأهداف التي اقترحها صنّاع السياسات، وفق تقديرات شركة ليبريش أسوشيتس (Liebreich Associates).
وفي الوقت نفسه، حققت التقنيات القائمة على الكهرباء، مثل البطاريات الحرارية الكهربائية والمضخات الحرارية، تقدمًا كبيرًا، وأصبحت خيارات قابلة للتطبيق في القطاعات التي كان من المتوقع أن يؤدي فيها الهيدروجين دورًا رائدًا.
وإذا أوفت هذه الأمور بوعدها، قد يكون دور الهيدروجين في الحياد الكربوني عام 2050 أقرب إلى 350 مليون طن سنويًا، أي أقل من نصف التقديرات الأكثر تفاؤلًا، بحسب ما اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة في تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times).
وإلى حدٍّ ما، يُعدّ مثل هذه التقلبات في المشاعر نموذجيًا للتقنيات الجديدة، التي تمرّ بدورة من الإثارة وخيبة الأمل، قبل أن تستقر في التكوين النهائي، وما يزال الهيدروجين يحرز تقدمًا، وسيؤدي دورًا في مزيج الطاقة؛ لكن النظرة الحقيقية للوقود تقلّصت بشكل كبير.
إنتاج أقل
المشكلة الأولى التي تواجه الهيدروجين الأخضر هي أنه لا يوجد منه سوى القليل جدًا حتى الآن، إن الهيدروجين المستعمل اليوم هو -في الغالب- ما يُسمى بـ"الرمادي"، المستخرج من الغاز الطبيعي بينما ينبعث الكربون؛ ويُستهلك نحو 100 مليون طن سنويًا في المصافي ومصانع الأسمدة.
كما أن مشروعات الهيدروجين الأخضر الوحيدة العاملة هي محطات توضيحية أو تجريبية، ويبلغ إجمالي الإنتاج السنوي أقل من 0.1 مليون طن سنويًا، أي نحو خُمس ما كان المطورون يتوقعون تحقيقه بحلول عام 2022، وفق ما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
ويبذل أولئك الذين لديهم اهتمام بمستقبل الوقود جهودًا شجاعة للحفاظ على استمرار الزخم؛ إذ ما يزال المطورون يعلنون مشروعاتهم؛ ما يؤدي لزيادة الإجمالي المحتمل إلى 45 مليون طن سنويًا بحلول عام 2030، وفقًا لتقرير شركة ماكنزي (McKinsey) لمجلس الهيدروجين.
ومع ذلك، نجح عدد قليل جدًا من المشروعات في الخروج من طور التخطيط إلى مراحل أكثر تقدمًا من التطوير، فقد اتُّخِذت قرارات الاستثمار النهائية -وهي الخطوة الحاسمة التي يبدأ بعدها تدفّق النفقات الرأسمالية جدّيًّا- بشأن طاقة إنتاجية تبلغ 3 ملايين طن سنويًا؛ ما يجعل الحصول على 70 مليون طن سنويًا من الطاقة بحلول عام 2030 يبدو غريبًا.
وفي الواقع، يقدّر تقرير حديث صادر عن شركة بلومبرغ نيو إنرجي فايننس الاستشارية (BloombergNEF) أن الرقم القابل للتحقيق قد يكون أقرب إلى 16 مليون طن سنويًا، وإلى حدٍّ ما، كان من المتوقع حدوث تأخير في زيادة الهيدروجين الأخضر، نتيجة التوقعات الطائشة فيما يتعلق بالوقود، إذ يستغرق الأمر عدّة سنوات للحصول على التقنيات واسعة النطاق بشكل صحيح.
ارتفاع التكاليف
علاوةً على ذلك، تعطلت الموجة الأولى من المشروعات بسبب ارتفاع التكاليف، اليوم، ربما يكلف مصنع التحليل الكهربائي 2000 دولار لكل كيلوواط من القدرة، وفقًا لماركوس ويلثانير من شركة ماكنزي، مع وجود اختلافات كبيرة بين المشروعات، اعتمادًا على كيفية تكوينها، ما يزيد بنسبة تصل إلى 65% عمّا توقَّع المطورون دفعه بحلول هذا الوقت، وفقًا لمجلس الهيدروجين، المشكلة تتجاوز جهاز التحليل الكهربائي نفسه، إلى كل ما يحتاج إليه تشغيل جهاز التحليل الكهربائي.
