توفر القناعة والإرادة السياسية بأن التعليم يمثل أولوية قصوى في اهتمام هذه القيادات، ويتوقف عليه مصير بناء الدولة والمجتمع في العراق، وتأكيد هذه الأولوية من خلال رفع النسب المخصصة له في الموازنة العامة السنوية لتوازي تلك النسب الموجودة في بلدان أخرى مجاورة او تتفوق عليها، فبدون هذه القناعة والإرادة...

لا يمكن انكار ان التعليم الجامعي في العراق قد خطى خطوات مهمة في طريق التقدم، من حيث عدد الجامعات والمعاهد، وتنوع التخصصات على مستوى الدراسات الأولية والعليا، وعدد الطلبة الذين يرتادونه او يرغبون في اكمال دراستهم الجامعية، فالمقارنة بين وضع التعليم الجامعي العراقي اليوم ووضعه قبل خمسين سنة تميل قطعا لمصلحته، ولكن ذلك لا يعني انه يسير بلا تحديات وصعوبات تقتضي الاعتراف بها ومواجهتها قبل استفحالها وتحولها الى مرض مزمن يخربه ويضعف معايير الجودة فيه او تحوله الى عامل سلبي في بناء الدولة والمجتمع.

تحديات التعليم الجامعي

توجد جملة من التحديات التي تواجه تعليمنا الجامعي، وهي مؤشرة من قبل الكثير من العاملين في هذا القطاع، ولكن أحيانا يتم التقليل من شأنها او عدم البوح بها؛ لأسباب وحجج مختلفة، ومن أبرز هذه التحديات، ما يلي:

التحدي الأول- الفجوة الواسعة بين مخرجات التعليم الجامعي ومدخلات التوظيف الحكومي.

ونقصد بهذه الفجوة هي نسبة الخريجين الذين يجري توظيفهم رسميا قياسا الى العدد الكلي للمتخرجين من المؤسسات الجامعية: الحكومية والأهلية. 

ولتحديد هذه الفجوة جرى الرجوع الى التقارير والبيانات الرسمية الصادرة من المؤسسات الحكومية العراقية، ومنها الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، والذي وفر معلومات حول عدد المقبولين والمتخرجين في الدراسات الأولية والعليا (ماجستير ودكتوراه)، ولكن فقط للسنوات 2015-2020 وهي بيانات لا تشمل إقليم كوردستان العراق، والمحافظات التي كانت تسمى ساخنة في وقتها نتيجة محاربة التنظيمات الإرهابية، وهي محافظات: نينوى، صلاح الدين، الانبار، كركوك. 

اما بالنسبة لبقية السنوات (2021-2023) فتم الاستعانة بالبيانات الرسمية الصادرة عن وزارة التعليم العراقية، ولكنها للأسف لم تكن معلنة بشكل كامل، فهي لم توفر معلومات عن عدد المقبولين في الدراسات الأولية لسنة 2022، والخريجين للسنتين 2022 و2023، كما لم توفر معلومات عن عدد الخريجين من الدراسات العليا للسنوات الثلاثة 2021 و2022 و2023. 

وفيما يتعلق ببيانات التوظيف فتم الحصول عليها من خلال التقارير السنوية الصادرة عن مجلس الخدمة الاتحادية للسنوات الثلاث 2021 و2022 و2023 وهي التقارير الوحيدة التي أصدرها المجلس بهذا الخصوص؛ كون المجلس وفقا لما جاء في المادة (9/ثانيا) من قانونه رقم (4) لسنة 2009 هو الجهة المتخصصة حصرا بـ " التعيين وإعادة التعيين والترقية في الخدمة العامة..." في العراق.

