لا تنظرُوا إِلى عاشُوراء من خلالهِم ولكِن انظرُوا إِليهم مِن خلالِ عاشُوراء فإِذا تطابقَ قولهُم وفعلهُم وسلوكهُم معَ كربلاء فاعلَم أَنَّهم صادِقُونَ وأَنَّهم نماذِجَ تُحتذى، وإِلَّا فاضرِب بهِم وبنهجهِم وسلُوكهِم عَرضَ الحائطِ ولا تُبالي. تخطَأ عندما تتصوَّر أَنَّهُمُ الميزانَ فتقيسَ بهِ عاشُوراء وكربلاء، فهذهِ جريمةٌ معرفيَّةٌ...
أَنا، وكلُّ مَن شاركَ في إِنتفاضةِ صفَر المُظفَّر عام [١٣٩٧ هـ/ ١٩٧٧م] عندما نُشارِكُ ونُشاهِدُ ونُتابِعُ اليَوم مشاهِدَ مسيراتِ الأَربعين المِليونيَّة التي تتميَّز بكُلِّ معاني الإِنسانيَّةِ وقِيَمِ الحَضارةِ ومظاهرِ العالميَّةِ وفي وسطِ أَجواءٍ من الأَمنِ والإِستقرارِ والطُّمأنينةِ الرُّوحيَّةِ والرَّاحيةِ النفسيَّةِ، سواءً في كُلِّ شوارعِ العراقِ وطُرُقهِ العامَّة التي تنتهي إِلى حيثُ مَثوى جسدِ الحُسينِ السِّبط (ع) الطُّهرِ وأَخيهِ قَمَر بني هاشمٍ وساقي عطاشا كربلاء أَبي الفضلِ العبَّاسِ (ع) والثُّلَّةِ الطَّاهرةِ الشُّهداءِ مِن أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ الميامِينَ المُنتجَبينَ، أَو في مُختلفِ عواصمِ دُوَلِ العالَمِ في الإِتِّجاهاتِ الأَربعةِ وكُبرياتِ مُدُنهِ، عندما نُشارِكُ ونُشاهِدُ ونُتابِعُ كُلَّ ذلكَ تأخُذنا الذَّاكِرة ويجرُّنا الخَيالُ فَوراً ليرمِينا في عُمقِ التَّاريخِ لنعُودَ إِلى تلكَ الأَيَّامِ العصيبةِ من عام ١٩٧٧ وتحدِيداً في الأَيَّامِ الأَربعةِ التي سبقَت ذِكرى أَربعين الحُسين الشَّهيد (ع) وقلُوبُ المُؤمنِينَ عُشَّاقُ كربلاء تغلي شَوقاً للإِنطلاقِ سَيراً على الأَقدامِ للزِّيارةِ وعلى عادتهِم السنويَّة.
في ذلكَ العام كانَ قرارُ السُّلطةِ الغاشِمةِ قاسِياً عليهِم إِذ منعَت أَوامرُ الطَّاغيةِ الذَّليلِ صدَّام حسين مَنعاً باتّاً زيارةَ الأَربعينَ مهما كانَ الثَّمنُ، وقد تجهَّزت عسكريّاً وأَمنيّاً لتنفيذِ القرارِ، وفتحَت أَبوابَ السُّجُونِ والمُعتقلاتِ لتستَقبِل مَن يتحدَّى القَرار، فيما وقفَت شاخِصةً أَعوادُ المشانِقِ لتتدلَّى منها الأَجسادُ الطَّاهِرةُ للشُّهداءِ المُتمرِّدينَ على القرارِ!.
فهلْ نستسلِم؟! هل ننصاعُ للقرارِ الجائرِ؟! هلْ ينهارُ التحدِّي الحُسيني الذي عُرِفَ بهِ العراقيُّونَ في كُلِّ مرَّةٍ أَمامَ التعنُّتِ والتزمُّتِ والإِرهابِ الأَمويِّ الذي عُرِفَ بهِ نظامُ [القَومَجيَّة] الذينَ حاولُوا منذُ لحظةِ استيلائهِم على السُّلطةِ في بغداد أَن يضبُطُوا حركةَ الشَّعبِ وميُولهِ وتوجُّهاتهِ على حركةِ عصاهُم الغَليظة، التي عادَت الدِّينَ والقِيَمَ والتُّراثَ، فإِذا مالَت يميناً عليهِ أَن يميلَ معها وإِذا تحرَّكت يساراً فيساراً؟!.
ومنذُ متى استسلمَ عُشَّاقُ الحُسينِ السِّبط (ع) ؟! منذُ متى تركُوا كربلاء تتحكَّم بها قراراتُ حفنةٍ من الطُّغامِ [أَرذالُ النَّاسِ وأَوغادُهُمْ] الجُفاةِ الطُّغاةِ؟! منذُ متى انهارُوا أَمامَ مثلِ هذهِ القراراتِ الظَّالمةِ التي ظلَّت الجِهات التي تقفُ خلفَها وعلى مرِّ التَّاريخِ ترتعِدُ فرائصَها فرَقاً من إِسمِ الحُسين (ع) وعُنوانِ كربلاء وشِعار عاشُوراء {هَيهات منَّا الذلَّة}؟!.
لم يستسلِم الحُسينيُّونَ للقرارِ الجائرِ، فآثرُوا التحدِّي الذي كانَ ثمنهُ دِماءاً ودمُوعاً وسجُوناً وتعذيباً وأَراملَ وأَيتامٍ وشباباً بعُمرِ الورُودِ ليُثبتُوا بموقفهِم الحُسيني الرَّاسخ أَنَّهم لن يتنازلُوا عن مبادئهِم وقِيمهِم وعاداتهِم وتقاليدهِم مهما كانَ الثَّمنُ، وأَنَّ كُلَّ جيلٍ مِنهُم أَمينٌ على الرَّايةِ لا ورِثَها فلا يدعَها تُلامِسُ الأَرضَ وفيهِ عِرقٌ ينبُض وقبلَ أَن يُسلِّمها للجيلِ التَّالي وأَنَّ قولهُم [أَبد والله ما نَنسى حُسيْنا] ليسَ ثرثرَةً بِلا معنى، بل إِنَّهُ يحملُ كُلَّ المعنى ويستَوعِبُ كُلَّ الجَوهر.
كما أَنَّ شعارهُم [لَو قطَّعُوا أَرجُلنا واليَدَين نأتيكَ زحفاً سيِّدي يا حُسين] واقعٌ وليسَ خيالاً فلقَد ترجمهُ الحُسينيُّونَ مشروعَ تضحِيةٍ من أَجلِ وعي القِيَمِ على مرِّ التَّاريخِ والدَّليلُ على ذلكَ ما سطَّرهُ التَّاريخ من مثلِ هذهِ القَصَصِ منذُ عاشوراء عام ٦١ للهجرةِ ولحدِّ الآن، فلقد كانَ ثمنُ التَّحدي دائماً أَموالاً تُدفعُ وأَطرافاً تُقطعُ ورؤُوساً تتدحرجُ تحزُّها سكاكينِ الظَّالمينَ وأَجساداً تُصلَبُ وتتدلَّى بإِباءٍ مِن على أَعوادِ مشانقِ الطُّغاةِ، وكُلُّ ذلكَ من أَجلِ إِثباتِ الهويَّةِ والإِنتماءِ والولاءِ، ولإِحياءِ والتَّذكيرِ بصدقِ التحدِّي الزَّينبي الذي أَصحرَت بهِ العقِيلة زَينب بنتَ عليٍّ (ع) في مجلسِ الطَّاغية يَزيد في الشَّام عندما واجهتهُ بثِقةٍ ويقينٍ وبصيرةٍ ثاقِبةٍ وصبرٍ {فكِدْ كيدَك واسعَ سعيكْ وناصِبْ جَهدَك، فوالله لا تمحُو ذِكرَنا ولا تُمِيتُ وَحيَنا}
نصِيحتي لكُلِّ المُشكِّكينَ والمُتردِّدينَ والحائِرينَ الذينَ يُقارِنُونَ بينَ قِيَمِ كربلاء وما يفعلهُ [ساسة وزُعماء] يزعمُونَ أَنَّهم ينتمُون إِلى الحُسين السِّبط (ع) وإِلى نهجِ عاشُوراء، أَقولُ لهُم ليرتاحُوا؛ لا تنظرُوا إِلى عاشُوراء من خلالهِم ولكِن انظرُوا إِليهم مِن خلالِ عاشُوراء فإِذا تطابقَ قولهُم وفعلهُم وسلوكهُم معَ كربلاء فاعلَم أَنَّهم صادِقُونَ وأَنَّهم نماذِجَ تُحتذى، وإِلَّا فاضرِب بهِم وبنهجهِم وسلُوكهِم عَرضَ الحائطِ ولا تُبالي.
تخطَأ عندما تتصوَّر أَنَّهُمُ الميزانَ فتقيسَ بهِ عاشُوراء وكربلاء، فهذهِ جريمةٌ معرفيَّةٌ لا تُغتَفَر، وأَنَّ العكسَ هوَ الصَّحيحُ، فكربلاء وعاشُوراء هي الميزان الذي يُقاسُ بهِ ويُميَّزُ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ وبينَ الرِّجالِ الصَّالحينَ عن غَيرهِم، وصدقَ رسُولُ الله (ص) عندما قالَ {عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يدُورُ معَهُ حَيثُ ما دارَ}.
هذا يعني؛ حتَّى الحقُّ لا تعرِفهُ إِذا لم تعرِفَ علِيّاً أَوَّلاً وليسَ العكسُ.
فلقَد قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَاهُ [يقصُدُ أَمِيرُ المُؤمنِينَ (ع)] فَقَالَ؛ أَتَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟!.
أُنظُر كيفَ قاسَ الحقَّ بحفنةٍ منَ الرِّجالِ ضلَّلهُ تاريخهُم!.
فَقَالَ (ع) {يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه ولَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه}.
لا يجُوزُ لكَ أَن تقيسَ عاشُوراء بسلُوكِ مُعمَّمٍ فاسدٍ أَو خطيبٍ تافهٍ أَو سياسيٍّ [شيعيٍّ] فاشلٍ، فإِنَّكَ بذلِكَ تظلِم نفسَكَ أَوَّلاً وتستخِفَّ بعقلِكَ ثانِياً ولا تَعطي عاشُوراء حقَّها منَ الحقيقةِ ثالِثاً.
فلقَد قَالَ أَميرُ المؤمنينَ (ع) لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وقَدْ سَمِعَهُ يُرَاجِعُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَلَاماً {دَعْهُ يَا عَمَّارُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا قَارَبَهُ مِنَ الدُّنْيَا وعَلَى عَمْدٍ لَبَسَ عَلَى نَفْسِه لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ}.
فلا تكُن من هذا النَّوعِ منَ النَّاسِ الذينَ يُضلِّلونَ أَنفسهُم بأَنفسهِم عندما يتعذَّرونُ ويتحجَّجُونَ بفاسدٍ يزعمُ إِنتماءهُ للحُسينِ السِّبطِ (ع) ليطعنَ بعاشُوراء أَو يقلِّلَ من قيمةِ كربلاء ليتهرَّبَ من مسؤُوليَّةِ المَوقفِ والإِنتماءِ والوَلاءِ.
أَمَّا الصَّادقُونَ فهُمُ الذينَ يتَّخذُونَ من كربلاء ميزاناً يزِنُوا فيهِ سلوكَ الرِّجالِ وليسَ العكسُ، فمنذُ متى كانَت كربلاء تُقاسُ بنماذِجَ منَ الرِّجالِ التَّافهينَ المُنافقينَ كالَّتي وصفَها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {الْعُمْيِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الأَسْمَاعِ الْكُمْهِ الأَبْصَارِ الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ويُطِيعُونَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ويَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ ويَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ ولَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلَّا عَامِلُهُ ولَا يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلَّا فَاعِلُهُ}.
وفي الجُملتَينِ الأَخيرتَينِ دُرَّةُ تاجِ الفَوزِ بالحقِّ بعيداً عن تضلِيلِ الباطلِ وشياطينهِ منَ الإِنسِ والجنِّ.
اضف تعليق