شيوع التنمر له عواقب لا يُستهان بها، ويمكن أن يساهم في تطوير الاكتئاب والقلق وتدني احترام الذات، وقد يصل بالبعض في مرحلة المراهقة والشباب إلى تعاطي المخدرات وخطر التورط في الجريمة. يمكن أن يؤدي التنمر إلى زيادة الضغط العاطفي والتفكير الانتحاري. أيضا ربطت الأبحاث التنمر بالإصابة بالقلق الاجتماعي...
بقلم: أروى نجيب
مع تقدم الفصل الدراسي، بتنا معتادين على أنباء حوادث العنف المدرسي. هذا العام في مصر تحدثت الأخبار عن حادثتين مأساويتين: الأولى هي سقوط طالبة من الدور السادس بإحدى مدارس القاهرة بينما كانت تهرب من أحد المدرسين، ما أدى إلى وفاتها، والحالة الثانية كانت في الدقهلية، حينما ضرب مُدرس طالبة صغيرة السن في المرحلة الابتدائية بشكل أدى إلى وفاتها.
تخبرنا هذه الوقائع وغيرها أن العقاب البدني لا يزال مستخدما على نطاق واسع في المدارس في أجزاء كثيرة من العالم(1) بما يتبعه من عواقب وخيمة. وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة، اليونيسف، فإن نصف الطلاب على الصعيد العالمي ممن تتراوح أعمارهم بين 13-15 عاما، أي نحو 150 مليون طالب، أبلغوا عن تعرضهم للعنف في المدرسة وحولها. فيما يُعاني أكثر من طالب واحد من كل ثلاثة طلاب تتراوح أعمارهم بين 13-15 عاما من التنمر. وأخيرا، يعيش نحو 720 مليون طفل في سن الدراسة في بلدان لا يتمتعون فيها بحماية كاملة بموجب القانون من العقاب البدني في المدرسة.(2)
قد يكون السؤال المنطقي هنا: لماذا تحدث الإساءة المدرسية من معلم بالغ ناضج تجاه أطفال صغار ما زالوا غير مُتحمِّلين بالكامل مسؤولية تصرفاتهم؟ لمدة ثماني سنوات، كرَّس فريق بقيادة عالم النفس توبياس هيكر في جامعة بيليفيلد نفسه للبحث حول العنف في تعليم الأطفال والوقاية منه في بلدان شرق أفريقيا، بما في ذلك تنزانيا.
في إحدى الدراسات، أجرى الباحثون مقابلات مع تلاميذ وأولياء أمور ومعلمين في المدارس الابتدائية التنزانية. أفاد 96% من المعلمين أنهم استخدموا شكلا واحدا على الأقل من العنف الجسدي أو العاطفي ضد التلاميذ في الشهر السابق للمسح. كان تهديد الطلاب بالعنف هو الخيار الأكثر انتشارا، حيث مارسه واحد على الأقل من كل خمسة مدرسين أكثر من 20 مرة في الشهر. كما اعترف المدرسون بالصراخ بشكل متكرر في الطلاب وضربهم على الأرداف أو الذراعين أو الأرجل أو اليدين بمسطرة أو عصا أو أداة مشابهة. أكد تصريحات المعلمين نحو 95% من الطلاب الذين ذكروا أنهم تعرضوا لشكل واحد على الأقل من أشكال العنف على أيدي المعلمين مرة واحدة في الشهر على الأقل.
وجد مشروع هيكر أن الموافقة على العنف وقبوله يمكن تفسيرها بما اختبره المعلمون أنفسهم أثناء الطفولة. تعرَّض الكثيرون للممارسات العنيفة نفسها، ونشؤوا في بيئة اجتماعية حيث كان العقاب البدني يُعَدُّ أمرا طبيعيا، قال أحد المشاركين في الدراسة: "التفكير في الضرب الذي تلقيته من معلمي، وما شعرت به وفكرت فيه حينها، أحدث تغييرا جذريا في نفسي. إن مجرد التفكير بضرب طالب يبرز على الفور الغضب واليأس والكراهية التي شعرت بها عندما تعرضت للضرب من قِبَل معلمي".
من ناحية أخرى، تلعب المعتقدات والأساطير المُتداولة حول العقوبة الجسدية دورا مهما أيضا. يَعتبر العديد من المعلمين أن الإستراتيجيات التعليمية الأخرى أقل فعالية، وأن العقاب البدني يُعلِّم الاحترام ويبني الشخصية، وهناك أيضا تصور بأن بعض الأطفال لا يمكن السيطرة عليهم بوسائل أخرى خلاف العنف.(5)
عواقب وخيمة
حسنا، لنتحدث الآن عن عواقب تفشي ظاهرة "الإساءة المدرسية". غالبا ما يُصاب الأطفال الذين يتعرضون للعنف على أيدي المعلمين أو الآباء بمشكلات عاطفية وسلوكية، كما يؤثر الضغط النفسي أيضا سلبيا على مهاراتهم المعرفية وأدائهم الأكاديمي. في حين أن التأثير على الصحة العقلية للطفل لا يحظى باهتمام يُذكر، فإن الأبحاث التي تُظهر التأثيرات على الأداء الأكاديمي تولِّد اهتماما كبيرا بين المعلمين وأولياء الأمور على حدٍّ سواء.
في هذا السياق، استخدمت دراسة نُشرت عام 2007 تصميما مستقبليا يمتد على مدى 17 عاما، درس من خلاله المؤلفون عينة من 231 فتى وفتاة تعرضوا للإساءة اللفظية من قِبَل المعلمين بدءا من مرحلة الطفولة ووصولا إلى التخرج في المدرسة الثانوية. أظهرت النتائج أن الإساءة اللفظية من قِبَل المعلم أثناء الطفولة كانت مرتبطة بالمشكلات السلوكية، كما أظهرت النتائج ارتباط الإساءة باحتمالية منخفضة للحصول على شهادة الثانوية العامة بعمر 23 عاما.(6)
تؤكد نتائج الدراسة السابقة أن العواقب الوخيمة للإساءة المدرسية لا تقتصر على العنف البدني فقط، لكن الإساءة أو التنمر اللفظي لها عواقب أيضا. عرَّف تقرير صادر عن مركز السيطرة على الأمراض الأميركي (CDC) عام 2014 التنمر بأنه سلوك عدواني غير مرغوب فيه من قِبَل البعض، يتضمَّن اختلالا ملحوظا أو متصورا في القوة، ويتكرر عدة مرات أو يُرجح بشدة أن يتكرر. قد يؤدي التنمر إلى إلحاق الضرر أو الضيق بالشخص المستهدف، بما في ذلك الأذى الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي أو التربوي.
هناك نوعان من التنمر، مباشر وغير مباشر. يشمل الأسلوب المباشر السلوكيات الجسدية، مثل دفع شخص ما، بالإضافة إلى العدوان المنطوق أو المكتوب. أما التنمر غير المباشر فيتضمَّن سلوكيات مثل نشر شائعات عن الشخص محل التنمر تكون خاطئة أو مضللة أو ضارة.
