أصبحت العائدات المرتفعة المستمرة التي تعود على المنصات المهيمنة فاحشة. ومن الأهمية بمكان أن نعمل على وأد نمو هيمنة السوق هنا في مهدها؛ وقد يكون النهج الديناميكي للمبادئ التوجيهية الجديدة فعالا بشكل خاص. نحن جميعا نعاني من قوة السوق، لأنها تشوه الأسواق على النحو الذي يؤدي إلى خفض...
بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك ــ المنافسة هي العامل الذي يجعل الأسواق ناجحة (عندما تعمل على ذلك). لكن الشركات لا تحب المنافسة لأنها تميل إلى دفع الأرباح إلى الانخفاض. ومن منظور رجل الأعمال المعتاد، الذي يتمثل هدفه في جني مكاسب أعلى من العائد الطبيعي على رأس المال، فإن هذه الحال ليست مبهجة. وكما لاحظ آدم سميث قبل 250 عاما، "نادرا ما يجتمع الأشخاص الذين ينتمون إلى ذات المهنة معا، حتى من أجل المتعة والتسلية، لكن أي محادثة بينهم تنتهي بمؤامرة ضد عامة الناس، أو بعض الحيل لرفع الأسعار".

طوال مائة وثلاثين عاما على الأقل، ظلت حكومة الولايات المتحدة تحاول ضمان المنافسة في السوق. لكنها كانت معركة متواصلة. تبتكر الشركات دائما طرقا جديدة للتحايل على المنافسة؛ ولا ينقطع محاموها عن ابتداع أساليب جديدة لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون؛ وقد فشلت الحكومة في مواكبة أي من هذه الممارسات، ناهيك عن ملاحقة التقدم السريع في التكنولوجيا. وبالتالي، تتجلى الآن أدلة دامغة على زيادة قوة السوق في الولايات المتحدة. وهذا يعني تحقيق أرباح أكبر للشركات (تتجاوز بأشواط العائدات المعدلة تبعا للمخاطر)، وزيادة تركيز السوق في قطاع تلو الآخر، وانخفاض عدد الداخلين الجدد.

يحب الأميركيون أن يتصوروا أن اقتصادهم هو أكثر الاقتصادات التي شهدها العالَـم ديناميكية على الإطلاق، وهو الاقتصاد الذي أصبح الآن على أعتاب عصر جديد من الإبداع. لكن البيانات تدحض مثل هذه الادعاءات. لنتأمل هنا المقياس المعياري للإبداع: إنتاجية العامل الكلي، التي تشير إلى نمو الناتج بما يتجاوز القدر الذي يمكن تفسيره بزيادة في المدخلات مثل العمالة ورأس المال.

في السنوات الخمس عشرة التي سبقت جائحة كوفيد-19، كان النمو الإجمالي لإنتاجية العامل الكلي في الاقتصاد الأمريكي ثلث ما كان عليه في السنوات الخمس عشرة السابقة. ولا أظن أن هذا يتوافق مع دخول عصر الابتكار! ما يزيد الطين بلة أن قوة السوق المتصاعدة تشكل أيضا عاملا رئيسيا يساهم في اتساع فجوة التفاوت، كما أزعم في كتابي "الناس والسلطة والأرباح". ما يدعو إلى التفاؤل، أن هذا العصر الذي يتسم بالأخبار الكئيبة التي لا تنتهي، شهد تطورا إيجابيا على هذه الجبهة. إذ يبدو أن الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لدعم المنافسة وتعزيزها بدأت تؤتي ثمارها.

على سبيل المثال، بفعل الضغوط من جانب سلطات مكافحة الاحتكار الفيدرالية، ألغيت عملية اندماج بقيمة 20 مليار دولار بين أدوبي وفيجما ("تطبيق ويب تعاوني لتصميم واجهات التطبيق"). علاوة على ذلك، وافقت شركة التكنولوجيا الحيوية إلومينا على التخارج من شركة GRAIL ، بعد أن زعمت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية أن هذا الاقتران "من شأنه أن يقلل من الإبداع في السوق الأمريكية في مجال اختبارات الكشف المبكر عن السرطان المتعدد (MCED) في حين يعمل على زيادة الأسعار ويقلل من إتاحة الاختبارات وجودتها" ــ وهو الرأي الذي أكدته محكمة الاستئناف بالدائرة الخامسة في الولايات المتحدة الشهر الماضي.

