الولايات المتحدة بحزبيها الجمهوري والديمقراطي يعتبرون تحييد إيران والتوصل الى اتفاق مع النظام هو الخيار الامثل والبديل عن تغيير هذا النظام، في حين ترى تل ابيب ان تغيير النظام والقضاء على الخطر الايراني المهدد لوجودها بشكل نهائي هو الحل الوحيد للاستقرار والشعور بالأمن، لكن من طبيعة الرد الإسرائيلي...

لم يكن الرد الاسرائيلي على ايران فجر يوم السبت ٢٦/١٠/٢٠٢٤ واسعاً وقويا، كما صرحت اكثر من مرة، بل جاء متناسباً مع الرغبة الامريكية الدافعة باتجاه خفض التصعيد مع ايران في الوقت الحاضر مع قرب الانتخابات الرئاسية الامريكية، اذ عملت واشنطن مع تل أبيب للتوصل إلى ردٍّ متناسب، وحثت إيران على عدم الرد مرة أخرى، ودعت تل ابيت الى وجوب ان يكون الرد الاخير نهاية الاشتباكات العسكرية المباشرة بينها وبين طهران.

هذا التحول جاء بعد انخراط امريكي مباشر في ادارة الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وجنوب لبنان منذ ٨ اكتوبر ٢٠٢٣، من خلال تزويدها بالأسلحة النوعية والتقنية والتمويل اللازم فضلاً عن تزويدها بمنظومة الدفاع الجوي (ثاد) مؤخرا، وتسخير الجهد الاستخباري والاستشاري اللازم لتعزيز القدرات الاسرائيلية في استعادة الردع واضعاف طهران ومحور المقاومة، اضافة الى توفير مظلة دبلوماسية فاعلة لتل ابيب في مجلس الامن والمنصات الدولية الاخرى رغم موجات الاستنكار الاقليمية والدولية لوقف الحرب، رغم عدم اقتصار المشاركة الامريكية في التخطيط وادارة الحرب وتمويلها، بل المشاركة بشكل مباشر نيابة عن تل ابيب فيها، كما حصل في شن ١٤ غارة على اليمن وغارات سابقة في العراق وسوريا، كما شاركت بالتصدي للرد الايراني الاول في نيسان الماضي.

هذا التحول السريع لموقف الولايات المتحدة ناجم عن ادراكها ان سياق الحرب غير التقليدية وغير المتناظرة مع ايران واذرعها في المنطقة لم يحقق الاهداف المطلوبة في القضاء على محور المقاومة واضعاف نفوذها الواسع في المنطقة، كما ان حليفتها اسرائيل رغم رغبتها باستمرار المواجهة والتصعيد مع ايران، لم تحقق ايضاً فرصتها التاريخية بعد عملية طوفان الاقصى بالقضاء على مصادر التهديد الايراني ومخاوفها التي تحيط بها بسبب الشعار الذي ترفعه ايران بمحوها من الوجود؛ رغم تفكيك بنية القيادة وتغييب وتحييد قادة الصف الاول لفصائل المقاومة وضرب البنى التحتية لها، وتبني مقاربة القبضة الحديدية، لكن لم تستطع فك ارتباط هذه الفصائل وتنظيماتها وقادتها الجدد عن القيادة الايرانية.

لذلك ستعتمد واشنطن على مقاربة اوسع لإدارة الصراع في المنطقة وتبني سياسة الاحتواء اللازمة مع إيران، لان الصراع الامريكي لا ينحصر بتحقيق الاهداف الحيوية لإسرائيل التي عملت عليها واشنطن وبلغت حد الانخراط المباشر والإشراف الكامل؛ بل يرتبط بتحديد الأطر الأساسية للمواجهة وتحقيق مصالحها الشاملة في الصراع الذي يتجاوز مواجهة إيران وتحييد نفوذها، اذ ان هناك صورة أكبر للمواجهة تتضمن مصالح استراتيجية واسعة.

ان الولايات المتحدة لا تتبنى طرح صيغة جديدة للنظام الاقليمي في الشرق الاوسط فحسب؛ بل ايضاً اعادة ترتيب الاوراق في النظام الدولي برمته، بما يرجح كفتها لمواجهة التحدي الصيني والروسي واعادة فرض هيمنتها العالمية، فهي تسعى الى اعادة صياغة التحالفات الاقليمية والدولية وطرح مشاريع تنافسية في النظام الاقليمي والعالمي، لفك ارتباط وعزل الاقتصادات الاقليمية في الشرق الاوسط والاتحاد الاوروبي عن الصين وروسيا وطرح مشاريع موازية، لمنع تقدم مشروع الحزام والطريق الصيني واستغلال اسرائيل لهذا الغرض، لكن الحال بدون تحييد ايران لا يمكن للولايات المتحدة تحقيق ذلك، وطالما لم تنجح مقاربة المواجهة، فإن الاحتواء السلس هو البديل الامثل حالياً.

