q
دائما تكون الكلفة الكلية للمشاريع المقترحة جديدا والمدرجة سابقا في العراق أكثر من مجموع التخصيصات الممكنة للاستثمار من الموازنة العامة لمدة طويلة قادمة، وفي النهاية، بعد معمعة من الأخذ والرد، تلتزم الحكومة بمشاريع تزيد كلفتها الكلية عن تخصيصات خمس سنوات. وهو خطا واضح يعنى ضخامة الإنفاق دون إنجاز...

في نظام محاسبة الاقتصاد الكلي يُعرّف رأس المال بالأصول الثابتة القابلة لإعادة الإنتاج مضافا إليها المخزون السلعي. أما تكوين رأس المال Capital formation فهو تغير رأس المال يسمى الإجمالي قبل طرح الاندثار والصافي خاليا من قيمة الاندثار. والاستثمار تسمية ثانية لتكوين رأس المال في المنظور الاقتصادي الكلي.

عند إستبعاد المخزون السلعي تضاف صفة ثابت إلى رأس المال Fixed Capital وللتغير تكوين رأس المال الثابت، ولكليهما إجمالي وصافي مع الاندثار وبدونه على التوالي. الاستثمار العام هو تكوين رأس المال في القطاع العام الذي يشمل الحكومة العامة والوحدات التابعة لها، والحكومة العامة تسمية جامعة لحكومة المركز وحكومات الأقاليم وما دونها. الوحدات التابعة للحكومة العامة مثل الشركات وما إليها المستقلة عن موازنة المركز او موازنات الحكومات دون المركز.

ينظر إلى الاقتصاد الوطني بجميع أنشطته ومؤسساته في فضائين: القطاع الخاص، الأسر ووحدات الأعمال المالية وغير المالية ومنظمات المجتمع المدني وما في حكمها، والفضاء الثاني هو القطاع العام. فالاقتصاد مستغرق بأجمعه في المصنفين خاص وعام ولا ثالث بينهما.

وللتبسيط، غير المخل، ينظر إلى الاستثمار العام، دون التغير في المخزون السلعي، بأنه الحيازة الصافية للأصول الثابتة خلال الفترة المحاسبية. وتشمل الحيازة الجديدة التحسينات على الأصول غير القابلة لإعادة الانتاج مثل الأرض. أي تكاليف التحسينات التي تضيف إلى الثروة الوطنية داخلة ضمن تعريف الاستثمار العام. وفق أحدث التعديلات لنظام محاسبة الاقتصاد الكلي، الحسابات القومية، أصبحت الأصول الثابتة غير الملموسة مشمولة مثل نفقات البحث والتطوير والبرامجيات، والتي تتزايد أهميتها في الدول المتقدمة وأظهرت البيانات الأمريكية هذا التحول بارزا، (الباحث، ملامح نمو الاقتصاد في العالم، شبكة الاقتصاديين العراقيين).

يُشمل في إدارة الاستثمار العام كل الإنفاق الرأسمالي في القطاع العام، من جميع مصادر التمويل وهو الرأي الراجح في الاتحاد الأوربي، وبذا يتضمن الأنفاق من موازنات جميع مستويات الحكم والتمويل من خارج الموازنات Extra-Budgetary Funds، والمنشآت المملوكة للدولة كافة، والأموال التي تأتي في سياق ما يسمى الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص PPP. في العراق لا تتجاوز سلطة وزارة التخطيط او وزارة المالية تخصيصات الموازنة المركزية، وهي ليست فعالة حتى على هذا النطاق، وإلاّ كيف تُفهم قصة مشاريع الاستثمار في العراق، كما أن مسؤولية وزارة التخطيط عن إدارة الاستثمار العام مغيبة عن وعي المجتمع.

الاستثمار العام لدى اغلب الدول محور الاهتمام لخطط التنمية الاقتصادية وأطر المالية العامة متوسطة الأمد، وفي العراق توجد خطط اقتصاد كلي، واطر مالية تسمى استراتيجيات، لكنها تفتقر إلى الصلة الواضحة، فنيا، بالمناهج السنوية للاستثمار الحكومي ناهيك عن برامج استثمارية لأمد أبعد. وعدا ذلك لم يكن لتلك الخطط والأطر دور عملي لتقييد الهدر ورفع الكفاءة والإنجاز. ولم يظهر من المعنيين، دون إستثناء، إستعداد بَيّن لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن الإخفاق في المشاريع العامة. عدم الإكتراث والإعتباط في حساب التكاليف والتسعير لا يُعْقل؛ أما مبادئ الكلفة – الفاعلية، والكلفة المنفعة فلا أثر لها في القرار الفعلي.