الأهم من ذلك هو أن لجنة التجارة الفيدرالية ووزارة العدل أصدرتا مبادئ توجيهية مُـحَـدَّثة للاندماج ترسم حدودا جديدة مهمة تظل راسخة في التقاليد القانونية لمكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تستشهد المبادئ التوجيهية بقانون كلايتون لعام 1914، والذي كان مُـصَـمما لوأد المواقف المانعة للمنافسة في مهدها من خلال حظر عمليات الاندماج والاستحواذ التي ربما يترتب عليها "تقليل المنافسة بدرجة كبيرة". و"ربما" هنا تشكل أهمية بالغة، لأن لا شيء يمكن التنبؤ به بأي قدر من اليقين المطلق. في عام 2012، كان بوسع المرء أن يُـجزِم تماما بأن استحواذ فيسبوك على إنستجرام من شأنه أن يقلل من المنافسة. لكن إدارة باراك أوباما لم تكن متيقظة لتكتل قوى السوق مثل إدارة بايدن.

كما تركز المبادئ التوجيهية الجديدة بشكل أكبر على الترسيخ، وهي فكرة مفادها أن عمليات الاستحواذ والاندماج قد تؤدي إلى تعميق وتوسيع وإطالة أمد قوة الشركة في السوق. ويعني هذا التغيير ضمنا أن المنافسة سوف يُنظَر إليها باعتبارها ظاهرة ديناميكية، كما ينبغي لها أن تكون. من الأهمية بمكان أن ندرك أن عمليات الاندماج الأفقية (بين الشركات التي تعمل في ذات مجال العمل) لن تكون وحدها الخاضعة لمزيد من التدقيق، بل وأيضا عمليات الاندماج الرأسية (حيث تستحوذ شركة ما على مُـوَرِّد أو عميل مهم).

كنا نعلم منذ أمد بعيد أنه في ظل ظروف المنافسة المحدودة (وهذا هو الواقع في عدد كبير من القطاعات في كثير من البلدان)، من الممكن أن تخلف مثل عمليات الاندماج هذه تأثيرات سلبية قوية. ومع ذلك زعم "خبراء الاقتصاد المنتمين إلى مدرسة شيكاغو"، في إصرارهم على أن الأسواق تنافسية بطبيعتها، أن سلطات مكافحة الاحتكار لابد أن تركز فقط على عمليات الاندماج والاستحواذ الأفقية، وقد وافقت المحاكم في عموم الأمر على ذلك. الواقع أن القرار الصادر في ما يتصل بقضية إلومينا/ GRAIL يشير إلى أن القضاة بدأوا يدركون المخاطر التي تفرضها عمليات الاندماج الرأسي. لذات السبب، ستساعد المبادئ التوجيهية الجديدة سلطات مكافحة الاحتكار في التعامل مع المنصات الكبرى حيث يقع قسم كبير من السلوكيات المناهضة للمنافسة اليوم ــ من بطاقات الائتمان، وحجز شركات الطيران، وتذاكر المسرح إلى تقاسم الرحلات. (من منطلق المصارحة التامة: كنت شاهدا خبيرا في بعض هذه الحالات).

لقد أصبحت العائدات المرتفعة المستمرة التي تعود على المنصات المهيمنة فاحشة. ومن الأهمية بمكان أن نعمل على وأد نمو هيمنة السوق هنا في مهدها؛ وقد يكون النهج الديناميكي للمبادئ التوجيهية الجديدة فعالا بشكل خاص. نحن جميعا نعاني من قوة السوق، لأنها تشوه الأسواق على النحو الذي يؤدي إلى خفض الإنتاجية الإجمالية في حين يسمح للشركات برفع الأسعار، وبالتالي خفض مستويات المعيشة. في الوقت ذاته، تسبب الجمع بين قوة السوق المتنامية وضعف قوة العمال في الإبقاء على الأجور منخفضة، الأمر الذي أدى إلى تآكل مستويات المعيشة بدرجة أكبر. كان سميث على حق: فالمعركة ضد قوة السوق لا تنتهي أبدا. لكن إدارة بايدن على الأقل سجلت نقطة لصاح الأميركيين العاديين. وإنه لإنجاز مبهر آخر في بيئة سياسية معادية إلى حد غير عادي.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق