بلورة مشروع ثقافي وطني جديد، يتطلع إلى التجديد الثقافي والاجتماعي، واستيعاب الشرائح الاجتماعية الجديدة، وتفعيل دور الثقافة في عملية التنمية الشاملة. إذ لا نهوض اقتصادي وتنمية مستدامة، بدون العمل الثقافي النوعي الذي يتجه إلى إزالة عوامل الركود والجمود وخلق الفرص الجديدة لتوسيع قاعدة المشاركة الاجتماعية في...
عديدة هي تلك المميزات، التي تميز الدول المتقدمة عن غيرها من الدول النامية أو المتخلفة. ولعل من أهم المميزات هي: قدرة الدول المتقدمة على إنتاج المعرفة وسلع الثقافة، مما يوفر لها قدرة إضافية على التأثير في مسارات الشعوب والأمم الأخرى. ولعل هذا ما يفسر لنا اهتمام الدول الكبرى بمنتوجاتها الإعلامية وسلعها الثقافية، التي تعكس بشكل أو بآخر فلسفتها في الحياة وقيمها الحضارية والاجتماعية.
لذلك يعتبر البعض اليوم من المفكرين الاستراتيجيين، ان قوة الدول اليوم لا تقاس بترسانتها العسكرية والحربية أو بسلعها التجارية والاقتصادية، وإنما بقدرتها على إنتاج السلع المعلوماتية والمعرفة بمجالاتها المتعددة. فبمقدار ما تملك من هذه السلع، يكون تأثيرك ودورك في العالم على مستوى المسار والاتجاه والتأثير.
لذلك نجد ان الدول المتقدمة، تتسابق مع بعضها في وضع الخطط للنهوض بمستوى الإنتاج الثقافي والمعلوماتي والمعرفي، وذلك للدور المركزي الذي تقوم به هذه المواد والسلع في العلاقات بين الدول وقياس مستوى القدرة والقوة. من هنا نحن بحاجة ان نعيد النظر في أحوالنا الثقافية والمعلوماتية، في إطار صياغة خطة وطنية طموحة، تتجه صوب تطوير هذا الحقل وتوفير موجبات تقدمه وتميزه.
ولعلنا لا نجانب الحقيقة حين القول: ان الخطوة الأولى لذلك، هو تأسيس الأطر المناسبة التي تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحقل وبناء عناصر تقدمه، وتذليل العقبات التي تحول دون ذلك.
والثقافة في جوهرها، هي صوت الوعي بالتقدم وضرورة امتلاك أسبابه، ووسيلة اكتشاف المفارقات العميقة في أي كيان وطني واجتماعي. لذلك فهي تتطور نوعياً وكمياً، حينما تمارس دورها الحضاري في استمرار مساءلة تاريخها وراهنها، والفحص الدائم في السائد، حتى تطرد منه العناصر الميتة، وتضيف إليه حيوية جديدة وآفاقا غير مسبوقة.
والثقافة أيضاً على المستوى الاجتماعي، وحتى تمارس دورها، وتباشر تأثيرها، هي بحاجة إلى أطر وأوعية وشبكات اجتماعية ووطنية، تعتني بشأنها، وتخطط لتطوير مستوى التعاطي معها، وتساهم في تذليل العقبات التي تحول دون تبوؤ الثقافة في المجتمع والوطن الموقع اللائق والمناسب. وإن الظفر بمعركة الوعي في المجتمع، مرهون بقدرتنا جميعاً على توفير البنية التحتية للمناشط الثقافية في المجتمع. وحتى تتحقق كل هذه المسؤوليات والتطلعات الاجتماعية والوطنية، لابد ان تتوفر الأطر الملائمة والهياكل المناسبة.
لهذا كله فإننا نرى ان الواقع الاجتماعي والوطني، بحاجة إلى جهة متخصصة تهتم بهذا الشأن، وترعى شؤونه وقضاياه. ولعل من مفردات وتجليات هذه الجهة تأسيس (الصندوق الوطني لدعم وتنمية الثقافة)، الذي يأخذ على عاتقه الاهتمام الجاد والمتواصل بهذا الشأن.
أهداف الصندوق:
1- تطوير الحياة الثقافية والإبداعية والأدبية الوطنية، والعمل على توفير كل الشروط الممكنة والضرورية، التي تقود إلى عملية التطوير الثقافي والعلمي. والانطلاق في مشروع خطة وطنية طموحة، تسعى إلى توفير الأطر المادية والكيانية، التي تساهم في عملية التطوير. حيث ان التطوير في هذه الحقول الهامة، يتطلب بناء مقرات ثقافية متكاملة ومسارح فنية وورش عمل، حتى تتوفر كل البنية المطلوبة لعملية التطوير الثقافي في بلادنا.
فالرياضة في وطننا، لم تتطور وتصل إلى منصات التتويج، وتتفوق في الكثير من الألعاب الفردية والجماعية على المستويين القاري والدولي، إلاّ بعد ان تم بناء المنشآت الرياضية التي تتوفر فيها كل إمكانات صقل الموهبة وبلورة القدرة والكفاءة.. وكذلك الثقافة لا يمكن ان تتطور نوعياً وكمياً في بلادنا، إلاّ بتأسيس البنية المادية التحتية للعمل الثقافي والإبداعي الوطني.
2- احتضان الكتّاب والباحثين، والتعاون معهم في مجالات البحث والكتابة على مستوى تقديم العون الفني والثقافي والتنفيذي، فيما يرتبط بعمليات الطباعة والنشر، ومستوى العون المادي. حيث ان وطننا العزيز، يزخر بالقدرات الثقافية والإدبية والإبداعية، والتي تتطلع إلى جهة وطنية مرموقة، تأخذ على عاتقها الدعم والاسناد وتطوير البنية التحتية لعملية الإنتاج الفكري والإبداع الثقافي والأدبي.
3- العناية بأدوات الثقافة الأساسية (الكتاب - الكادر البشري - المؤسسات الثقافية والأدبية).. وهذه العناية تأخذ أشكالاً متعددة كتطوير عملية النشر الثقافي والأدبي، ودعم إنتاج الكتاب، وتوفير الكتابات والأبحاث الجديدة وبناء دور العرض الدائم للكتاب، وتشجيع إنتاجه عبر المساهمة في تكاليف الطباعة أو شراء كمية من نسخ الكتاب أو ما أشبه.
4- تطوير حركة التواصل المعرفي والثقافي والإبداعي مع الآخرين، إذ لا يمكن ان تتطور الثقافة في أي بلد، بدون حركة تواصل فعالة مع المناشط الثقافية والإبداعية التي تجري في خارج الوطن. وتأخذ حركة التواصل المعرفي والثقافي الأشكال التالية:
- توفير الكتاب الثقافي والإبداعي والأدبي، الصادر في الحواضر الثقافية العربية والإسلامية والعالمية.
- إنشاء مؤسسة وطنية، تعني بشؤون الترجمة والنشر، حتى يتم التواصل مع الإنتاج الثقافي والإبداعي الصادر بغير اللغة العربية.
- تشجيع مثقفي ومبدعي الوطن وباحثيه للتواصل مع المواسم والمهرجانات الثقافية والأدبية، التي تجري في الأقطار العربية والإسلامية والصديقة.
- تأسيس المواسم الثقافية الوطنية، التي تستهدف ان تكون ملتقى فكريا وأدبيا وثقافيا بين مفكري ومثقفي وأدباء الوطن والأمة.
ومن أجل إنجاز هذه الأهداف، بحاجة ان يتوسل الصندوق الوطني بالعديد من الوسائل والأساليب، القادرة على انهاض وتطوير الأوضاع الثقافية والإبداعية في الوطن.
والصندوق الوطني الذي نراه أحد روافد التنمية الثقافية الوطنية، يتطلب لكي يتحول من حلم إلى حقيقة إلى مبادرة وطنية ودعم رسمي وأهلي للانطلاق في بلورة مشروع ثقافي وطني جديد، يحدث قطيعة معرفية ومجتمعية مع كل الوقائع التي تمنع تطور الثقافة في الواقع الاجتماعي.
وتتأكد في ظل الظروف الراهنة، الحاجة إلى بلورة مشروع ثقافي وطني جديد، يتطلع إلى التجديد الثقافي والاجتماعي، واستيعاب الشرائح الاجتماعية الجديدة، وتفعيل دور الثقافة في عملية التنمية الشاملة. إذ لا نهوض اقتصادي وتنمية مستدامة، بدون العمل الثقافي النوعي الذي يتجه إلى إزالة عوامل الركود والجمود وخلق الفرص الجديدة لتوسيع قاعدة المشاركة الاجتماعية في مشاريع البناء والتنمية.
وما أحوج محيطنا الاجتماعي اليوم، إلى ذلك العمل الثقافي المؤسسي، الذي يعمل من أجل إرساء وتثبيت قيم الحوار والتسامح والحرية وحقوق الإنسان والعلاقات الإنسانية القائمة على التواصل والانفتاح والعدل والمساواة، حتى يتشكل الواقع الاجتماعي من جديد، وعلى أسس ثقافية تعبر بالمجتمع إلى رحاب المشاركة الفعالة في شؤون الحضارة المعاصرة. وتكون الثقافة بجميع أدواتها ووسائطها، جسر العبور إلى الواقع المأمول.
وجماع القول: إننا نتطلع إلى ذلك اليوم، الذي يتعاظم فيه دور الثقافة والمعرفة في مجتمعنا، وتتجذر فيه حقائق الوعي والعلم، وتسود فيه مؤسسات الوعي والثقافة ومعاهد العلم والمعرفة، فتتوفر في الفضاء الاجتماعي كل عوامل الانخراط النوعي في شؤون العصر وقضاياه المتعددة.
اضف تعليق