المرحلة الأولية لإعداد المشاريع غاية في الأهمية تتحول الفكرة إلى مادة، وثيقة معلومات، كافية للتحليل والتقييم لاحقا، في هذه المرحلة، التي تسمى ما قبل التقييم، يجري التثبت من واقعية المشروع والحاجة إليه في الميدان بمعرفة الناس هناك، بحيث لا تدرج مشاريع، على الورق، بتكاليف كلية وتخصيصات ثم ينتهي الأمر إلى مفاجآت عجيبة. التقييم يؤدي إلى إختيار الفرصة الأفضل لتوظيف الأموال العامة، المشاريع ليست مثل مواد البطاقة التموينية او رواتب وأعطيات توزع حصصا متكافئة لتعظيم الرضا السياسي.

ومن الإجراءات التي تعارفت عليها الممارسات الأفضل، خاصة بريطانيا: التأكد من مبررات المشروع بمدى الحاجة، والنظر إليه بين البدائل الممكنة إن وجدت، وتدقيق أهميته الاستراتيجية، المقصود فاعليته بقوة إرتباطاته ووجود أنشطة اخرى ضرورية مؤجلة تنتظر إنجازه. تقدير المخاطر والقيود، وتقييم المشروع بمضمونه الفني وتصميم هندسي اولي يساعد على تحليل الكلفة – المنفعة، المالية والاقتصادية. في دول مثل المانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا التقييم مطلوب لجميع المشاريع دون إستثناء، بينما في هنغاريا وإيرلندا التقييم واجب عندما تتعدى كلفة المشروع عتبة معينة. تحليل الكلفة – المنفعة Cost- Benefit Analysis هو الأكثر شيوعا.

مع ذلك يلاحظ الميل نحو تقليل التكاليف والمبالغة في العوائد لدى دوائر التخطيط، ولذلك من الضروري إلتزام قواعد حساب صارمة. وترد في ادبيات الاستثمار العام التوصية بأهمية المراجعة المحايدة للمقترحات، كما في فرنسا وبريطانيا وكوريا الجنوبية ودول أخرى والتي قد تترجم عمليا إلى الإستعانة بمكاتب إستشارية، وفي اوضاع العراق من الصعب ضمان الحياد الذي يتطلب رسوخه اولا في الثقافة الاجتماعية كي يسري إلى تقاليد العمل.

إختيار المشاريع بعد التقييم لا يعنى عدم خضوعها إلى مفاضلة لاحقة خلال إعداد الموازنات تبعا لقيود الموارد المتاحة. ومن التجارب التي وثقتها دراسات مسحية يوجد، على الأغلب، نزاع بين التفضيلات السياسية والإعتبارات الاقتصادية والمالية، وكلما امكن تعزيز مهنية وحيادية وزارة المالية والجهة الحكومية المسؤولة عن الاستثمار العام تتضاءل السلبيات المحتملة من الضغوط السياسية. أما إذا كان الخلل في الأجهزة المؤتمنة على تمويل وإدارة الاستثمار العام فتزداد صعوبات معالجته في دوائر السلطات التي هي سياسية بالتعريف، ومع ذلك تبقى المسؤولية الأكبر على عاتقها أن تضمن نزاهة وحياد أجهزة المالية والتخطيط، اي أن الإصلاح وتحسين الأداء يقتضي بذل الجهود في كافة المستويات وبوسائل مختلفة.

دائما تكون الكلفة الكلية للمشاريع المقترحة جديدا والمدرجة سابقا في العراق أكثر من مجموع التخصيصات الممكنة للاستثمار من الموازنة العامة لمدة طويلة قادمة، وفي النهاية، بعد معمعة من الأخذ والرد، تلتزم الحكومة بمشاريع تزيد كلفتها الكلية عن تخصيصات خمس سنوات. وهو خطا واضح يعنى ضخامة الإنفاق دون إنجاز، إذ تنتشر القدرات الإدارية والأموال المتاحة على قائمة طويلة من المشاريع المتعثرة والمؤجلة. تسمى مدة التنفيذ في إدارة المشاريع فترة تجميد النفقة الاستثمارية، من لحظة الأنفاق الأول لحين التشغيل الاعتيادي لا ينتفع المجتمع من هذه الأموال المجمدة. ولم تنجح وزارة التخطيط منذ السبعينات وإلى هذه السنوات في ضبط الإلتزام والأدراج في نطاق القدر المتيقن على الإنجاز بحيث لا تتعدى مدة التنفيذ بالمتوسط ثلاث سنوات، او نحو ذلك، بينما في عام 2013 عنما وصلت الكلفة الكلية للمشاريع الملتزم بها ذروتها تجاوزت نسبة الكلفة الكلية إلى متوسط التخصيصات السنوية المحتملة ست سنوات.

إضافة على التخطيط والبرمجة ثمة قواعد إرشادية لإدارة الاستثمار العام، ومنها ما أقرته في آذار 2014 منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD "الاستثمار العام الفعال عبر مستويات الحكم: مبادئ للعمل". تهتم المبادئ بالتنسيق بين المركز والحكومات دون الوطنية Sub- National أي الولايات والمحافظات وما إليها؛ وإنسجام الاستثمار العام مع الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاقتصادية. نعرضها بالمختصر:

- ربط الاستثمار العام باحتياجات النطاق المكاني والمستوى المحلي، وإستنادا إلى تقييم الفرص المعروفة للنمو الاقتصادي والعوائق. وأن تتوخى خطة الاستثمار العام نتائج تتصل بالأهداف الواضحة للسياسات. وتختلف تشكيلة الاستثمارات الملائمة من مكان لآخر. وبذا يتطلب الأمر معالجة بيانات كافية للكشف عن النمط المحتمل للتفاعل والاستجابة للاستثمار. وأرى ان هذا المبدأ يتماشى مع فكرة التقييم بإسلوب مع وبدون With and With Out. في هذا النطاق المكاني، قضاء مثلا، كيف نتصور مسار التطور حتى نهاية العمر الإنتاجي للبرنامج الاستثماري المقترح في المجرى الإعتيادي مقارنة بالمسار البديل بعد البرنامج الاستثماري ثم تقيم حصيلة الفروقات في ضوء التكاليف.

- التوصل إلى ادوات تنسيق فعالة بين المستوى المركزي والمستويات الأخرى، ويقتضي هذا التنسيق التوافق على أولويات مشتركة، وتحاشي التقاطع. أفهم أن هذا المبدأ في العراق يتضمن وعي المركز للنطاق الجغرافي الصغير، وفي نفس الوقت حضور فعال للأفق الوطني على المستوى المحلي. لقد ساعدت التطورات التقنية في الاتصالات وتقنيات المعلومات على تسهيل هذا التنسيق والتكامل، لكن يتوقف تحسين الأداء في هذا المجال على ثقافة العمل.

- التنسيق الأفقي بين المناطق، وداخل المنطقة الواحدة. في العراق مثلا بين المحافظات وفيما بين أقضية المحافظة الواحدة لتحاشي التكرار والتنافس المحبط، والإنتفاع المتبادل من التسهيلات والخدمات، في التعليم والصحة والخبرات النادرة. وإدارة إنتشار الآثار الإيجابية والسلبية للاستثمار في المناطق المتجاورة، وهنا تتأكد أهمية حضور المركز لحياده وتركيزه على النتائج الكلية.

- التقييم المسبق لما يترتب على الاستثمار العام من نتائج واخطار بعيدة الأمد، ويبدو هذا المبدأ فائضا لأنه متضمن في تحليل وتقييم المشاريع الذي لا بد منه قبل قرار الاستثمار.

- التواصل الفعال مع جميع الأطراف ذات العلاقة بمشاريع الاستثمار العام والمشاركين لاحقا بالأنشطة التي تقيمها المشاريع، والمنتفعين من خدماتها. بهدف تعزيز الثقة بالقرار الحكومي وشحذ الهمم، ويمكن إضافة ان التواصل من هذا الطراز يشجع على الرقابة الجماهيرية الفعالة.

- تحريك وتعبئة الفاعلين في القطاع الخاص والمصارف وسواها لتنويع مصادر التمويل. يساعد هذا المبدأ على النهوض بالاستثمار الخاص بالتزامن والتتابع مع الاستثمار العام إذا أُحسِنَ التدبير.

- تعزيز خبرات الموظفين العموميين والدوائر المنخرطة بالاستثمار العام، ومنها خاصة على المستوى المحلي.

- تعزيز النتائج والتعلم من خبرات مختلف المستويات الحكومية، وهذا المبدأ متضمن بما ورد آنفا.

- تطوير إطار مالي Fiscal framework مُكيّف لاحتياجات الاستثمار العام، والمقصود الإطار متوسط الأمد وهو شائع في مناهج المالية العامة للمدة الأخيرة.

- إدارة مالية رصينة على كافة المستويات الحكومية، مبدأ عام مطلوب دائما.

- الحث على الشفافية والدقة في التجهيزات والمقاولات. وهذه تشكل نسبة مهمة من مجموع الأنفاق الحكومي، والناتج المحلي، وترى حكومات تلك الدول أن التعاقد والتقاول من المهن عالية الدقة ومتخصصة، واكثر خروقات الفساد المالي في هذه العمليات.

- بذل الجهود للإرتقاء بنوعية الضوابط التنظيمية Regulations وإتساقها.

الاستثمار العام وتقلب المورد النفطي

يشمل مفهوم الناتج المحلي الإجمالي القيمة المضافة في قطاع الاستخراج وهي عوائد العمل ورأس المال المستثمر في القطاع والريع، وهو الفرق بين سعر السوق والكلفة، ويمثل الريع القيمة الجارية للثروة المستنزفة. وعند قياس التنمية الاقتصادية بنمو مجموع قيمة الثروة الوطنية، فهذه لا تتزايد إلاّ عند تجاوز الاستثمار، أي تكوين راس المال السنوي، قيمة الثروة المستنزفة متمثلة بالريع النفطي. ويتطلب الاقتراب من هذا المعيار الاّ يتعدى الإنفاق الجاري من المورد النفطي تكوين راس المال في القطاع الخاص، وهو بعيد المنال، والعراق يبتعد أكثر فأكثر من هذا المعيار. الاستثمار الخاص محدود، والاستثمار العام تُضيّق النفقات الجارية عليه الخناق.

والمشكلة عدم التمكن من تنظيم الإنفاق العام على نحو مستقر والذي يتطلب إنتزاع فائض من المورد النفطي خلال مدة إرتفاع سعر النفط لتمويل العجز عند الانخفاض، إضافة على صلابة النفقات الجارية بحيث يتعذر خفضها مع تدني الإيرادات. ونتيجة لذلك تتقلص التخصيصات المالية للاستثمار العام مع تدني أسعار النفط وتنخفض معدلات إنجاز المشاريع ويتزايد عدد المؤجل استكمالها. هذه المشكلة تستدعي حلا جذريا ولا شك في الصعوبات السياسية، لكن مستقبل الاقتصاد العراقي يكتنفه الغموض وتزداد المخاطر إن لم نتمكن من إدامة زخم مرتفع في الاستثمار العام. يقتصر الأخير، في السنين الأخيرة، على النفط والغاز وقليل من الصناعة التحويلية النفطية، والباقي للبنى التحتية.

أما الاستثمار العام للتصنيع فقد أسدل الستار عنه وهي سياسة خاطئة في العراق ومتجاهلة لشروط التطور ومقتضيات اللحاق، وما لم تتبنى حكومات العراق، صراحة، التصنيع بالاستثمار العام فقد ألحقت ضررا عميقا بمستقبل العراق. لقد تأثرت الأوساط السياسة، إضافة على عدم الإكتراث، بالسطحي التعبوي من أطروحات الليبرالية الجديدة، في حين لا تعرف الثقافة العراقية التعصب الأيديولوجي في الاقتصاد، أينما تكون المصلحة العامة هناك الصحيح والحق. أو كما يُنقل عن الرئيس الصيني بداية التحول "قط أبيض، قط أسود، بماذا يهمنا لون القط طالما يصطاد الفار". فما معنى هذا التعطيل المعيب للفاعلية الإنتاجية في القطاع العام. وبماذا يفسر تجنب التصنيع في اللغة الرسمية، اليس التصنيع Industrialisation هو الذي أنتج حضارة هذا الزمن.

الفضاء المالي للاستثمار العام يتقلص والتكاليف عالية ولذا تكون معدلات توسع رأس المال واطئة وكذلك نمو الطاقة الإنتاجية الكلية للعراق. الإنحسار الإنتاجي واضح والذي يُعرّف بتراجع الأهمية النسبية للإنتاج السلعي من غير النفط الخام. الأخير لا يستوعب القوى العاملة، والزراعة فضلا عن شح المياه وضآلة الاستثمار في شبكات الأرواء وتنظيم المياه والمبازل تعجز حتى عن استيعاب القوى العاملة من سكان الريف، حيث تتناقص حصة الزراعة من دخل الأسرة فيه. كما أن النمط العام للتطور يتضمن تناقصا متسارعا في نسبة القوى العاملة الزراعية، في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اصبحت 1% أو دون ذلك، وفي عموم الدول المتقدمة لا تزيد عن 4%. والعراق ليس إستثناءا من الدول متوسطة الدخل حيث ينخفض استيعاب الزراعة للقوى العاملة. فأين تستوعب القوى العاملة في العراق مع نمو سكاني مرتفع، إذا بقيت السياسة الاقتصادية في بلادنا تتجنب التصنيع.