وبعد جمع المعلومات من الجهات المشار لها في أعلاه، تم تنظيمها في جدولين: الجدول رقم (1) وهو الذي يعرض بيانات حول عدد المقبولين والمتخرجين في العراق من المؤسسات الجامعية الحكومية والأهلية، للسنوات 2015-2023 باستثناء السنوات التي لم يوفق الباحث في الحصول على معلومات بشأنها، والجدول رقم (2) الذي يعرض معلومات التوظيف خلال نفس المدة، ويتبين من خلال هذين الجدولين، ما يأتي:

الجدول رقم (1) من اعداد الباحث ويتضمن معلومات القبول والتخرج وفقا للبيانات المنشورة من قبل الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية للسنوات 2015-2020، والمعلومات المتوفرة من بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية للسنوات 2021-2023

وفقا للجدول رقم (1) أعلاه يتضح ان عدد المقبولين في الدراسات الأولية داخل المؤسسات الجامعية العراقية الحكومية والأهلية للسنوات 2015-2023 هو (1819856) مليون وثمانمائة وتسعة عشر الف وثمانمائة وستة وخمسين طالبا وطالبة، اما عدد المتخرجين لنفس المدة باستثناء سنتي 2022 و2023 فهو (1049969) مليون وتسعة وأربعين الفا وتسعمائة وتسع وستين طالبا وطالبة، ولو اضيف عدد السنتين الأخيرتين لكان الرقم اكبر بكثير اذا اخذنا بعين الاعتبار ان عدد المقبولين في سنة 2015 هو (160013 ) مائة وستين الفا وثلاثة عشر طالبا وطالبة، بينما هو في سنة 2023 (245291) مائتان وخمسة وأربعين الفا ومائتان وواحد وتسعين طالبا وطالبة، أي بزيادة تعادل تقريبا 55%.

اما بالنسبة للمقبولين في الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) خلال نفس المدة باستثناء سنة 2022 فهو (109386) مائة وتسعة الفا وثلاثمائة وست وثمانين طالبا وطالبا، بينما عدد المتخرجين لنفس المدة باستثناء السنوات 2021 و2022 و2023 فبلغ (53798) ثلاثة وخمسين الفا وسبعمائة وثمانية وتسعين طالبا وطالبا، ولو اضيف اليه عدد المتخرجين للسنوات الثلاث الأخيرة فسيكون الرقم اكبر بكثير جدا، اذا اخذنا بعين الاعتبار ان عدد المقبولين في سنة 2015 هو (8442) ثمانية الاف واربعمائة واثنين وأربعين طالبا وطالبة، بينما عدد المقاعد الدراسية المخصصة للدراسات العليا في سنة 2023 بلغ (28800) ثمانية وعشرين الفا وثمانمائة طالبا وطالبة، أي بزيادة تعادل اكثر من 300%.

علي أي حال، إذا اعتمدنا البيانات المتوفرة للسنوات أعلاه، سنجد ان مجموع المقبولين في الدراسات الأولية والعليا في المؤسسات الجامعية العراقية بلغ (1929242) مليون وتسعمائة وتسع وعشرين الفا ومائتان واثنين وأربعين طالبا وطالبة، بينما بلغ عدد المتخرجين (1103767) مليون ومائة وثلاثة الفا وسبعمائة وسبع وستين طالبا وطالبة، وسيتم اعتماد هذا الرقم على الرغم من عدم دقته كمعيار لقياس الفجوة بين مخرجات التعليم الجامعي الحكومي والاهلي ومدخلات التوظيف الحكومي عند عرض بيانات التوظيف الواردة في الجدول رقم (2).

الجدول رقم (2) من اعداد الباحث ويتضمن بيانات التوظيف استنادا الى التقارير السنوية الصادرة عن مجلس الخدمة الاتحادي للسنوات 2021-2023 وهي تتضمن بيانات التعيين للمدة 2016-2023.