أجهزة التحليل الكهربائي
وتعني الزيادة في تكلفة المواد والعمالة أن الأنابيب والخطوط والمبردات والمضخات ومرافق تنقية المياه وأيّ أعمال بناء، تُضاعف تقريبًا تكلفة جهاز التحليل الكهربائي الذي توفره الشركة المصنّعة، وفقًا لشركة بي 3 إنرجي سولوشينز (P3 Energy Solutions).أضف إلى ذلك ارتفاع تكاليف التمويل، إذ شهدت المشروعات تضخمًا في متطلباتها الاستثمارية.
وفي العديد من مناطق العالم، تعدّ الكهرباء الخضراء اللازمة لتشغيل أجهزة التحليل الكهربائي أكثر تكلفة مما كان متوقعًا؛ كما من المتوقع أن يكلّف إنتاج الهيدروجين الأخضر على المدى القريب ما بين 4.50 دولارًا و6.50 دولارًا للكيلوغرام الواحد، وكانت التقديرات الأكثر تفاؤلًا قد توقعت انخفاض التكلفة إلى نحو 3 دولارات/كيلوغرام في النطاق الزمني نفسه، وهذا مبلغ كبير يجب دفعه مقابل الطاقة.
وبالنظر إلى أن كيلوغرامًا واحدًا من الهيدروجين يحتوي على 33.3 كيلوواط/ساعة، فإنه في الجزء العلوي من النطاق يُترجم إلى 216 دولارًا (200 يورو) لكل ميغاواط/ساعة.
وهذا فقط لإنتاج الوقود، وإذا كان المشروع يتطلب النقل والتخزين، يمكن أن ترتفع التكاليف بسرعة أكبر، وعلى سبيل المقارنة، تبلغ تكلفة الغاز الطبيعي 8 دولارات لكل ميغاواط/ساعة في الولايات المتحدة، ونحو 30 يورو لكل ميغاواط/ساعة في أوروبا، وربما يكلّف الهيدروجين الرمادي 80 يورو (87 دولارًا) لكل ميغاواط/ساعة، بما في ذلك سعر الكربون لانبعاثاته.
المعنى الضمني هو أن "العلاوة الخضراء" للهيدروجين -التكلفة الإضافية التي يتحمّلها المستهلكون الحاليون للهيدروجين مثل مصافي التكرير ومنتجي الأسمدة للتحول إلى الطاقة الخضراء- تبلغ 120 يورو (130 دولارًا) لكل ميغاواط/ساعة.
تأخير أم خروج عن المسار؟
من الناحية النظرية، لا ينبغي أن يؤدي تأخير الهيدروجين بالضرورة إلى إضعاف مستقبل الوقود على المدى الطويل، بوصفه عنصرًا مهمًا في تحول الطاقة، وفي نهاية المطاف، فإن استعمال الكهرباء الخضراء لإنتاج الهيدروجين ثم حرقه، هو استعمال غير فاعل إلى حدّ كبير لمصادر الطاقة المتجددة الأصلية.
وكان المقصود -فقط- إزالة الكربون من قطاعات الاقتصاد التي لا تستطيع الكهرباء إزالة الكربون منها مباشرةً -مثل النقل لمسافات طويلة وبعض الصناعات-، إمّا بسبب القيود التقنية أو التكاليف.
حالات الاستعمال الأخرى المقترحة للهيدروجين بدت ضعيفة لمدّة طويلة؛ إذ لا يُعدّ وسيلة موفرة للطاقة لتشغيل السيارات، كما توفر المضخات الحرارية بديلًا أكثر فاعلية بكثير للتدفئة المنزلية.
كما أصبح دور الوقود مهددًا من خلال تطوير البطاريات الحرارية الكهربائية التي تستعمل الكهرباء لتسخين الطوب والصخور، والتي يُمكن استعمالها بعد ذلك لتوفير الحرارة الصناعية ذات درجة الحرارة العالية؛ ما سيكون بمثابة تغيير في قواعد اللعبة بالنسبة لهذه الصناعة.
والبطاريات الحرارية ليست فقط أكثر كفاءة من حرق الهيدروجين؛ بل سيكون بمقدورها -أيضًا- الحصول على كهرباء خضراء أرخص، لأنه يمكن شحنها عندما تكون مصادر الطاقة المتجددة وفيرة وتكون التكاليف أقل.
ونظرًا للعيب التنافسي للهيدروجين في هذه القطاعات، فقد استبعدته معظم السيناريوهات من التوقعات طويلة المدى، ووفق ما اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة، فإن المشكلة هي أنه حتى هذا المجال المحدود يبدو أنه يتقلص؛ إذ هدد التقدم في التقنيات المعتمدة على الكهرباء الدور المحتمل للهيدروجين في الحرارة الصناعية.
كما يبدو أن نقل الهيدروجين بالشاحنات أكثر صعوبة، نظرًا لتحسّن تقنيات البطاريات وصعوبة توفير البنية التحتية للتزود بوقود الهيدروجين، ويتعرض دور الوقود في النقل بالشاحنات الثقيلة للتهديد -أيضًا-؛ إذ تعدّ البطاريات الخيار المفضل للشاحنات الصغيرة التي تقوم برحلات أقصر، ويوضح الجدول التالي -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- توقعات الطلب على الهيدروجين وفق سيناريو الحياد الكربوني:
توقعات الطلب على الهيدروجين
أحد التحديات التي تواجه الهيدروجين هو أنه مع تحسّن البطاريات، ستزيد الشاحنات الكهربائية من حمولاتها ومداها؛ فمن المتوقع أن يصل مدى أحدث الشاحنات من دايملر وفولفو وتيسلا إلى ما بين 500 كيلومتر و800 كيلومتر.
وهناك مشكلة أخرى، بالنسبة للهيدروجين، وهي أنه لتزويد الشاحنات بالوقود، يجب توزيعه على نطاق واسع، على الأقل بطول الطرق الرئيسة.
ورغم ذلك، مع تقلّص نطاق حالات الاستعمال، فقد ينتهي الأمر بالهيدروجين بشكل متزايد إلى التجمعات الصناعية؛ الأمر الذي يجعل من الصعب نقله بالشاحنات إلى البنية التحتية القائمة، ما يُضاف -بدوره- إلى التكلفة والتعقيد.
توقعات الطلب على الهيدروجين
على الرغم من التقدم في تقنيات البطاريات، ما يزال هناك عدد من القطاعات يظل فيها الهيدروجين الخيار الأكثر جدوى لإزالة الكربون.
ويشمل ذلك الصناعات التي تستعمل اليوم الهيدروجين الرمادي لصنع الأمونيا والأسمدة وما شابه ذلك، الذي قد يمثّل نحو 60-85 مليون طن سنويًا من الطلب على الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2050، وفق ما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وقد يُستهلك 120 مليون طن إضافي من الوقود في الصناعات التي تتطلبه بوصفه مادة وسيطة، بدلًا من من مجرد توفير الحرارة، وقد تتطلب إزالة الكربون من وسائل النقل الثقيلة، وخاصةً السفن والطائرات، 175 مليون طن سنويًا من الهيدروجين، وتشير التوقعات إلى أن الطلب على الهيدروجين بمقدار 350 مليون طن سنويًا بحلول عام 2050 قد يكون افتراضًا معقولًا.
ومع تزايد دور الكهرباء المتجددة في نظام الطاقة، فإن الحاجة إلى التخزين طويل الأجل -ربما من الصيف إلى الشتاء- تميل إلى الارتفاع؛ وهذا يفتح دورًا أكبر للهيدروجين لتحقيق استقرار الشبكة، وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن الأمر أبطأ من المأمول، فإنه ما تزال هناك علامات على التقدم؛ فمن المقرر أن يبدأ مشروع الهيدروجين العملاق نيوم في السعودية عام 2026.
وفي أوروبا، حيث أنشأ توجيه الطاقة المتجددة التزامًا بأن يحل ّالهيدروجين الأخضر محلّ 42% من الهيدروجين الرمادي بحلول عام 2030، كانت هناك بعض قرارات الاستثمار النهائية التي تركّز على مصافي التكرير ومصانع الكيماويات، وتشمل هذه الشركات مجمع لينغين التابع لشركة بي بي (BP) في ألمانيا، وجهاز التحليل الكهربائي التابع لشركة شل (Shell) بقدرة 200 ميغاواط في روتردام.
استثمارات مشروعات الهيدروجين
وهناك إشارة إيجابية مبكرة أخرى كانت نتيجة المزاد الأول الذي أداره بنك الهيدروجين الأوروبي، الذي أُنشئ لتقديم الدعم لأرخص المشروعات الجديدة. واختارت العملية 7 مشروعات من أصل 132، بقدرة على توفير 1.58 مليون طن سنويًا.
وتلقّت المشروعات أقل من 0.50 يورو (0.54 دولارًا) من الدعم لكل كيلوغرام منتج، ما يسلّط الضوء على أنه في بعض المجالات الصغيرة على الأقلّ هناك حالات تجارية محتملة قابلة للتطبيق وبأسعار معقولة، وتقع 5 من المشروعات الـ7 الفائزة في أيبيريا المشمسة، ما يشير -أيضًا- إلى الفوارق الهائلة التي ستوجد بين المواقع الأوروبية، حيث تكون الطاقة النظيفة أكثر وفرة، وتلك التي سيتعين عليها استيراد الوقود الذي تحتاج إليه.
اضف تعليق