فهل يقبل المعلم والمدرس في العراق، ان يكون محاطاً بكامل حقوقه المادية والمعنوية، وهو يقف امام خمسين او ستين طالباً في صف واحد لا يكاد الواحد منهم يتمكن من تحريك يديه، فضلاً عن فهم المادة والمشاركة في الدرس بالسؤال والجواب؟، وهذا يدفعنا للقول بشكل عفوي...
سوء الاوضاع الاقتصادية والمعيشية وتفشي الفساد الاداري وتردي الخدمات، تجري بموازاة خط آخر في الواقع السياسي والاجتماعي في العراق، وهو الإعراب عن الاحتجاج الشديد إزاء كل هذه الاسقاطات السلبية لأهل الحكم منذ عام 2003، وقد أكدت كل المعطيات على أنهم وراء فتح الابواب على مصراعيها لتفريغ شحنات الغضب الجماهيري بوسائل متعددة، منها؛ التظاهرات الاحتجاجية، او الوقفات الاستنكارية، او تناول قضايا الفساد والفشل في القنوات الفضائية، وايضاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت.
ولم تبق شريحة في المجتمع إلا وقد اعربت عن تذمرها واحتجاجها للمعاناة التي تعيشها، سواءً تلك المنضوية ضمن تشكلات نقابية واتحادية، او كافراد وجماعات من الكسبة والمهنيين، أما ان يصل مستوى الاحتجاج الى الاضراب عن العمل والدوام الرسمي، ولشريحة مهمة للمجتمع وللدولة على حد سواء، مثل شريحة المعلمين، وبدعوة من نقابة المعلمين نفسها، فانه يعد سابقة في العمل النقابي، بل وفي الممارسة الديمقراطية في عراق ما بعد ديكتاتورية صدام.
المطالب التي تتحدث عنها شريحة المعلمين لا تختلف كثيراً عن مطالب سائر الشرائح الاجتماعية في الدولة، مثل الحماية على النفس، والترفيع واستحقاق العلاوة على الراتب، وغيرها من الحقوق الطبيعية لهم ولجميع المهنيين الآخرين، من محامين وأطباء ومهندسين، الى جانب شريحة واسعة من المجتمع تكابد شضف العيش بسبب البطالة والتهميش، بيد أن الذي نتفق عليه مع المعلمين، دورهم المحوري في أمر التربية والتعليم، ومدخليتهم في أي تطلع نحو مستقبل سياسي او اقتصادي متقدم في البلاد، على أن الدول المتقدمة في العالم، كان التعليم بنيتها الاساس، وإعطاء المعلم، لاسيما في الصفوف الابتدائية، الاهمية البالغة، في مستواه العلمي والمعرفي، وتوفير كل مستلزمات العيش الكريم له ليقوم بدوره على أكمل وجه.
مع كل ذلك، علينا ان نتفق على صيغة موحدة تفضي الى نجاح عملية الضغط هذه في تحقيق المطالب المشروعة، وحتى لا تكون مثل سائر التحركات الاحتجاجية التي لم تلق اذاناً صاغية سوى التفرّج عبر وسائل الاعلام على الوقفات والتظاهرات هنا وهناك.
أهم قضية تقفز امام الداعين الى الاضراب، أنهم يُعدون موظفين لدى الدولة، وان الحكومة، هي التي تصرف لهم رواتبهم، وتدير شؤونهم بشكل مباشر من خلال وزارة التربية والتعليم، وعندما نقول "دولة" فهي مسمّى عام، وهي ممثلة للشعب والبلد باكمله، والموظف الحكومي انما يعمل في خدمة الشعب والبلد، بما يمكن وصفه بالدورة المتكاملة، فهو الفرد الذي حصل على عمل لدى الحكومة المنتخبة من افراد الشعب، من اجل ان يقدم خدماته لهؤلاء، وأي قصور منه، فانه يسائل أمام الحكومة وامام الشعب في آن.