وقبل الحديث عن بيانات التوظيف، ينبغي الإشارة الى ان تقارير مجلس الخدمة الاتحادي لا تقتصر على السنوات الثلاث (2021-2023) على الرغم من صدورها فيها، بل تعود بيانات التوظيف الى سنة 2016 صعودا؛ لأن الحكومة العراقية خلال هذه المدة لم تقم باي توظيف مهم بسبب انشغالها بالصراع مع التنظيمات الإرهابية، وضعف الموازنة السنوية الناجم عن هذا الصراع، فضلا على انخفاض أسعار النفط العالمية، هذا من جانب. ومن جانب آخر فان بيانات التوظيف الواردة في الجدول (2) أعلاه تشمل التوظيف الحاصل عن طريق نافذة التوظيف الالكتروني الذي أطلقه مجلس الخدمة الاتحادي، إضافة الى التوظيف الحاصل خارج هذه النافذة، وبجمع الذين تم توظيفهم من كلا المسارين يتضح ان مجموعهم حتى كتابة هذه الورقة البحثية بلغ (197940) مائة وسبع وتسعين الفا وتسعمائة وأربعين.

وعند مقارنة عدد الخريجين اعلاه (1103767)، بعدد المعينين المعلن عنه من قبل مجلس الخدمة الاتحادي (197940) ستجد ان نسبة مدخلات التوظيف الى مخرجات التعليم تقل عن 20%. نعم قد توجد ارقام أخرى من التعيين لم يتم ذكرها في البيانات أعلاه، لاسيما أولئك الذين تم تعيينهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية او الذين تم التعاقد معهم بسبب حاجة مؤسسات الدولة لخدماتهم او طلاب الدراسات المسائية المعينين في مؤسسات الدولة قبل ارتباطهم بدراستهم الجامعية، ولكن تبقى هناك فجوة كبيرة للغاية بين مخرجات التعليم ومدخلات التوظيف تتراوح بين 60-70% في أحسن الأحوال.

وهذه الفجوة تعني:

- ان التعليم الجامعي العراقي يغذي سوق البطالة باستمرار وبصورة متصاعدة، بسبب اتساع قاعدته الناجمة عن الاستمرار في استحداث المزيد من الجامعات والكليات الجامعة والمعاهد الحكومية والأهلية، في الوقت الذي يعجز سوق العمل العام والخاص عن الاستجابة المناسبة لمخرجات هذا التعليم.

- وجود اعداد هائلة بلا عمل او تعمل في مهن لا علاقة لها بالشهادة التي تحملها من الخريجين من الدراسات الأولية والعليا وفي مختلف التخصصات، مما يعني ان الحكومة والعوائل العراقية قد انفقت أموالا ضخمة، وبذلت جهودا شاقة ولسنوات طويلة على تعليم لا توجد حاجة حقيقية له.

- تحول الشباب الخريجين ممن يعانون من البطالة وعدم تكوين الذات الى طاقة سلبية هدامة في المجتمع اكثر بكثير من اقرانهم الشباب غير الخريجين الذين يمكنهم العمل في المهن المتوفرة بدون وجود حاجز نفسي يسمى الشهادة، وهذا يعني ان تعليمنا الجامعي بمساره الحالي قد يصبح سببا في تهديد الامن والاستقرار للدولة والمجتمع في المستقبل؛ لان الشعور بالخيبة والإحباط لدى الشباب يجعلهم سريعي التأثر بالأفكار والحركات الراديكالية المتطرفة، وهذا ما حصل بالنسبة للحركات النازية والشوفينية السابقة، وما يحصل لدى الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة في الوقت الحاضر، فالخوف من المستقبل وعدم الأمان الوظيفي أمر خطر يهدد السلم المجتمعي.

- غلبة المعيار الكمي على المعيار النوعي في تحديد معالم سياستنا التعليمية، نتيجة الاستمرار في فتح تخصصات علمية لا حاجة لها في سوق العمل، او المبالغة في تحديد اعداد الطلبة الدارسين فيها خارج نطاق الطاقة الاستيعابية للمؤسسات الجامعية، وفوق الحاجة الفعلية لها في سوق العمل، ولا يقتصر ذلك على التخصصات الإنسانية فقط، بل يشمل حتى التخصصات العلمية، ومنها المجموعة الطبية، فغياب التخطيط السليم، والتعاون المثمر بين وزارة التخطيط ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي دفع المؤسسات الجامعية الحكومية والمستثمرين الى استحداث الكثير من الكليات والاقسام العلمية ضمن الاختصاص الواحد، فكانت النتيجة فائض كبير في عدد المتخرجين من هذا التخصص من الذين لا يقوى سوق العمل العام والخاص على استيعابهم، كما هو الحال مع تخصص القانون، والصيدلة وغيرها من التخصصات التي كانت في يوم ما مطلوبة في سوق العمل، ثم أصبحت عبأ عليه فيما بعد.

