على الرغم من كل قدراتنا المعرفية المثيرة للإعجاب، فإن الطريقة التي نرى بها العالم، والمعلومات التي نتمسك بها ونحتفظ بها، تتشكل إلى حدٍّ كبير من خلال العمليات الغريزية واللاواعية والعاطفية التي تُشكل جزءاً كبيراً من دماغنا. وإذا كان هناك من ينخرط في هذه العمليات العاطفية اللاواعية...

إن انتشار ”الأخبار المزيفة“ Fake news في الآونة الأخيرة قد يجعل الأمر يبدو كأن المعلومات الخاطئة هي اختراع حديث نسبياً. لكن المزاعم المبالغ فيها والأكاذيب ونظريات المؤامرة مثلت جزءاً من الثقافة الإنسانية منذ أن وُجدت تقريباً. وذلك لأن المعلومات الخاطئة تنشأ مع أشخاص آخرين وتنتشر عن طريقهم؛ والدور البشري عامل له تأثير قوي حقاً.

لو أنه تعين عليك في أي وقت مضى أن تشرح قضية مهمة، ولكن معقدة، إلى جمهور عام، فستدرك جيداً مدى الإحباط الذي يمكن أن يسببه العامل البشري.

قد يكون لديك تيرابايت من البيانات الموثوق بها إلى أقصى حد، وردود مُعَدة بدقة على أي حُجة محتمَلة، وشرائح عروض باوربوينت PowerPoint هي الأكثر أناقةً، والدعم الكامل من كل خبير مشهور في المجال ذي الصلة. ومع ذلك يمكن أن تكون أقل إقناعاً من شخص كل ما لديه من حجة هو أن يقول: ”لقد أخبرني رجل التقيتُه في المقهى بشيء مختلف“.

من الواضح أن مصدر هذه المعلومات التي يصدقها الناس ليس دائماً شخصاً غريباً نلتقيه في المقهى. في بعض الأحيان يكون صديقاً، أو صديقاً لصديق، أو ابنَ عم بعيداً. وقد يأتي حتى من جملة من الأشخاص تربطهم بنا صلات ضعيفة (”قال بائع الحليب لدى مدير شركة ابن جارة أمي…“).

ومن باب الإنصاف فإن الفرد الذي هو مصدر المعلومات (يُفترض) أن تكون لديه بعض الخبرة أو دراية ذات صلة بالأمر. لنفترض أنك تناقش مسألة سلامة اللقاحات وينتهي بك الأمر إلى أن تجادل شخصاً ابن عم زميله في الغرفة ”يعمل لدى صيدلي“.

في عالم منطقي ومعقول تماماً، لن يتمتع شخص يعرف شخصاً تربطه صلة واهية بمجال أو صناعة على صلة بالموضوع بالموثوقية التي تتميز بها البيانات الحقيقية أو الخبراء الرائدون في المجال. لكن البشر ليسوا مخلوقات عاقلة ومنطقية تماماً، والعالم الذي نعيش فيه بعيد تماماً عن أن يكون كذلك.

على الرغم من كل قدراتنا المعرفية المثيرة للإعجاب، فإن الطريقة التي نرى بها العالم، والمعلومات التي نتمسك بها ونحتفظ بها، تتشكل إلى حدٍّ كبير من خلال العمليات الغريزية واللاواعية والعاطفية التي تُشكل جزءاً كبيراً من دماغنا. وإذا كان هناك من ينخرط في هذه العمليات العاطفية اللاواعية، فهم إخواننا من البشر.

في حين أن أدمغتنا قادرة على استيعاب المعلومات المجردة والبيانات الأولية والاحتفاظ بها، إلا أنها لا ترغب في ذلك حقاً. إن القدرة على التفكير العقلاني والتحليلي هي إضافة حديثة نسبياً إلى مجموعة قدراتنا العقلية (بالمعنى التطوري). وهذا يكلف أدمغتنا كثيراً من الطاقة والجهد.

تعتمد الأنظمة الأساسية الأكثر رسوخاً في دماغنا –والتي تشكل الذاكرة والتعلُّم– بقدر كبير على العاطفة. كلما زاد التحفيز العاطفي لشيء ما، كان من الأسهل الاحتفاظ به وتذكُّره، خاصة بالمقارنة مع البيانات والحقائق الموضوعية.

لهذا السبب يمكن أن نقضي أشهراً في مراجعة المواد استعداداً لامتحان حاسم، ولكننا نواجه صعوبة في تذكر أي من تلك المواد بمجرد اجتيازه. وفي الوقت نفسه فإن الموقف المحرج الذي وجدنا أنفسنا فيه عندما زلَّت قدمُنا وسقطنا على مؤخرتنا في طابور بالمدرسة... يبقى حياً في ذاكرتنا إلى الممات.

ومن الناحية المنطقية لا يمكن أن تُولد مشاعر الذنب أو الإحراج إذا لم يشارك أي شخص آخر في الأحداث. وقد طوَّرنا أنظمة عصبية متطورة جداً للتعرُّف على مشاعر الآخرين ومشاركتها، وهو ما يُعرف باسم التعاطف Empathy.

ومع ذلك فإن الأمر يتجاوز مجرد الاتصال العاطفي، لأن كثيراً من أدمغتنا مكرسة لجمع المعلومات من الأشخاص الآخرين. لقد خصصنا مناطق لمعالجة الوجوه واللغة والكلام وغير ذلك. في الواقع يجادل بعض الخبراء بأن السبب وراء تطور اللغة أصلاً هو تمكينُنا من النميمة والثرثرة.

إن أهمية الأشخاص الآخرين عندما يتعلق الأمر بالمعلومات التي نستوعبها ماثلةٌ في كل مكان تنظر إليه. مثلاً سيكون من الأسهل والأرخص والعملي إلى حدٍّ كبير مشاركةُ المعلومات المهمة، مثل آخر نشرات الأخبار، بكلمات بسيطة على الشاشة، خاصة في الأيام الأولى للتلفزيون. لكن على الرغم من ذلك، فإن كل ثقافة يمكن أن تخطر ببالك استخدمت – ولا تزال تستخدم – قارئي أو مقدمي الأخبار. لماذا؟ لأنها تُضفي وجهاً بشرياً، وتواصلاً بشرياً، على معلومات مجردة وغير ملموسة.

وهذا أيضاً (على نحو جزئي) سبب رد فعل كثير منا عندما نقول: ”أخيراً، سأتحدث إلى بشر!“ بعد قضاء فترات طويلة في التعامل مع نظام الاتصال الآلي.

في نهاية المطاف نحن تطورنا لقبول المعلومات بسهولة أكبر عندما يقدمها لنا شخص آخر. هذا الشخص يساعدنا على معالجة الأمور المجردة وغير الملموسة ووضعها في سياقها والارتباط بها. وللأسف لا يبدو مهماً ما إذا كانت المعلومات التي نحصل عليها من الآخرين موثوقاً بها أو حتى لها أساس.

في أكثر الأحيان يقول المتشككون الأكثر تشدُّداً إن ”الحقائق لا تأبه بمشاعرك“، وهذا صحيح. لكن المشاعر لا تكترث بالضرورة بالحقائق أيضاً. وفي النهاية للمشاعر دورٌ وازن فيما نفكر فيه ونفعله.

ولهذا السبب قد يبدو رفيقُك في المقهى أكثرَ قابلية للتصديق من أرشيف كامل من الأبحاث المنشورة.

* المصدر: موقع مجلة مدار

https://madar.aspdkw.com/

اضف تعليق