يجب أن تتخلى الحكومات عن تدابير التقشف التي تفيد قلة على حساب الكثيرين. وفقط من خلال استكشاف نُهج بديلة، يمكننا دعم الناس والعودة إلى المسار الصحيح نحو تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. إن العالم لا يزال يعاني من جائحة، لذا فهو في غنى عن جائحة أخرى...
بقلم: إيزابيل أورتيز، ماثيو كامينز
نيويورك- يواجه العالم أزمات متعددة ومتفاقمة، بما في ذلك فيروس كورونا المستجد، وأزمة الطاقة، والتضخم، والديون، وصدمات المناخ، وتكاليف المعيشة التي لم تعد في المتناول، وعدم الاستقرار السياسي. لذا، فهناك حاجة ملحة جدا إلى اتخاذ إجراءات طموحة. ومع ذلك، فإن الرجوع إلى السياسات الفاشلة مثل التقشف، التي تسمى الآن "التحفظ المالي"، أو "تصحيح أوضاع المالية العامة"، والافتقار إلى مبادرات فعالة للضرائب وخفض الديون، تهدد بتفاقم عدم استقرار الاقتصاد الكلي، والمصاعب اليومية التي يعاني منها المليارات من الناس. وما لم يغير صانعو السياسة سياساتهم، فإن "جائحة التقشف" ستجعل استرداد الانتعاش الاقتصادي العالمي أصعب منالاً.
وكما أظهرنا في تقرير حديث، فإن موجة التقشف التي تلوح في الأفق ستكون سابقة لأوانها وقاسية بقدر أكبر مقارنة مع تلك التي أعقبت الأزمة المالية العالمية لعام 2008. ويشير تحليل توقعات نفقات صندوق النقد الدولي إلى أن 143 حكومة ستخفض الإنفاق (كحصة من الناتج المحلي الإجمالي) في عام 2023، مما سيؤثر على أكثر من 6.7 مليار شخص- أو 85 في المائة من سكان العالم. والواقع أن معظم الحكومات بدأت تخفض من الإنفاق العام في عام 2021، ومن المتوقع أن يرتفع عدد البلدان التي خفضت ميزانياتها حتى عام 2025. ولأن متوسط خفض الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي بلغ نسبة 3.5 في المائة في عام 2021، كان هذا الانكماش أكبر بكثير مما كان عليه في الصدمات السابقة.
وأكثر ما يثير القلق هو أن أكثر من 50 دولة تعتمد تخفيضات مفرطة، مما يعني أن إنفاقها قد تراجع إلى ما دون مستويات ما قبل الوباء (التي كانت منخفضة بالفعل). وتشمل هذه المجموعة العديد من البلدان، بما فيها غينيا الاستوائية، وإسواتيني، وغيانا، وليبيريا وليبيا، والسودان، وسورينام، واليمن، كما أن احتياجات تنموية كبيرة لم تلب.
إن تدابير التقشف التي تدرسها الحكومات أو تنفذها بالفعل ستلحق ضررا كبيرا بسكانها، وخاصة بالنساء. إذ تخطط الحكومات للحد من الحماية الاجتماعية المخصصة للفئات المستضعفة من السكان؛ وإيقاف برامج رعاية الأسر وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة؛ وخفض سقف أجور القطاع العام (مما يعني تقليص عدد العاملين في الخطوط الأمامية مثل المعلمين والعاملين في مجال الصحة)؛ وإلغاء الإعانات؛ وخصخصة خدمات النقل، والطاقة، والمياه؛ وخفض استحقاقات التقاعد؛ والحد من تدابير حماية العمال ومن مساهمات الضمان الاجتماعي لأصحاب العمل؛ والتقليص من النفقات الصحية.
ومع موازاة ذلك، تعتمد العديد من الحكومات استراتيجيات قصيرة الأجل لتوليد الدخل سيكون لها أيضًا آثار اجتماعية ضارة. وتشمل هذه الاستراتيجيات زيادة ضرائب الاستهلاك- مثل المبيعات التنازلية وضرائب القيمة المضافة- وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وزيادة رسوم الخدمات العامة.