يُمثِّل التنمر تحديا مشابها لأشكال أخرى من سوء المعاملة والإهمال، ولكنه فريد من نوعه من نواحٍ رئيسية، منها أنه يُطبَّع ويُتسامح معه، بل قد يصل الأمر إلى حد المكافأة والإعجاب به باعتباره قوة وسُلطة. فمثلا في الولايات المتحدة الأميركية، تعرَّض أكثر من 77% من الطلاب الأميركيين للتنمر اللفظي والعقلي والبدني، نحو 85% من هذه الحوادث لا تتلقى أي نوع من التدخل، حيث إن من الشائع تجاهل التنمر.(7) كما أن المبلغين عن حدوث التنمر في المدارس قد يتحولون إلى كبش فداء، وقد يُنبَذون هم أيضا. كذلك من جوانب التنمر الغريبة أيضا أن اللوم يُلقى على الضحايا خلاله.(8)
لكن شيوع التنمر له عواقب لا يُستهان بها، ويمكن أن يساهم في تطوير الاكتئاب والقلق وتدني احترام الذات، وقد يصل بالبعض في مرحلة المراهقة والشباب إلى تعاطي المخدرات وخطر التورط في الجريمة. يمكن أن يؤدي التنمر إلى زيادة الضغط العاطفي والتفكير الانتحاري. أيضا ربطت الأبحاث التنمر بالإصابة بالقلق الاجتماعي.(9)
بالمثل، قد يرتبط التعرُّض للتنمر بحدوث مشكلات النوم، والتبول في الفراش. على سبيل المثال، وجدت دراسة أن الأطفال الذين يتعرضون للتنمر بين سن 8-10 سنوات هم أكثر عُرضة لتجربة المشي أثناء النوم أو الذعر الليلي أو الكوابيس في سن 12 عاما.(10) هذا بخلاف الأعراض الجسدية للتنمر التي تشمل آلام المعدة، والصداع، والألم المزمن، وجميعها مشكلات جسدية غير مُبررة طبيا. أيضا يمكن أن يكون للتنمر تأثير سلبي محتمل على الدماغ والنمو الاجتماعي/النفسي، كما أنه يرتبط بانخفاض الأداء الأكاديمي.(11)
حدَّد باحثو هارفارد العاملون في مستشفى ماكلين في بلمونت، ماساتشوستس، بعض أنواع تشوهات الدماغ التي لوحظت مع حوادث الإساءة والإهمال التي حدثت في الطفولة. يوضح الباحث مارتن تيتشر: "تؤدي تفاعلات الطفل مع البيئة الخارجية إلى تكوين روابط بين خلايا الدماغ، ثم يتم تقليم هذه الوصلات خلال فترة البلوغ. لذا فإن أيًّا كان ما يمر به الطفل، سواء كان ذلك جيدا أو سيئا، فإنه يساعد في تحديد كيفية عمل دماغه".(12)
الخبر الجيد أن تأثير الإساءة المدرسية يمكن أن يُحتوى حال تلقى الطفل دعما من العائلة. في دراسة أُجريت على مجموعة الطلاب اليونانيين، قُيِّمت الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين والدعم الاجتماعي من الأسرة والأقران، ومدى تأثير هذه العوامل على الثقة بالنفس والأداء النفسي في عينة من طلاب المدارس اليونانية الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 9-12 عاما.
أظهرت النتائج أن التعرض للإيذاء العاطفي من قِبَل المعلمين كان مؤشرا لحدوث مشكلات سلوكية لدى طلاب المدارس، لكن الدراسة نفسها أظهرت أن تأثير الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين على الأداء النفسي قد تضاءل جدا عند حصول الطالب على الدعم الاجتماعي الذي يُعزز الثقة بالنفس. وفقا لما أظهرته الدراسة، فالدعم الاجتماعي هنا يُعَدُّ عاملا وقائيا مُهما لتحقيق المرونة ضد الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين.(13)
أكبر مما تعتقد
تبقى المشكلة الأكبر في هذا النوع من الإساءات أن عواقبه تستمر مع الطفل حتى بعد مرحلة البلوغ. في هذا السياق، وجدت دراسة أجراها عام 2014 باحثون في "King’s College London" في المملكة المتحدة أن الآثار الاجتماعية والجسدية والعقلية السلبية للتنمر في مرحلة الطفولة لا تزال واضحة حتى بعد بلوغ 40 عاما.(14)
وجد الباحثون في الدراسة أيضا، أنه في سن الخمسين، كان المشاركون الذين تعرضوا للتنمر عندما كانوا أطفالا أكثر عُرضة لأن يكونوا في حالة صحية بدنية ونفسية أسوأ، ولديهم أداء إدراكي أسوأ من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للتنمر. وُجد أن ضحايا التنمر على الأرجح قد يصبحون عاطلين عن العمل، ويكسبون أقل، ولديهم مستويات تعليمية أقل من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للتنمر، كما أنهم كانوا أقل احتمالا لأن يكونوا في علاقة ناجحة أو لديهم دعم اجتماعي جيد، ما يعني أنهم ظلوا يدفعون ثمن الإساءات التي تعرضوا لها في الطفولة طوال العقود التالية من حياتهم.
اضف تعليق