التحدي الثاني-عدم استقرار السياسة التعليمية

تحتاج المؤسسات من اجل نجاحها وتطورها الى وجود سياسة واضحة ومستقرة وطويلة الامد في ادارتها وتنظيمها وتحديد أهدافها القريبة والبعيدة؛ فوضوح واستقرار وثبات هذه السياسة يساعد على خلق منظومة متماسكة من الأعراف والقيم والضوابط الوظيفية لقياداتها والعاملين فيها، مما يمكنهم من معرفة توجهات مؤسساتهم، واستيعاب رؤيتها ورسالتها وأهدافها، ومن ثم وضع الخطط والبرامج والفعاليات التي تضمن الوصول اليها.

وهذه القاعدة المهمة لم يتم -للأسف- احترامها والعمل بها داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية-بصرف النظر عن الأسباب- ولذلك تجد ان توجهات الوزارة وتشكيلاتها الأخرى تتغير من وزير وقيادة جامعية الى أخرى، اذ لا يوجد تكامل بين عمل السابق واللاحق من الوزراء والقيادات الجامعية في تحديد استراتيجية الوزارة، وطريقة ادارتها، وتنظيم عملها، وكيفية تحقيق رؤيتها وأهدافها، حتى وصل الاختلاف الى أنظمة التدريس والامتحان واختيار القيادات وتقييم أداء العاملين في المؤسسات الجامعية.

لقد ترتب على هذا الامر ارتباكا واضحا في عمل الوزارة، ترك اضرارا كبيرة على الإدارات الجامعية والعاملين فيها، وهذا بدوره انعكس سلبا على أدائها وطريقة تنفيذ مهامها.

التحدي الثالث- سوء نظام التوظيف في المؤسسات الجامعية

المؤسسات الجامعية مؤسسات عالية الكفاءة والجودة في أي دولة من دول العالم، وعليه فان اختيار العاملين داخلها يتطلب شروطا معينة تضمن اهليتهم للعمل فيها، سواء كانوا تدريسيين ام باحثين ام موظفين اداريين، ولكن هذه الشروط لم يتم العناية بها كثيرا في الوقت الحاضر، فالشهادة هي المعيار الاساس للتوظيف في هذه المؤسسات حالها حال بقية مؤسسات الدولة الأخرى، ولم يضاف اليها شرط الخبرة والمؤهلات الشخصية، ولذا تجد ان مؤسساتنا الجامعية اُتخمت بعدد كبير من الموظفين والمتعاقدين غير المؤهلين للعمل فيها، وحتى شرط السنة المنصوص عليه لتثبيت الموظف في الملاك الدائم غالبا ما يتم المجاملة والتهاون فيه. 

إضافة الى هذا الخلل في نظام التوظيف، هناك خلل اخر يتمثل في قبول اعداد كبيرة جدا من الموظفين تفيض عن حاجات المؤسسات الجامعية، لاسيما من التدريسيين، سواء أولئك الذين يتم توظيفهم عن طريق مجلس الخدمة الاتحادي ام الذين يتم نقلهم من وزارات الدولة الأخرى، مما أربك عمل هذه المؤسسات وجعل قياداتها الإدارية تصب جل وقتها على كيفية توفير النصاب التدريسي لهذه الاعداد الكبيرة أكثر من اهتمامها بتطويرهم وتدريبهم ومتابعة مدى اهليتهم للعمل فيها.