ولهذا اعتبرت واشنطن الان ان تصاعد واستمرار حدة الصراع والاضطرابات والمواجهات بين اسرائيل وإيران بمثابة ضربة قوية لمشاريعها الاستراتيجية في الشرق الاوسط، اذ ستكتفي واشنطن بنسق المواجهة المحدودة مع إيران وتوسيع نطاق قص مخالبها في غزة والعراق وسوريا واليمن ولبنان لمنعها من استخدام ورقة النفوذ الاقليمي في المنطقة الذي تستخدمه لإجهاض اي مشروع يحقق المصالح الامريكية المباشرة على حساب مصالحها، بعدها يتم التمهيد اعادة مسار التفاوض مع طهران.

ان واشنطن لمست من طهران رغبتها بالحوار من خلال وصول مسعود بزشكيان للرئاسة بعد مشاركته ووزير خارجيته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في نهاية ايلول المنصرم، واجلت واشنطن ردها الدبلوماسي لإعادة هذا المسار والدفع بإسرائيل لإنجاز الاهداف المطلوبة وحل العقدة الايرانية التي تشكل تهديداً لقواعدها ومنشآتها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة.

ولهذا فإن خيار خفض التصعيد بعد الرد الشكلي الاسرائيلي على ايران سيصحح المسارات الاستراتيجية، وستقطع واشنطن من خلال ذلك الطريق امام روسيا والصين للتأثير في الملفات الاقليمية وصولاً الى الدولية من خلال التفاوض المباشر مع ايران بعد الضغط عليها كما ذكرنا، بما يؤكد ان من يدير الوضع الراهن هو واشنطن وليس اسرائيل، فالرؤية الامريكية هي التي تدير اطر المواجهة والحرب الجارية وحدودها؛ رغم ان تل ابيب هي من يتولى التحرك في الوضع الميداني.

فالولايات المتحدة بحزبيها الجمهوري والديمقراطي يعتبرون تحييد إيران والتوصل الى اتفاق مع النظام هو الخيار الامثل والبديل عن تغيير هذا النظام، في حين ترى تل ابيب ان تغيير النظام والقضاء على الخطر الايراني المهدد لوجودها بشكل نهائي هو الحل الوحيد للاستقرار والشعور بالأمن، لكن من طبيعة الرد الاسرائيلي الاخير يتبين ان الاخيرة ملزمة بإتباع قواعد الاشتباك والمواجهة التي تضعها وترسمها واشنطن، التي تريد من خلالها تحقيق مكاسب ومصالح استراتيجية.

باختصار هذا التصعيد في المنطقة عُد من اجل التصدي للتحدي الروسي والصيني وهو يدخل ضمن سياق التنافس العالمي، اذ حاولت واشنطن من خلال تل ابيب تحقيق اهدافها المباشرة بإضعاف ايران ونزع مخالبها وتأثيرها في النظام الاقليمي، مع رغبة تل ابيب كسر قواعد المواجهة والتصعيد التي وضعتها واشنطن، ومع ادراك الاخيرة عدم القدرة على تحقيق هذا الهدف، عادت لرسم مسارات الصورة الكلية في الشرق الاوسط وتغيير المعالم الاقليمية من خلال خفض التصعيد بدل الحرب؛ لان خيار توسيع رقعة الحرب التي ترغب فيها تل ابيب لا تتناسب مع الرؤية الاستراتيجية لواشنطن.

على الرغم من تحقيق واشنطن نجاحاً في فرض قواعد اشتباك محددة تنسجم مع رؤيتها الاستراتيجية، الا ان ذلك لا يعني انعدام التأثير الايراني في مواجهة هذه القواعد وتغييرها والعودة للمربع الاول، خاصة إذا دخلت روسيا والصين لجانب ايران في هذه المواجهة اللتين لا زالتا حيادتين فيها الى حد كبير، من حيث تزوديها بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي والاعلامي اللازم لتدعيم خيار تطوير البرنامج النووي، وحين ذلك فإن الادارة الامريكية ستكون امام واقع مختلف تماماً يدفعها بكل تأكيد لوضع قواعد مختلفة للمواجهة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق