وتجعل أسعار الفائدة الأعلى الأصول عالية المخاطر، مثل أسهم التكنولوجيا والعملات المشفرة، أقل جاذبية لأن المستثمرين يمكنهم الحصول على عائد معقول دون الاضطرار إلى تحمل مخاطر كثيرة. ومع صعوبة الحصول على الأموال، قد لا تتحقق الرهانات الأكثر خطورة وتنفجر فقاعات، مما يؤدي إلى أحداث مثل الأزمة المصرفية الإقليمية...
يبدو أن المستثمرين مقتنعون بأن البنوك المركزية الغربية الكبرى تقترب من تحول طال انتظاره من رفع أسعار الفائدة إلى خفضها.. فالأسواق ارتفعت على خلفية ذلك، لكن عام 2024 قد يحمل مفاجآت في وقت يتكيف فيه العالم مع نظام اقتصادي ليست الأموال رخيصة فيه.
فقد ارتفعت الأسهم العالمية وانخفضت عائدات السندات الحكومية الرئيسية في الأسابيع القليلة الماضية، على الرغم من تحذير محافظي البنوك المركزية من الرهان على التحول. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، أصبح المستثمرون الآن مستعدين فعليا لأن يقود مجلس الاحتياطي الاتحادي الاقتصاد نحو هبوط مثالي، وخفض التضخم من دون التسبب في ركود.
وتأتي قناعة السوق بعد أن فاجأ الاقتصاد الأمريكي الناس بمتانته. وتيسر ذلك جزئيا بفضل مدخرات المستهلكين أثناء الجائحة وجاذبية أمريكا باعتبارها مرفأ آمنا للاستثمارات في عالم تتزايد فيه الفوضى. وقد يكون المستثمرون على حق، فقد قال خبير اقتصادي شهير ومسؤول سابق في الاحتياطي الاتحادي في وقت سابق من هذا العام إن الاحتياطي الاتحادي استطاع تحقيق عمليات هبوط سلسة في كثير من الأحيان أكثر مما يُعتقد بشكل عام.
لكن كثيرين من المستثمرين والمديرين التنفيذيين يعتقدون أن الاحتمال منخفض. ومدخرات عصر الجائحة تنضب وتتجمع سحب العواصف، خاصة مع اقتراب انتخابات أمريكية ستكون مثيرة للشقاق فيما يبدو.
ويراهن المستثمرون على أن الاحتياطي الاتحادي يستطيع خفض أسعار الفائدة بما يصل إلى 1.5 بالمئة بحلول نهاية عام 2024، لكن هذا سيترك أسعار الفائدة عند مستوى قريب من أربعة بالمئة وهو أعلى مما كان عليه طوال معظم العقدين الماضيين. وعند هذا المستوى، ستظل السياسة النقدية تشكل عائقا أمام النمو، لأنها ستكون أعلى مما يسمى المعدل المحايد الذي لا يتوسع ولا ينكمش الاقتصاد عنده.
وأضف إلى ذلك مجموعة من المخاطر الأخرى التي تهدد التوقعات في 2024 وتتمثل في حربين كبيرتين وتوتر جيوسياسي متصاعد جعل العولمة تتراجع بوضوح، وانتخابات في عدد من البلدان قد تغير النظام العالمي جذريا وبطرق غير متوقعة.
يقوم كل شيء على أسعار الفائدة، من النمو الاقتصادي إلى أسعار الأصول المالية وكلفة الاقتراض لشراء سيارة أو منزل.
وتجعل أسعار الفائدة الأعلى الأصول عالية المخاطر، مثل أسهم التكنولوجيا والعملات المشفرة، أقل جاذبية لأن المستثمرين يمكنهم الحصول على عائد معقول دون الاضطرار إلى تحمل مخاطر كثيرة.
ومع صعوبة الحصول على الأموال، قد لا تتحقق الرهانات الأكثر خطورة وتنفجر فقاعات، مما يؤدي إلى أحداث مثل الأزمة المصرفية الإقليمية في الولايات المتحدة في مارس آذار الماضي. وفي الوقت الذي تواجه فيه الشركات صعوبة، فإنها تقتصد في نفقاتها. ويفقد الناس وظائفهم وتندر الوظائف الجديدة.
