عادت أسعار الفائدة السالبة من جديد إلى المناقشات المتعلقة بالسياسات لأنها عادت إلى الانخفاض مرة أخرى على مستوى العالم، حتى مع انتعاش أسعار الفائدة في السوق. تتصارع الاقتصادات من كندا إلى السويد مع انخفاض التضخم وارتفاع معدلات البطالة. وفي حين لا تزال الأسواق تتوقع أن تظل أسعار الفائدة إيجابية...
بقلم: ويليم إتش. بويتر، إبراهيم رحباري
رالي- مرة أخرى، تتصدر فكرة أسعار الفائدة السالبة العناوين الرئيسية، بعد القرار الذي اتخذه البنك الوطني السويسري (SNB) في ديسمبر/كانون الأول بخفض سعر الفائدة إلى 0.5% فقط. عندما طُرِحَـت هذه المسألة في الماضي، شجب المعلقون أسعار الفائدة الاسمية السالبة واصفين إياها بأنها " كارثة مشؤومة"، و"مناهضة للرأسمالية"، بل وحتى "أغبى فكرة في تاريخ الاقتصاد". ورغم أن الروايات الرسمية الصادرة عن مسؤولين في بنوك مركزية طبقت أسعار الفائدة السالبة كانت أقل قسوة في انتقادها، فإنها لم تكن متحمسة لها.
بعد أن ارتفع المخزون العالمي من الديون ذات العائد السالب إلى ذروته عند مستوى 18 تريليون دولار في أواخر عام 2020، انهار بحلول عام 2022، عندما رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة لاحتواء التضخم. وعندما رفع حتى بنك اليابان سعر الفائدة إلى المنطقة الإيجابية في مارس/آذار 2024، رأى في ذلك عدد كبير من المراقبين نهاية حقبة؛ إذ لم يكن من المرجح العودة إلى أسعار الفائدة السالبة قريبا.
لكن التقارير التي تحدثت عن موت أسعار الفائدة السالبة لم تخل من مبالغة شديدة. فقبل شهرين من خفض البنك الوطني السويسري لأسعار الفائدة في ديسمبر/كانون الأول، أوضح رئيس البنك الجديد، مارتن شليجل، أنه من غير الممكن استبعاد أسعار الفائدة السالبة. ورغم أن الأسواق المالية تتوقع انخفاض أسعار الفائدة السويسرية إلى الصفر وبقائها عند هذا المستوى، فإننا نعتقد أن البنك الوطني السويسري قد يخفض أسعار الفائدة "إلى المنطقة السالبة" مرة أخرى في غضون العام المقبل.
أحد الأسباب وراء ذلك هو أن أسعار الفائدة السالبة يمكن استخدامها لمواجهة الارتفاع المفرط في قيمة العملة، وهو يمثل بالفعل مشكلة لسويسرا. في ديسمبر/كانون الأول 2024، كان معدل التضخم السنوي لمؤشر أسعار المستهلكين 0.6% فقط، وهو ما يقع ضمن هدف التضخم الذي حدده البنك الوطني السويسري، "أقل من 2%" ــ وهو في حد ذاته أقل من المعيار غير الرسمي في الاقتصادات المتقدمة. في الوقت ذاته، ارتفعت قيمة الفرنك السويسري بشكل ملحوظ، بما يزيد عن 40% مقابل اليورو منذ طُـرِحَ اليورو.
لا تعكس قوة الفرنك السويسري النمو الاقتصادي السريع في سويسرا (نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة مُـعتَـبَرة لكنها متواضعة عند مستوى 2% على أساس سنوي في الربع الثالث من عام 2024) أو أداء سوق الأسهم، بل يعكس وضعها كملاذ آمن. على الرغم من الحوادث المؤسفة مثل انهيار بنك كريدي سويس في عام 2023، أصبح الفرنك السويسري ــ مثله كمثل الذهب أو البيتكوين ــ وسيلة تحوط ضد انخفاض قيمة العملة في أماكن أخرى.
إن وضع سويسرا كملاذ آمن ليس جديدا بطبيعة الحال. فمنذ فرض رسوما على الودائع الأجنبية في سبعينيات القرن العشرين، أظهر البنك الوطني السويسري على نحو منتظم كيف من الممكن أن تردع أسعار الفائدة السالبة تدفقات رؤوس الأموال إلى الداخل دون أن تتسبب في إرباك الاقتصاد المحلي بشكل مفرط. في الحالة السويسرية، كانت أسعار الفائدة السالبة في المقام الأول أداة لإدارة سعر الصرف وحساب رأس المال، على غرار التدخلات في سوق العملات أو ضوابط رأس المال. من هذا المنظور، اكتسبت أسعار الفائدة السالبة جدواها.
كما عادت أسعار الفائدة السالبة من جديد إلى المناقشات المتعلقة بالسياسات لأنها عادت إلى الانخفاض مرة أخرى على مستوى العالم، حتى مع انتعاش أسعار الفائدة في السوق. تتصارع الاقتصادات من كندا إلى السويد مع انخفاض التضخم وارتفاع معدلات البطالة. وفي حين لا تزال الأسواق تتوقع أن تظل أسعار الفائدة إيجابية في هذه الحالات، فإن الصدمة الناجمة عن سياسة الحد من التضخم قد تدفع البنوك المركزية إلى نقطة حيث تتطلب أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) المحفزة بالقدر الكافي خفض أسعار الفائدة الاسمية الرسمية إلى ما دون الصفر.
يقودنا هذا إلى السبب الأخير وراء عدم إمكانية استبعاد أسعار الفائدة السالبة: وهو أن الأدوات البديلة لتحفيز الطلب منقوصة. في مختلف أنحاء العالم، لا تزال البنوك المركزية تحاول فهم ما الذي انحرف عن الصواب في أزمة "التضخم العظيم" في عشرينيات القرن الحالي. الأمر الواضح رغم ذلك هو أن العجز المالي الهائل والدين العام الذي ارتفع إلى مستوى غير مسبوق ربما يقيدان محاولات زيادة التحفيز المالي دون دعم نقدي. مع ذلك، كانت عمليات شراء الأصول من جانب البنوك المركزية على مدى العقد ونصف العقد الأخيرين مفرطة ومكلفة. وقد أدت بشكل مباشر إلى خسائر كبيرة في الميزانيات العمومية للبنوك المركزية، وبشكل غير مباشر إلى الإسراف المالي ونشوء فقاعات الأصول.
بالنظر إلى هذه النتائج، نعتقد أن معظم تقييمات أسعار الفائدة السالبة تغفل عن حقيقة جوهرية. فهي تتجاهل حقيقة مفادها أن أسعار الفائدة لم تصبح سالبة إلا بالكاد (كان أدناها 0.75% بالسالب، في سويسرا، كما خمنت)، وأن هذه المعدلات لم تُـمَـرَّر إلى الشركات إلا بشكل جزئي، وحتى بدرجة أقل إلى الأسر. علاوة على ذلك، يتفق معظم المراقبين على أن الآثار الجانبية الـمُـشَـوِّهة المترتبة على أسعار الفائدة السالبة كانت متواضعة. وكما يلاحظ شليجل، "لا أحد يحب أسعار الفائدة السالبة"، لكن النتيجة الرئيسية المستخلصة من التجربة الأخيرة هي أنها "نجحت".
من المؤكد أننا لا نتوقع العودة كليا إلى حقبة الركود المزمن وأسعار الفائدة الشديدة الانخفاض، كما أننا لا نزعم أن أسعار الفائدة السالبة هي وسيلة مؤكدة لتحفيز الطلب. لكنها تكمل ترسانة السياسة النقدية عندما يكون التضخم منخفضا والنشاط الاقتصادي ضعيفا.
نظرا لهذه الإمكانية، ينبغي لنا أن ننظر إلى أسعار الفائدة السالبة على أنها أداة قياسية لإدارة العملة وحساب رأس المال. علاوة على ذلك، نتوقع حدوث تباين أكبر بين البلدان بمرور الوقت. وبسبب نُـدرة الأدوات البديلة لإدارة الطلب، ستظل أسعار الفائدة السالبة ــ بمفردها أو مقترنة بأدوات أخرى ــ على قدر من الأهمية في مكان ما على الأقل.
تشكل عودة أسعار الفائدة السالبة تذكِرة مفيدة بأن الظروف الاقتصادية من الممكن أن تتغير بسرعة، وكذا مقايضات صناع السياسات وعقلياتهم. في عالم يتسم بالتقلبات ومقايضات السياسات المتصاعدة، ستكون أسعار الفائدة السالبة أداة لا يملك صناع السياسات والمستثمرون ترف تجاهلها ــ سواء شاؤوا أو أبوا.
اضف تعليق