لعبت العوامل النفسية دوراً أيضاً. لقد كانت الشركات اليابانية الكبرى ــ بل والمجتمع الياباني عموماً ــ فخورة ببراعتها الهندسية، لذا فقد وجدت صعوبة بالغة في تقبل حقيقة مفادها أن هذه القدرات الرائعة بدأت تفقد قيمتها، والطرح نفسه ينطبق على البيروقراطيين الحكوميين، بما في ذلك العاملين...
بقلم: دانييل جروس
ميلان ـ لابد وأن يكون الوضع في اليابان جيد حيث لديها قوة عاملة متعلمة ومنضبطة كما انها تتفوق على معظم الدول الصناعية الأخرى في الاستثمار والإنفاق على البحث والتطوير وفي واقع الأمر فإن الإنفاق على البحث والتطوير في اليابان والذي بلغ 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي كان حتى وقت قريب أعلى حتى من الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإن الانحدار النسبي لليابان مستمر.
لقد كانت اليابان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم لأسباب ليس أقلها قطاعها الصناعي الذي بدا وكأنه لا يهزم، ولكنها اليوم رابع أكبر اقتصاد في العالم حيث تظهر البيانات أنها تراجعت مؤخراً لتحل خلف ألمانيا بعدد سكانها الأقل بكثير ــ 83 مليون نسمة مقارنة بـ 123 مليون نسمة ــ والتي تخضع لاتجاهات ديموغرافية غير مواتية، تشبه إلى حد كبير تلك التي تشهدها اليابان.
ولكي نفهم الانحدار الاقتصادي الذي تشهده اليابان، فما علينا إلا أن نتأمل قصة جهاز تسجيل الفيديو (في سي ر). لقد كان هذا الجهاز والذي يتطلب عناصر ميكانيكية صغيرة جدًا وموثوقة من المعجزات التقنية التي كانت في الماضي علامة بارزة من علامات التصنيع الياباني الدقيق. لقد كانت اليابان تحتكر تقريبًا السوق العالمي لأجهزة تسجيل الفيديو العالمية (في سي ر)، حيث لم يكن هناك منتجون أمريكيون، ولم تتمكن الشركات الأوروبية من التنافس مع اليابان فيما يتعلق بالنسبة والتناسب بين الجودة والسعر، وفي أوج ازدهارها ــ منتصف ثمانينات القرن الماضي ــ تم إنتاج وتصدير ملايين عديدة من تلك الوحدات، حيث كان المصدرون اليابانيون يتقاضون أسعارًا مرتفعة نسبيًا ويحققون هامش ربح جيد.
لكن التكنولوجيا التناظرية لأجهزة تسجيل الفيديو (في سي ر) لم تتمكن من منافسة البدائل الرقمية التي ظهرت في التسعينيات من القرن الماضي وأصبحت منتشرة في كل مكان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث انخفض إنتاج أجهزة تسجيل الفيديو (في سي ر)، مما اضطر الشركات إلى خفض الأسعار وتقليص هوامش الربح إلى أن تخلت تلك الشركات عن المنتج تمامًا الواحدة تلو الأخرى. أما اليوم، فلا توجد شركة واحدة في اليابان تنتج أجهزة تسجيل الفيديو (في سي ر). لقد اتبعت العديد من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية الأخرى مثل اشرطة التسجيلات وجهاز الاستماع "ووكمان "مسارًا مشابهًا.
لقد كانت الإلكترونيات الاستهلاكية حجر الزاوية في صناعة التصدير في اليابان، ولكن الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية الرقمية وهي الأجهزة الترانزستورية الجديدة لم تكن تتطلب الهندسة الدقيقة التي تفوقت فيها اليابان. وعليه، كان من الأرخص إنتاج مكوناتها في أماكن أخرى في آسيا وتجميع المنتجات في الصين، مع توفير الولايات المتحدة الأمريكية للبرمجيات، وفي الوقت نفسه، استمر الطلب على الصادرات اليابانية وأسعارها في الانخفاض.
ويميل خبراء الاقتصاد إلى النظر إلى أسعار صادرات أي دولة ليس بشكل منفصل، بل نسبة إلى أسعار وارداتها ــ أو ما يسمى شروط التبادل التجاري، وتُعَد اليابان حالة مختلفة بين الاقتصادات المتقدمة، حيث انحدرت معدلات التبادل التجاري لديها -والتي بلغت نحو 160% في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين- خلال أواخر التسعينيات من القرن الماضي وانهارت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبحلول عام 2008، انخفضت النسبة إلى أقل من 100%. وعلى سبيل المقارنة، ظلت معدلات التبادل التجاري في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية عند مستوى ثابت تقريبًا (حوالي 100%) خلال هذه الفترة بأكملها، وظلت دائمًا تقريبًا ضمن هامش ضيق يزيد أو ينقص عشر نقاط مئوية.
لقد لعبت عوامل مثل تدهور التبادل التجاري دوراً أكبر بكثير من العوامل الديموغرافية غير المواتية في التدهور الاقتصادي النسبي للبلاد. صحيح أن سكان اليابان يتقدمون في السن وتتقلص أعدادهم، ولكن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية زاد بنحو الربع فقط مقارنة بنظيره في اليابان منذ عام 1995 ولكن على الرغم ذلك فقد توسع ناتجها المحلي الإجمالي بما يزيد على 300%.
وعلى الرغم من استمرار مستويات المعيشة في اليابان في التحسن، فإن وتيرة هذا التحسن بطيئة ووضع المستهلكين اليابانيين في الاجمال ليس بمستوى نظرائهم في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ولنأخذ على سبيل المثال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي: إذا عدلنا ذلك على أساس تكاليف المعيشة، فسوف نجد أن اليابان تراجعت بعض الشيء لصالح أوروبا والتي تحتل في العادة مركز قريب جدًا من الولايات المتحدة الأمريكية.
والسؤال الكبير هنا هو لماذا لم يتخلى المنتجون اليابانيون عن منتجات مثل أجهزة تسجيل الفيديو (في سي ر) – ولم تحثهم الحكومة على التخلي عنها -بشكل أسرع أو محاولة الريادة في مجال التقنيات المتطورة التي كانت تحل محلها. إن مما لا شك فيه ان جزء من الإجابة على هذا السؤال هو الاعتماد على مسار معين فعندما تكتسب الشركات المعرفة في مجال معين، فإنها غالبا ما تجد أنه من المربح أكثر تحسين مهاراتها في المجال نفسه، بدلاً من الانتقال إلى مجال جديد.
لكن ربما لعبت العوامل النفسية دوراً أيضاً. لقد كانت الشركات اليابانية الكبرى ــ بل والمجتمع الياباني عموماً ــ فخورة ببراعتها الهندسية، لذا فقد وجدت صعوبة بالغة في تقبل حقيقة مفادها أن هذه القدرات الرائعة بدأت تفقد قيمتها، والطرح نفسه ينطبق على البيروقراطيين الحكوميين، بما في ذلك العاملين في وزارة التجارة الدولية والصناعة، وهي المؤسسة التي اكتسبت سمعة تكاد تكون أسطورية لنجاحها في قيادة النمو في اليابان. لقد اختار القادة والمنتجون اليابانيون فعليًا الانحدار الاقتصادي بدلاً من الاعتراف بأن كفاءتهم الفنية الأساسية أصبحت عديمة القيمة.
وهذا يقودنا إلى أول درس رئيسي من تجربة اليابان: أي اقتصاد، بغض النظر عن مدى نجاحه في الماضي، يجب أن يكون مستعدًا للتكيف مع الأفكار والتقنيات والظروف الجديدة، والدرس الرئيسي الثاني هو أن الانحدار النسبي، حتى لو تمت إدارته بشكل جيد، يؤدي إلى خسارة النفوذ العالمي.
يتعين على أوروبا ــ في ظل الشيخوخة السكانية والضعف في مجال التقنيات الناشئة ــ أن تنتبه لهذا الأمر، فعلى مدار ما يقرب من عشرين عامًا، سعى الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الإنفاق على البحث والتطوير إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي ودعم الاستثمار، لكن الوصول إلى المستويات اليابانية فيما يتعلق بهذين المقياسين قد لا يحل مشكلة النمو في أوروبا إذا تم توجيه الموارد نحو الصناعات التي تتضاءل أهميتها.
اضف تعليق