صحيح أن الاحتياطي الاتحادي وغيره من البنوك ترفع أسعار الفائدة منذ أكثر من عام، لكن العالم لم يكمل بعد التحول من وقت كانت فيه الأموال مجانية إلى فترة لم تعد فيها كذلك. ومن المرجح أن يكون عام 2024 هو العام الذي تتضح فيه آثار هذا التحول أكثر.
وهذا يعني أن الشركات، وفي بعض الحالات بلدان بأكملها، ستضطر إلى إعادة هيكلة التزامات ديونها، لأنها لن تصبح قادرة على تحمل دفع الفوائد. وقد أصبح بعض ذلك واضحا بالفعل في مفاوضات ديون الأسواق الناشئة وتزايد حالات إفلاس الشركات. وسجلت طلبات إفلاس الشركات الأمريكية أعلى مستوى منذ عام 2020. ومن المرجح أن يتكشف الأفق عن مزيد منها.
وفي الاقتصاد، ستعاني قطاعات مثل العقارات التجارية مزيدا من الألم مثل التضرر الشديد الذي لحق ببعض أسواق المكاتب بسبب طرق العمل الجديدة بعد الجائحة. ومن المرجح أن يضطر مزيد من أصحاب العقارات إلى إعادة تقييم محافظهم الاستثمارية والتخلي عن مبان، مع تدفق الخسائر إلى البنوك والمستثمرين كما يحدث الآن مع شركة العقارات الأوروبية المتعثرة سيجنا.
وبالنسبة للمستهلكين، فرغم أن المدخرات قد تدر عائدات أكبر، لكن كلفة الاقتراض المرتفعة ستتطلب تكييفا. وعلى سبيل المثال، لم يعرف كثيرون من الراشدين في الولايات المتحدة سوى أسعار فائدة منخفضة على قروضهم العقارية التي مدتها 30 عاما. وسيتعين عليهم التكيف مع أسعار فائدة تزيد عن المثلين وإجراء حسابات على ميزانياتهم.
وخلاصة القول إن قناعات المستثمرين ستخضع على الأرجح للاختبار في وقت سيتعين على الجميع فيه التوصل لطريقة للتكيف مع أسعار فائدة أعلى.
أسباب للتفاؤل بمستقبل الاقتصاد العالمي
خشي الكثيرون أن يكون عام 2023 عام الركود، ثم تبين أنه العام الذي أثبت فيه الاقتصاد العالمي مرونة رائعة بقيادة الاقتصاد الأميركي، الذي استطاع تحدي المخاوف الاقتصادية ومعدل التضخم المتسارع.
وعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، تباطأ معدل التضخم بشكلٍ كبير، ولا تزال البطالة منخفضة، وسط توقعات بإمكانية اتجاه بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيض أسعار الفائدة في شهر مارس آذار المقبل.
ومع بداية عام 2024، هناك خمسة أسباب ملموسة للتفاؤل مستقبلاً، لكن لا يزال الاقتصاد الأميركي يواجه مخاطر وتحديات حقيقية، بدءاً من الحرب بين إسرائيل وغزة، وحتى الانتخابات الرئاسية المنتظرة.
1- تباطؤ التضخم الملحوظ
توقع كثيرون في وول ستريت وواشنطن أن يهدأ التضخم بعد أن وصل إلى أعلى مستوياته في أربعة عقود في يونيو حزيران 2022، لكن قليلين توقعوا مدى سرعة حدوث ذلك.
تباطأت أسعار المستهلكين إلى 3.1 في المئة على أساس سنوي في نوفمبر تشرين الثاني 2023، بانخفاض حاد عن المعدل البالغ 9.1 في المئة في يونيو حزيران 2022.
يأتي ذلك بدعم من تراجع أسعار البنزين بشكل ملحوظ عام 2023، وتتوقع شركة (GasBuddy) أن ينخفض متوسط أسعار البنزين السنوية في الولايات المتحدة مرة أخرى عام 2024، ما يسمح للمستهلكين بإنفاق 32 مليار دولار أقل على الوقود، مما فعلوه عام 2023.
2- الابتعاد عن السياسة التشديدية
تباطأ معدل التضخم كثيراً لدرجة أن بنك الاحتياطي الفيدرالي أوقف الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة التي هددت بإخراج الاقتصاد عن مساره وأخافت المستثمرين، بل إن مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي يخططون الآن لخفض أسعار الفائدة عام 2024، وهي النتيجة التي ستمثّل إعلان النصر في الحرب على التضخم.
وقال مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في وكالة موديز أناليتكس، لشبكة “سي إن إن” إنه يشتبه في أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيخفّض أسعار الفائدة أربع مرات عام 2024، ومن المرجح أن يبدأ في مايو أيار، بينما يتوقع بنك غولدمان ساكس أن يبدأ الفيدرالي الأميركي تخفيض أسعار الفائدة في مارس آذار.
ومن شأن تخفيضات أسعار الفائدة أن تجلب الراحة إلى الأسواق، ما يخفّض تكلفة الحصول على رهن عقاري، والحصول على قرض سيارة، وفضلاً عن تكلفة الاقتراض بواسطة بطاقات الائتمان.
3- أسواق الأسهم في انتظار دفعة صعود
أدّى تباطؤ التضخم وتلاشي مخاوف الركود وتخفيضات أسعار الفائدة التي تلوح في الأفق إلى تحفيز أسهم وول ستريت، دافعة إياها إلى الصعود نحو مستويات قياسية.
وأنهت الأسهم الأميركية هذا العام بقوة مع ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 لمدة تسعة أسابيع متتالية في نهاية العام، وهي أطول سلسلة مكاسب منذ عام 2004، كما ارتفع مؤشر ناسداك بنسبة 43 في المئة، مبتعداً بفارق ضئيل عن أفضل عام له منذ عقدين من الزمن.
ويعكس ارتفاع سوق الأسهم إلى حد كبير التفاؤل بشأن الاقتصاد والتضخم والثقة بالهبوط الناعم، وهو خبر جيد لمستثمري وول ستريت.
4- انخفاض عمليات تسريح العمالة
على الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية عالمياً، فإن معدل البطالة لم يتسارع بشكلٍ كبير، وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال لا تزال البطالة عند مستوى 3.7 في المئة فقط، أي بالقرب من أدنى مستوياتها منذ نصف قرن.
كما لا تزال مطالبات البطالة الأولية الأميركية، وهي مؤشر على تسريح العمال، منخفضة تاريخياً عند 218 ألفاً فقط، وهي إشارة إلى أن العديد من أصحاب العمل يترددون في التخلي عن العمال لديهم.
وقال زاندي، «إن المطالبات منخفضة للغاية لكي تدق أجراس الإنذار، يجب أن تكون المطالبات أقرب إلى 300 ألف، نحن بعيدون جداً عن ذلك».
وأضاف، «طالما ظلت عمليات تسريح العمال منخفضة نسبياً، فمن المفترض أن يكون الاقتصاد على ما يرام.. نحن في هذا النوع من الدورة الاقتصادية المرنة».
5- تسارع الأجور مقارنة بأسعار المستهلكين
أعرب الخبراء عن تفاؤلهم بأن نمو الأجور الحقيقية سيكتسب زخماً عام 2024، وقال زاندي، «مع مرور الوقت وفي ظل بقاء التضخم منخفضاً، سوف تلحق معدلات الأجور بالتضخم وتتجاوزه، ومن ثم سيبدأ الناس الشعور بالتحسن تجاه الأشياء».
بطبيعة الحال، أظهرت السنوات القليلة الماضية للجميع كيف يمكن للتطورات غير المتوقعة مثل جائحة كورونا، أو الحروب بين الدول أن تدمر التوقعات الأكثر تفاؤلاً.
وقال زاندي لشبكة CNN، إن قائمة مخاوفه يتصدرها خطر حدوث مزيد من الضغط على النظام المالي مثل فشل البنوك الذي حدث في أوائل عام 2023.
كما أن الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، قد تؤثّر في الاقتصاد، وتوقع زاندي منافسة متقاربة للغاية، وحذّر من أن الانتخابات المتنازع عليها قد تُثير حالة من عدم اليقين أو حتى اضطرابات اجتماعية.
اضف تعليق