ان هكذا نظام للتوظيف في المؤسسات الجامعية غير مناسب للحفاظ على دورها المتوقع منها، بل ويتسبب في ضعف أدائها، وفي نفس الوقت يجعلها مترهلة وغارقة في بطالة مقنعة، تصيب العاملين فيها باللامبالاة وعدم المسؤولية في تحديد الدور المطلوب منهم.

التحدي الرابع- سوء نظام قبول الطلبة في المؤسسات الجامعية

يعتمد نظام قبول الطلبة في مؤسساتنا الجامعية على معدل الطالب فقط، ولا يأخذ بعين الاعتبار اهتماماته العلمية، واهليته للتخصص العلمي الذي يختاره، وما المقابلات التي تجري شكليا مع الطالب الا مجرد روتين رسمي لا يمكن الوثوق فيه. 

لقد تسبب هذا النظام في تضليل الطلبة، وارهاقهم وعوائلهم، لاسيما مع حرصهم على اختيار تخصصات علمية يعتقدونها مضمونة التعيين في مؤسسات الدولة الرسمية مثل: المجموعة الطبية، او مضمونة العمل في الحد الأدنى في الحياة الخاصة، مثل: تخصص القانون، ولكن النتيجة كانت هي تخريج أفواج هائلة من الطلاب غير المؤهلين -غالبا- وغير الراغبين -أحيانا- من هذه التخصصات حتى فاضت عن الحاجة في سوق التوظيف الحكومي والخاص، مما انعكس سلبا على ما يقدمونه من خدمات ضعيفة للدولة والمجتمع، فمع الكثرة وعدم الرغبة يضعف الأداء وتقل الكفاءة، على عكس الحال عندما تكون هناك ندرة ورغبة وحاجة في سوق العمل. 

التحدي الخامس- تأثير العامل السياسي

تحتاج المؤسسات المهنية، كالمؤسسات الجامعية الى الابتعاد عن التأثيرات السياسية، وان تحافظ على استقلاليتها ومهنيتها وأداء الدور المتوقع منها، فخضوعها لهذه التأثيرات يتسبب بأضرار جسيمة لها. وهذا القاعدة المهمة لم يجر العمل بها في معظم بلدان العالم النامي، بل وبعض دول العالم المتقدمة، فكثيرا ما كانت هذه المؤسسات ضحية الصراعات والامزجة السياسية للقابضين على السلطة؛ بقصد التحكم بسياساتها، واداراتها، ومساراتها العلمية، والحد من استقلاليتها، والاستفادة من قدراتها في التأثير في الرأي العام.

ولم تسلم المؤسسات الجامعية طوال عمر الدولة العراقية الحديثة من تمدد التأثيرات السياسية الى حرمها، سواء في تعبئة طلابها لمصلحة هذه الجهة السياسية او تلك، او في اختيار قياداتها بناء على معايير سياسية محددة، او توجيه سياستها التعليمية باتجاهات ايديلوجية تتناسب مع توجهات القابضين على السلطة. وعلى الرغم من التغيير الذي حصل في العراق بعد سنة 2003، وتبني النظام الديمقراطي كنظام للحكم وتنظيم العلاقات والمؤسسات في العراق، الا ان التأثيرات السياسية على المؤسسات التعليمية الجامعية لا زال موجودا، ويترك تأثيرات سيئة على العمل الجامعي، وهو في بعض الاحيان يكون ظاهرا وبارزا بقوة، وفي أحيان أخرى يكون ضمنيا ومستورا ولا يجري الحديث حوله.

التحدي السادس- ضعف موازنة التربية والتعليم في الموازنة العامة للدولة

يمكن تلمس مقدار الاهتمام بالتعليم في العراق من خلال ما خُصص لوزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي من موارد في الموازنة العامة للدولة، فكما يقال: "ان الأولويات تُكتشف حقيقتها من خلال الموازنات". 

وعليه إذا رجعنا الى ترتيب تسلسل اولوية التعليم في الموازنة العامة السنوية العراقية الواردة في قانون الموازنة الثلاثية (2023-2025) رقم (13) لسنة 2023، وفقا للجدول رقم (3) ادناه، تجد ان وزارة التعليم تحتل المرتبة (12) بموازنة تقدر بـ (3,160,212,068) ثلاثة ترليون ومائة وستون مليار ومائتين واثني عشر مليون وثمانية وستين ألف دينار، وبما يعادل 1.58% من الموازنة الكلية للدولة. 

اما وزارة التربية فتحتل المرتبة (5) بموازنة تقدر بـ (11,896,363,654) احدى عشر ترليون وثمانمائة وستة وتسعون مليار وثلاثمائة وثلاث وستون مليون وستمائة واربع وخمسون الف دينار، وبما يعادل 5.98% من الموازنة العامة، أي ان مجموع ما خصص لوزارتي التربية والتعليم في الموازنة يعادل 7.56% وهي نسبة ضئيلة للغاية عند مقارنتها مع مثيلاتها في بعض الدول العربية؛ فحسب تقديرات الموازنة العامة لسنة 2024 تجد ان هذه النسبة في السعودية 14.5%، وقطر 9.3%، والامارات 15.3 %، وسلطنة عمان 16.8%، والكويت 13.8%، ومصر 14.8%، والمغرب 11.6%، والجزائر 10.18%...على الرغم من ان تأخر قطاع التربية والتعليم في العراق هو اكثر بكثير من بقية الدول، ويحتاج الى نفقات ضخمة للنهوض به ووضعه على الطريق الصحيح نحو التطور والارتقاء، مع ادراك حقيقة لا ينكرها الجميع وهي: ان نجاح برامج التنمية في أي بلد من بلدان العالم لا يتحقق بدون تقدم قطاعها التربوي والتعليمي.

ولذا لا غرابة ان ترى تقدم الجامعات في التصنيفات العالمية يتناغم مع ارتفاع حجم الموازنات المخصصة لقطاع التربية والتعليم في بلدانها، ولهذا تجد ان المراتب المتقدمة في تصنيف QS العالمي بالنسبة للجامعات العربية هو من نصيب جامعات من السعودية وقطر والامارات ومصر.

التسلسل الوزارة عدد العاملين مجموع النفقات التشغيلية + الرأسمالية النسبة المئوية من الموازنة السنوية

1- وزارة المالية 17619 39,204,615,207 19.70 %

2- وزارة النفط 2025 23,287,261,007 11.70 %

3- وزارة الكهرباء 5390 15,500,775,915 7.79 %

4- وزارة الداخلية 701446 13,887,487,961 6.98 %

5- وزارة التربية 963949 11,896,363,654 5.98 %

6- وزارة الصحة 488550 9,903,178,252 4.97 %

7- وزارة الدفاع 453951 9,763,710,625 4.90 %

8- وزارة التجارة 3367 7,236,985,696 3.63 %

9- وزارة العمل والشؤون الاجتماعية 8386 6,020,593,244 3.02 %

10- وزارة الاعمار والإسكان والبلديات العامة 14975 4,960,260,936 2.49 %

11- هيئة الحشد الشعبي 238075 3,743,703,290 1.88 %

12- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي 150212 3,160,212,068 1.58

الجدول رقم (3) من اعداد الباحث استنادا الى البيانات المنشورة في قانون الموازنة الثلاثية (2023-2025) رقم (13) لسنة 2023

كيفية النهوض بالتعليم الجامعي في العراق

يتطلب النهوض بالقطاع التعليمي في العراق اتخاذ خطوات جادة نحو تطويره من قبل القيادات الحكومية وغير الحكومية النافذة في البلد، وتتمثل هذه الخطوات بما يلي:

- توفر القناعة والإرادة السياسية بأن التعليم يمثل أولوية قصوى في اهتمام هذه القيادات، ويتوقف عليه مصير بناء الدولة والمجتمع في العراق، وتأكيد هذه الأولوية من خلال رفع النسب المخصصة له في الموازنة العامة السنوية لتوازي تلك النسب الموجودة في بلدان أخرى مجاورة او تتفوق عليها، فبدون هذه القناعة والإرادة لن يُكتب للقطاع التعليمي التقدم والارتقاء، وسيبقى قطاعا مشلولا وضعيفا وغير قادر على المنافسة الإقليمية والدولية.