وفي شرق وجنوب إفريقيا، خلُصت اليونيسف إلى أن إيسواتيني (سوازيلاند سابقًا)، وكينيا، ومدغشقر، ورواندا، وجنوب إفريقيا تدرس أو تنفذ ثلاث فئات من تدابير التقشف، بينما تتبع ليسوتو أربع فئات، وتعتمد بوتسوانا خمس فئات. وتطبق كل من بوتسوانا، وكينيا، ومدغشقر، ورواندا، وأوغندا، وزامبيا، أربع فئات أو أكثر من التدابير لزيادة الإيرادات. وبالإضافة إلى تدابير خفض الإنفاق والزيادات الضريبية، فإن كل من بوتسوانا وكينيا ومدغشقر ورواندا وزامبيا تدرس ما لا يقل عن سبع فئات من تدابير التقشف التي يُعرف أنها تخلف آثارًا اجتماعية سلبية.
إن هذه الحكومات لا تكتفي باتخاذ إجراءات تقشف قاسية في وقت تواجه فيه المنطقة موجات جفاف غير مسبوقة وأزمة تكاليف المعيشة، بل لا ترغب أيضا في اعتماد السياسات اللازمة للحد من مستويات عدم المساواة المرتفعة بالفعل، مثل فرض معدلات ضرائب أعلى على الشركات والأثرياء.
وما لم يتم الحد من التقشف، سيفقد الناس في البلدان النامية الحماية الاجتماعية، والخدمات العامة في وقت هم في أمس الحاجة إليها. ووفقًا لمنظمة "أوكسفام"، يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم على أقل من 5.50 دولارات يوميًا. وحتى لا ننسى، خُصصت تريليونات الدولارات منذ بداية الوباء لدعم الشركات، بينما تحمل الناس العاديون الكثير من تكاليف التأقلم مع الوباء.
لقد ظهرت مخاطر نهج التقشف الشديد في صورة واضحة خلال العقد الماضي. إذ من عام 2010 إلى عام 2019، انقلبت حياة مليارات الأشخاص رأساً على عقب بسبب خفض المعاشات التقاعدية، والمزايا الاجتماعية؛ وانخفاض الاستثمارات في برامج النساء والأطفال وكبار السن؛ وتقليص عدد المعلمين وخفض أجورهم، وتراجع الخدمات الصحية، وانخفاض في عدد موظفي الخدمة المدنية المحلية؛ وارتفاع الأسعار بسبب ضرائب الاستهلاك الأساسية.
ولا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو. إذ هناك بدائل لسياسة التقشف. فحتى في أشد البلدان فقرا، هناك ما لا يقل عن تسعة خيارات تمويل أخرى تستخدمها بعض الحكومات منذ سنوات، وهي تحظى بتأييد كامل من الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية؛ وتشمل الضرائب التصاعدية؛ وإلغاء الديون أو إعادة هيكلتها؛ وتضييق الخناق على التدفقات المالية غير المشروعة؛ وزيادة مساهمات أرباب العمل في الضمان الاجتماعي وتغطيتهم من خلال إضفاء الطابع الرسمي على العمال في الاقتصاد غير الرسمي؛ واستخدام الاحتياطيات المالية واحتياطيات النقد الأجنبي؛ وإعادة تخصيص النفقات العامة؛ واعتماد إطار اقتصادي كلي أكثر ملاءمة؛ وتأمين المساعدة الإنمائية الرسمية؛ والمخصصات الجديدة للأصول الاحتياطية لصندوق النقد الدولي وحقوق السحب الخاصة.
وبما أن القرارات المالية تؤثر على الجميع، فلا يجب أن تُتخذ بسرية، بل من خلال الحوارات الوطنية الشاملة والشفافة التي تشمل النقابات، واتحادات أرباب العمل، ومنظمات المجتمع المدني. ويجب أن تتخلى الحكومات عن تدابير التقشف التي تفيد قلة على حساب الكثيرين. وفقط من خلال استكشاف نُهج بديلة، يمكننا دعم الناس والعودة إلى المسار الصحيح نحو تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. إن العالم لا يزال يعاني من جائحة، لذا فهو في غنى عن جائحة أخرى.
اضف تعليق