واذا نسمع بالاضرابات في بعض البلاد الغربية، مثل إضراب عمال المناجم، او العاملين في القطارات او حافلات النقل وغيرها، فانهم إنما يضربون عن العمل لدى الشركات المالكة لتلك القطاعات للمطالبة بزيادة الرواتب، وهو المطلب المحوري والاساس دائماً، لذا فان هذه الشركات المالكة ستتعرض لضغوطات من الحكومة بتلبية المطالب او الدخول في مفاوضات مع النقابات المعنية لإنهاء الاضراب، لذا نجد ان النقابات العمالية والمهنية في الغرب لها قوتها ودورها في المطالبة بالحقوق اكثر بكثير مما لدى النقابات والاتحادات في بلادنا المتشبهة بالديمقراطية، ولا يخفى على أحد، لاسيما نقابة المعلمين العراقيين، أن وجود هذه النقابة وسائر النقابات والاتحادات انما يمر عبر سلسلة موافقات حكومية؛ فقد جاء قانون النقابات والاتحادات المهنية الذي أقره مجلس النواب وأقره رئيس الجمهورية عام 2017، وفي الفصل الخاص باهداف القانون انه يهدف الى "وضع اطار عام لتنظيم عملية تأسيس النقابات والاتحادات بالتنسيق مع الجهة القطاعية بنشاط النقابة او الاتحاد"، كما حال نقابة المعلمين مع وزارة التربية، او نقابة الصحفيين مع وزارة الثقافة. وفي المادة السادسة من هذا القانون: "يقدم طلب التأسيس الى الوزير المختص او رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة".
ان المطالبة بحقوق المعلمين من حيث المبدأ لايختلف عليها اثنان في العراق، انما المهم في القضية الطريق المؤدي الى استحصال هذه الحقوق، ففي الوقت الذي جرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي الى جميع المعلمين في العراق بإضراب عن التدريس يومي 19و20 من هذا الشهر، نسمع من المجلس المركزي لنقابة المعلمين، المركز العام في بغداد بالدعوة الى تظاهرات كبيرة تملأ الشوارع والساحات"، على أثر رفض الحكومة مقترح إقرار قانون حماية المعلم.
هذا الحراك المميز والاول من نوعه في العراق، من شأنه ان يدفع الحكومة والطبقة السياسية لإعادة التفكير بجدّية، ليس في مطالب المعلمين وحسب، بل وفي العلمية التربوية والتعليمية برمتها، وإن كان من الصعب معالجة جميع الثغرات والمشاكل المعقدة في هذا القطاع، بيد ان الانطلاقة الحقيقية من شأنها ايجاد الحلول وتلبية المطالب بشكل تدريجي، لاسيما فيما يتعلق بحقوق المعلم المادية والمعنوية، ومن ثمّ التوجه الى حقوق الطالب في توفير الأجواء المساعدة للتعليم.
والى جانب المسألة القانونية، فان ثمة مسألة اخرى لا تقل أهمية ينبغي ان تكون امام أنظار المعلمين وهي؛ المسألة الانسانية المتمثلة بشريحة التلاميذ والطلاب وهم بالملايين في العراق، ومن المؤكد أن معاناتهم في الخدمات والمناهج والمباني المدرسية والزحام وغيرها من الازمات الخانقة، ليست بعيدة عن أنظارهم، اذا لم نقل بتأثيرها الكبير والمباشر على تحقيق ما يصبو اليه المعلم نفسه، من نجاحه في دوره التربوي والتعليمي. فهل يقبل المعلم والمدرس في العراق، ان يكون محاطاً بكامل حقوقه المادية والمعنوية، وهو يقف امام خمسين او ستين طالباً في صف واحد لا يكاد الواحد منهم يتمكن من تحريك يديه، فضلاً عن فهم المادة والمشاركة في الدرس بالسؤال والجواب؟
وهذا يدفعنا للقول بشكل عفوي؛ بان التظاهرات الكبيرة التي سينظمها المعلمون في انحاء البلاد، بناءً على دعوة المجلس المركزي للنقابة في بغداد، يجب ان تكون مسنودة من سائر شرائح المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والدينية المعنية هي ايضاً بأمر التربية والتعليم، وليس المعلم فقط.
اضف تعليق