ربما تقول في الخدمات والأنشطة الفردية والصغيرة، هذه وصلت حدودها القصوى في الاستيعاب، والتصنيع الجسور والناجح هو الذي يرفع، مجددا، قدرتها على الاستيعاب، عندما يصحح هذا التشوه العميق في بنية الإنتاج. إذا أصرت دوائر القرار على هذا الطراز من الاستثمار تتفاقم مشكلة البطالة الصريحة والمُقنّعة في العراق وتهدد إستقرار المجتمع. وليس أمامنا سوى التحرك السريع للنهوض بالاستثمار في قطاعات الإنتاج السلعي من غير النفط الخام. ولخفض تكاليف الاستثمار العام في البنى التحتية، على الأقل، نستطيع تكوين قدرات من القطاع العام لمباشرة البناء والتشييد على نطاق واسع، وهذا لا يتطلب سوى القليل من الاستثمارات. وإلى جانب ذلك نحتاج إلى توافق سياسي لتثبيت سقف الإنفاق الجاري، لتمويل مزيد من الاستثمار العام.

السيطرة على كلفة المشروع مفتاح تصحيح الخلل

بينت التجربة بما لا يدع مجالا للشك ان المبالغة في تكلفة المشروع واسعة، كما ان المواصفات الفعلية على الأرض متدنية، ومتوسط مدة تنفيذ المشروع طويلة. ولأن هذه صارت نمطا شائعا، لا بد أن يستنتج غياب مقومات النزاهة والكفاءة في الدوائر التي تتولى مسؤولية الاستثمار العام في الوزارات القطاعية، وما في حكمها، والمحافظات. إذ لا يعقل أنها قد احكمت التصاميم والمواصفات وتقدير التكاليف بالمعدلات المعيارية ثم تولت تنفيذها بعد إقرارها على الوجه السليم، لكن وزارة التخطيط شوهتها وأضافت عليها وزارة المالية سوءا. ولذلك لا بد من التوقف ومحاولة إكتشاف حل جذري لهذه المشكلة دون الإصرار على تكرار الفشل بهدر المال العام دون جدوى واضحة في الإنجاز.

نقطة البدء والخطوة الأولى على الطريق الصحيح في الإجابة على السؤال: كيف نضمن أعلى نوعية ممكنة للمشروع بهذا الكم من الموارد، او كيف نجعل الكلفة أدنى ما يمكن لهذا المشروع المعرف فنيا على نحو دقيق. ولهذا الغرض نفصل المشاريع المتماثلة المتكررة عن الأخرى المفردة. الصنف الأول من المشاريع مثل: المدارس، المراكز الصحية، أبنية دوائر حكومية من نفس النوع، تعبيد الطرق، الجسور... وهكذا. لهذه ينبغي إصدار قرار ملزم بتصاميم ومواصفات وتكاليف موحدة، وتعدها جهة مستقلة، وتراجع من جهة أخرى، وبإشراف وزارة التخطيط، وتحملها المسؤولية، وتدقيق مجلس الوزراء ورقابة مجلس النواب. وتحال إلى شركات تنفيذ بتكاليفها زائدا هامش يخضع لمناقصة علنية. فروقات التكاليف بسبب إختلاف المناطق تضاف على الهامش الذي يخضع للمناقصة. أما المشاريع المفردة الفريدة مثل مشروع بتروكيمياويات او حديد تسليح او سكة حديد... وسواها يبق الحساب الدقيق للتكاليف معتمدا على مدى النزاهة في إختيار الشركة الاستشارية التي تعد المشروع، وامانة الجهة التي تستطيع تدقيق عملها بعد التعاقد، ولذلك لا يستبعد الخطر على المال العام في هذه المشاريع.

وزارة التخطيط لا تستطيع التأكد من التكاليف اعتمادا على كوادرها لأنها محدودة في العدد وتنوع وتكامل التخصصات وثقافة العمل. ومطلوب التفكير في إعداد مختصين، لكافة المهام الدقيقة للاستثمار العام، بالتدريب المكثف وبمساعدة جهات أجنبية خبيرة، هؤلاء لا يعملون على ملاك وزارة التخطيط بل في مختلف الدوائر والجامعات تستعين بهم وزارة التخطيط بإسلوب منظم رسميا.

مطلوب، ايضا، عدم التغاضي عن الخلل الفاضح في عمل وزارة المالية بعد إختزالها إلى دائرة للموازنة وليست وزارة للمالية العامة، التي هي مالية القطاع العام بالتعريف آنفا. وكذلك وزارة التخطيط ينحصر عملها، على ما هو عليه، بالمشاريع الممولة من الموازنة المركزية ولا يتسع للاستثمار العام بأكمله. جميع الهيئات المستقلة والدوائر غير المرتبطة بوزارة والشركات العامة والمصارف خارج عمل وزارتي المالية والتخطيط، وكذلك مستبعدة من إهتمامات اللجنة المالية في مجلس النواب ويوميات العمل في مجلس الوزراء. تلك مشكلة كبيرة، فحتى لو نجحت الحكومة في الحد من التجاوزات على المال العام في الموازنة ثمة مخاطر كبيرة في القطاع العام على سعته.

جرى طبخ الكثير من الحصى حول تطوير نظام معلومات إدارة المالية العامة، وإلى الان نعجز عن تحليل منهجي للإنفاق في القطاع العام، لنقص كبير في البيانات. لا توجد سجلات يسهل الرجوع إليها للأصول في القطاع العام، قيمتها، كيف تتطور، وتقدير إندثاراتها ومصاريف صيانتها. ومن الأفضل إعداد برامج إستثمار عام بعيدة الأمد على منهجيات راقية فنيا بتحليل إقتصادي استمثالي متقدم وهذه تسمى التخطيط والبرمجة والموازنة الرأسمالية Planning , Programming, and Capital Budgeting لأن العمل على هذه المنهجيات هو أفضل أساليب تدريب الكادر التخطيطي لإكتساب المهارات المنطقية المطلوبة لإدارة الاستثمار العام. حتى عندما يقال " هذه نظرية" فلا بأس لأن مهمة الاستثمار العام تحتاج إلى ملكات التفكير النظري. لكن الأولوية في المدة القريبة القادمة للكلفة ومن المجدي للمصلحة العامة تعبئة الجهود وتركيزها للسيطرة على التكاليف، ثم العمل على خفضها بالمبتكرات التقنية والتنظيمية، وهو معنى رفع الكفاءة في الاستثمار العام. يتكامل هذه الجهد مع مقترحات النهوض بالقدرات الوطنية للبناء والتشييد وإقامة الأصول الحقيقية على الأرض. ما لم نقتصد بالتكاليف نصطدم بسقف الموارد ويعاني العراق مشكلة دائمة في عدم كفاية البنى التحتية كما سيتضح.

فجوة البنى التحتية

البنى التحتية، في هذا السياق، إصول عينية تؤلف القسم الأكبر من رأس المال الوطني هي جميع التسهيلات التي تفترض الوحدات المنتجة للسلع والخدمات وجودها مسبقا من محطات توليد ونقل وتوزيع الكهرباء... إلى شبكات الإرواء قائمة طويلة أغلبها ابنية وإنشآت. البنى التحتية حاضنة ضرورية لمختلف ألوان النشاط الاقتصادي والاجتماع الإنساني، وليس من المبالغة انها ترسم الجغرافية البشرية والاقتصادية للفضاء الوطني، ومن أهم عوامل التركز الصناعي والسكاني الذي تكرّر في تجارب العديد من الدول. ويمكن للاستثمار العام أن يكون الأداة الفعالة لإجتذاب وتنشيط الاستثمار الخاص، في المكان الذي تختاره السياسة الاقتصادية، إذا ما نجح في تهيئة بنى تحتية متكاملة، (للباحث، التصنيع والتحولات الاقتصادية الكبرى، الفصل السادس التحضر والبنى التحتية والمناطق الصناعية).

توصف وفرة البنى التحتية بالازدهار العمراني، ولذلك تتفوق الدول ذات القدرات الفائقة في التشييد مثل الصين بتحقيق إنجازات كبيرة خلال مدة زمنية قصيرة. ويَرِد في الأدبيات تعبير البناء التحتي الاقتصادي Economic Infrastructure عند تناول المشاريع ذات الصلة الوثيقة بالنمو وتمكين المجتمع من الوظائف الإنتاجية مثل تسهيلات النقل، سكك وطرق وموانئ...؛ المنافع العامة، المياه وشبكات توزيع الغاز والكهرباء...؛ والسدود والخزانات ومنشآت تنظيم الري؛ والاتصالات...؛ وما إليها. أما إضافة الصفة الاستراتيجية فهذه لتأكيد أهمية استثنائية في وقت ما لمشروع يراد الترويج السياسي له، وأحيانا لوصف مهمات الأولوية الأولى.

فجوة البنى التحتية تعبير متداول لم يصل إلى مفهوم بتعريف مرجعي، الأوْلى أن تنصرف دلالته إلى التباين بين طاقة البنى التحتية المناسبة والواقع الفعلي لها. وتقاس المُناسِبَة بتوليفة من المتغيرات المحددة للطلب وهي: السكان، متوسط الناتج المحلي للفرد، ونسبة السكان الحضري من مجموع السكان، ونسبة الناتج المحلي للقطاعات السلعية، عدا المورد الريعي، من مجموع الناتج، ومؤشر عن الخصائص الجغرافية، معامل رفع أو خفض. وتقاس الفجوة على مستويين، الأول بمجموع قيمة الأصول التي تصنف بأنها بنى تحتية، والمستوى الثاني بوحدات عينية حسب أصناف البني التحتية: طرق، سكك، أبنية تعليم وصحة، أبنية خدمات أخرى، شبكات ري ومبازل، كهرباء،... وهكذا. الفجوة بهذا المضمون في مفهومها وتعريفها والقياس لم تتبلور بعد. و نشرت مؤسسات ذات صلة تقديرات عن الفجوة للعديد من الدول لكن المقصود بها الفرق بين الاستثمار السنوي المطلوب في البنى التحتية والمستوى الفعلي للاستثمار، أي الإضافة إلى رصيد الأصول القائمة بإصول جديدة او تحسينات للموجود منها.

يرتبط تفسير فجوة البنى التحتية، غالبا، بنقص الموارد المتاحة للتمويل ولذلك تبقى مقترحات سد الفجوة ضمن نطاق المصادر البديلة، دولية ومحلية، ومنها إبتكار أدوات دين جديدة ملائمة؛ ودعوة مصارف التنمية متعددة الأطراف لتقديم تمويل ميسر للدول النامية، والمساعدات من حكومات الدول المتقدمة؛ و التطلع إلى اموال صناديق الثروة السيادية للدول النفطية والصين وغيرها للاستثمار في تطوير البنى التحتية للدول التي تعاني عجزا بنيويا دائما في التمويل؛ والشراكة بين القطاع العام والخاص، محلي وأجنبي، والمقصود منها تحويل عبء التمويل على المنتفعين من خدمات البنى التحتية التي سيجهزها المستثمر الخاص بديلا عن الحكومة، او إستبدال تكاليف إنشاء اصول البنى التحتية بدفعات إيجار سنوية تدفعها الحكومات للقطاع الخاص الذي أقام تلك المنشآت؛ وصيغ عديدة من ترتيبات التمويل المختلط.

وتأثرت الكثير من الأوساط العراقية بهذه المقترحات التي انطلقت من محددات لفجوة البنى التحتية مغايرة تماما لما هي في العراق. ومن المتفق عليه بالمجمل أن فجوة البنى التحتية في العراق كبيرة بيد أن تفسيرها يختلف كثيرا عن الشائع في العالم. فهي لدينا تتلخص في: إهدار الموارد، وتدني الاستعداد الإنتاجي، والضعف البين في مهارات الإدارة والتنظيم، والفساد المالي، وتترجم هذه العوامل مجتمعة في عدم القدرة على الإنجاز، وتقتضي مقاربة أخرى، ولأنها فريدة، لا تساعد مصادر المعرفة والخبرة الدولية كثيرا في معالجتها. ولذا صار العراق بأمس الحاجة إلى أصالة وموضوعية في قراءة الوقائع وفهم التجربة المريرة، واستجابة نبيلة لمتطلبات النهوض.

الحاجة إلى الاستثمار في البنى التحتية كبيرة، عموما في الدول النامية، ونسبتها من مجموع الاستثمار ترتفع مع المعدلات العالية للنمو السكاني، كما في دول مثل العراق، وعند إضافة المقدار الضروري لتقليص الفجوة، تدريجيا، ربما لا تقل الموارد المطلوب تخصيصها سنويا، للبنى التحتية، ضمن الاستثمار العام عن 12% من الناتج المحلي الإجمالي بشرط النزاهة والكفاءة.

الاستثمار الكافي في البنى التحتية من اهم الضوابط التي تلتزمها الأطر المالية الوطنية متوسطة الأمد بتنسيق الإيرادات والإنفاق التشغيلي لضمان المساحة الكافية للاستثمار في البنى التحتية. ومهما بلغت الإيرادات تبقى الحكومة بحاجة إلى إرادة قوية ودعم سياسي لإدامة المستوى المطلوب للإنفاق الاستثماري بالحد من بقية الإنفاق، وقد تلجا إلى الاقتراض لسنة أو سنتين لمجاراة الضغوط السياسية، وفي النهاية لا مفر من كبح الإنفاق الجاري. وتقدر بعض الدراسات أن ثلث النفقات الاستثمارية العامة تبدد بعدم الكفاءة، ولذا يكافئ رفع الكفاءة زيادة الإيرادات أو خفض النفقات الجارية. وفي العراق أصبحت إدارة الاستثمار العام كأنها آلية لتبديد الموارد وما لم تعالج هذه المشكلة جذريا لا تنفع زيادة الموارد أو تخصيص قسم أكبر منها للاستثمار. السيطرة على التكاليف عند مستوياتها المعيارية هو الوجه الآخر للكفاءة وهو مستبعد دون التحرر من الفساد المالي.

في العراق ينظر إلى الاستثمار في البنى التحتية من جانب الطلب والإنفاق مع إهمال للجانب الآخر، الإنتاج والعرض. مهما انْفَقْت لا تستطيع شراء أكثر من الكمية المتاحة في السوق بنوعيتها لحظة الإنفاق، هذه الحقيقية البسيطة لم تكن حاضرة في وعي دوائر القرار منذ الفورة النفطية الأولى في السبعينات وإلى يومنا. فلم يشهد العراق جهدا منظما ملموسا من الوزارات المعنية لتطوير قطاع البناء والتشييد وشركات المقاولات. رغم أن أقصى إنتفاع من مورد النفط يعتمد على القدرات الوطنية في تكوين الأصول العينية على الأرض وليس السباق على الإنفاق. بماذا يُفسّر إهمال بناء القدرات في التصميم الهندسي، عموما، والتخطيط الحضري والعمراني. ولم تستجب السلطات المختصة لمقترحات تحديث التصاميم الأساسية للمدن Master Plans لمواكبة التوسعات وإستباقها، وتغيير خرائط استخدامات الأرض Land Use، وفرز النطاقات الكافية للصناعة والخزن والتجهيز الرئيسي للتجارة. وأوكلت مهمات إعداد المشاريع وإدارتها إلى الدوائر التي تنتفع من خدماتها، وهي ليست مختصة، وتفتقر إلى الأدوات الفنية في بلورة المشاريع وتصاميمها والمواصفات. وغابت الكلف المعيارية فأخذت المبالغات في التكاليف، نتيجة الاعتباط في التسعير، مدياتها التدميرية. وتكررت مناداة الجهات المعنية إلى تغيير هذا الأسلوب في الاستثمار العام، لأن فشله واضح، وأن تُستحدَث دوائر متخصصة في إعداد وإدارة المشاريع مستقلة عن الوزارات والمحافظات المنتفعة.

وإلى جانبها تشكل من الموارد البشرية للقطاع العام، على سعته وخبراته والوحدات الهندسية فيه، شركات متخصصة كبيرة متكاملة القدرات في: تشييد الطرق والجسور والمجسرات والأنفاق؛ وأخرى للصرف الصحي؛ وثالثة لأبنية التعليم والصحة؛ ورابعة لشبكات الإرواء والمبازل. وان تعمل هذه الشركات بصفة مستمرة وتتحمل الموازنة العامة تكاليفها. وفي القطاع الخاص يجري تجميع وتنسيق وتطوير القدرات وربما بالانفتاح على الخبرات الأجنبية لتكوين عدد من الشركات الكبيرة تعمل على أساس (الكلفة زائد). وذلك بعد الانتهاء من تطوير الدوائر المختصة الكفوءة والنزيهة في إعداد وإدارة المشاريع.

وكذلك، إستحداث وحدات الرقابة الهندسية Engineering Auditing التي تدقق التصاميم والمواصفات المنفذة فعلا على الأرض، وهذه الوحدات مدعومة بمحاسبة تكاليف للمشاريع، وخبراء في إدارتها، وفي الجوانب القانونية للتعاقد. الاستثمار العام الذي ينتظره العراق للنهوض في البنى التحتية تُرِك للتخلف والعبث. استكمال وتجديد وتطوير البنى التحتية عملية مستمرة وهي صناعة تستفيد من التطورات التقنية في مجالات عدة، إضافة على بحث وتطوير R&D خاص بهذه الأنشطة في الدول المتقدمة ودول ناهضة ناجحة في اللحاق التنموي. ومن الضروري للعراق، أيضا، الوصول للإكتفاء خلال مدة قصيرة في كافة منتجات الصناعات المغذية للبناء والتشييد بما فيها حديد التسليح، والمواد البديلة.

مواجهة هذه المشكلات بشجاعة هو المنتظر لتعويض الزمن الضائع، ولا بد من قطيعة مع ذهنية الشراء والإنفاق، والتنمية بالوكالة، إلى امتلاك القدرات المتكاملة والمتنامية وتحري أفضل مناهج توظيفها لإنجاز نهضة شاملة.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2022
www.fcdrs.com

اضف تعليق