- الموائمة بين التعليم وسوق العمل، وتجنب الإبقاء على تخصصات علمية غير مطلوبة في سوق العمل، لتحقيق التوازن بين مخرجات التعليم ومدخلات التوظيف في العراق، وتحقيق هذه الغاية يقتضي التوقف الفوري عن استحداث مؤسسات جامعية جديدة (حكومية واهلية) والتوجه نحو هيكلة المؤسسات القائمة لتفي بمتطلبات سوق العمل، مع الحرص الشديد على جعلها عالية الجودة والكفاءة في مواردها المادية والبشرية.

- تحقيقا لما ورد في الفقرة الثانية أعلاه من المهم إعادة النظر بنظامي التوظيف والقبول في المؤسسات الجامعية، لضمان اختيار الطالب المناسب في الاختصاص المناسب، ووجود التدريسي والإداري المناسب لتقديم أفضل الخدمات لهذا الطالب؛ لأن خلاف ذلك يعني تخريج قوى عاملة ضعيفة وغير كفؤة تشكل ضررا وعبأ على الدولة والمجتمع.

- على الحكومة العراقية ومن خلال جهود وزارتي الخارجية والتعليم العالي والبحث العلمي التواصل مع دول الجوار من اجل إيجاد إطار مؤسسي إقليمي يسمح بتوظيف مخرجات التعليم العالي لهذه البلدان داخل أي واحدة منها بدون عراقيل وصعوبات او فجوات معرفية، وهذا الامر ستكون له فوائد مستقبلية جمة في امتصاص البطالة لدى فئة الشباب الجامعي في العراق من جانب، وتوفير موارد مالية جديدة من خلال تحويلاتهم المالية بالعملة الصعبة في حال توظيفهم خارج العراق من جانب آخر.

- استقرار السياسة التعليمية، ووضوح القوانين والأنظمة والتعليمات والضوابط الإدارية لمدة طويلة يساعد على ارتقاء المؤسسات الجامعية والعاملين فيها، ويضع حدا لحالة الارباك والفوضى الحاصلة كلما جاءت قيادة وزارية وجامعية جديدة. فالعمل بطريقة التواصل والتكامل والفريق الواحد من قبل القيادات الوزارية والجامعية لم يعد ترفا فكريا، بل هو حاجة ملحة لاستقرار العادات والتقاليد الجامعية، وفتح الافاق نحو الأفضل اليوم وفي المستقبل.

- استقلالية قطاع التربية والتعليم عن الصراعات والمناكفات السياسية من الامور الحيوية التي تقرر مصير هذا القطاع وتحكم عليه بالفشل ام النجاح، وهذا الامر عانت منه المؤسسات التربوية والجامعية، ولا زالت تعاني، مما يتطلب وضع حد له؛ لتركز هذه المؤسسات على وظيفتها المهنية وإنجاز دورها المتوقع منها بعيدا عن أي استقطاب سياسي.

- التوأمة والتشبيك بين المؤسسات الجامعية العراقية ومثيلاتها في الدول المتقدمة امر في غاية الأهمية، على ان لا يقتصر ذلك فقط على الزمالات الدراسية والفعاليات العلمية المشتركة، بل ينبغي التركيز أيضا على تبادل الطلاب والمحاضرين والباحثين بين الطرفين، فخلو الجامعات العراقية من كوادر تدريسية وبحثية اجنبية، وعدم تبادل البرامج التعليمية للطلاب حرم مؤسساتنا الجامعية من عنصر المنافسة وتبادل الخبرة والمعرفة بينها وبين العالم الخارجي، وجعلها محصورة في نطاقها المحلي دون ان تعلم كثيرا عما يدور حولها في دول العالم المتقدمة.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

اضف تعليق