سيكون لتقلبات السوق المتزايدة الحدة عواقب مهمة في الأمد القريب، لأن تمويل رأس المال الاستثماري والأسهم الخاصة، والذي يضطلع بدور بالغ الأهمية في دعم الشركات المبدعة التي تتمتع بإمكانات النمو القوي، ليس بمعزل عنها. أثناء فترات الصعود، تكون التقييمات سخية، ولا تستثنى من التمويل بعض الشركات التي...
بقلم: مايكل سبنس
نيويورك ــ تحددت هيئة المحادثات الأخيرة حول الاقتصاد العالمي والأسواق بفعل مجموعة من التساؤلات المتكررة. على الرغم من وجود العديد من الأجزاء المتحركة التي يصعب تمييزها في صورة واحدة واضحة، فإن الأمر يستحق محاولة التركيز بشكل أفضل على بعض من أكبر المشكلات.
السؤال الأول مباشر وواضح: هل الركود آت؟ مع تعديل توقعات النمو الرسمية كتلك الصادرة عن صندوق النقد الدولي بشكل كبير نزولا، ومن المرجح أن تزداد نزولا، لا يخلو الأمر من سبب وجيه للقلق. لكن الركود العالمي ــ نمو الناتج المحلي الإجمالي السلبي لربعين متتاليين ــ يظل غير مرجح، وإن كان حدوث صدمة كبرى، مثل توسع صراع ما بشكل درامي أو ارتباك مفاجئ وضخم في سوق رئيسية مثل سوق الطاقة، من الممكن أن يغير المشهد.
لكن من المؤكد أن بعض الاقتصادات ستنكمش. سوف ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بكل تأكيد، حتى مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، نتيجة للعقوبات الغربية القاسية والممتدة في الأرجح. أوروبا أيضا من المرجح أن تعاني من الركود، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، والاعتماد الشديد على الواردات من الوقود الأحفوري، والحتمية (المكلفة) المتمثلة في فُطام نفسها بسرعة عن الإمدادات الروسية. وتواجه العديد من البلدان ذات الدخل الأدنى ــ حيث يتسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة في تفاقم التأثيرات المترتبة على الجائحة ــ أوقاتا أشد صعوبة.
وفي حين يبدو من المرجح على نحو متزايد أن تواجه الولايات المتحدة حالة من التباطؤ الاقتصادي، فإن الركود ليس السيناريو الأكثر ترجيحا. على نحو مماثل، من المنتظر أن تشهد الصين ــ التي تُـعَـد محركا قويا للنمو العالمي عادة ــ نموا منخفضا (عند خانة الآحاد) لمدة عام على الأقل، نظرا للتأثيرات المجمعة التي تخلفها عمليات الأغلاق المرتبطة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، وانخفاض معدلات التطعيم بين كبار السن، وخسارة بعض من ثقة المستثمرين في قطاعات التكنولوجيا العالية النمو، وقطاع العقارات الذي تحاصره الديون المرتفعة وهبوط الأسعار.
يتعلق السؤال الرئيسي الثاني بمسار التضخم. يتمثل السبب المباشر وراء الزيادات الأخيرة في الأسعار في اختناقات سلاسل التوريد واختلالات التوازن بين العرض والطلب. وتعمل الحرب الدائرة في أوكرانيا على تكثيف الضغوط التي تدفع أسعار الطاقة، والسلع الأساسية والمواد الغذائية إلى الارتفاع. صحيح أن بعض هذا سيكون مؤقتا، وإن كان من المنتظر أن يدوم لفترة أطول مما كان متوقعا في مستهل الأمر.
لكن التضخم يتغذى أيضا على اتجاهات مزمنة لن تتلاشى في أي وقت قريب. الواقع أن شعوب عدد من البلدان التي تمثل نحو 75% من الاقتصاد العالمي تعاني من الشيخوخة السكانية، فضلا عن انخفاض المشاركة في قوة العمل، واتجاه نمو الإنتاجية نحو الانخفاض. علاوة على ذلك، نجد أن القدرة الإنتاجية غير المستغلة في الاقتصادات النامية ــ المصدر الرئيسي للضغوط الانكماشية في الماضي ــ أصبحت أصغر مما كانت عليه من قبل، وما تبقى منها يظل غير مستخدم. أضف إلى هذا تنويع روابط العرض والطلب المدفوع بالسياسات ــ في الاستجابة لعدد لا حصر له من الصدمات، من الجائحة وتغير المناخ إلى التوترات الجيوسياسية والصراعات ــ فيبدو من المرجح قدوم فترة طويلة من النمو المقيد بالعرض مع ضغوط تضخمية متأصلة.
السؤال الثالث المتكرر هو: ما هي الخطوة التالية في قطاع التكنولوجيا والتحول الرقمي الذي يدفع هذا القطاع؟ حفزت عمليات الإغلاق وغير ذلك من تدابير الصحة العامة تسارع الاتجاه نحو تبني التكنولوجيات الرقمية أثناء الجائحة. لكن على عكس توقعات السوق، من المرجح أن يتباطأ هذا الاتجاه مع إزالة القيود التي تفرضها الجائحة.
وسط توقعات النمو المفرطة التفاؤل، أنتجت أسواق الأسهم تقييمات كانت لتعد غير واقعية في أفضل الأوقات. في وقت يتسم بارتفاع التضخم، وإحكام السياسات النقدية، وتراجع توقعات النمو، بدأت الأسواق عملية تصحيح. وليس من المستغرب أن تسجل أسهم النمو، التي تستمد قيمتها من التدفقات النقدية المتوقعة في المستقبل، والتي تميل إلى التركز في قطاع التكنولوجيا، انخفاضا حادا بشكل خاص.
لا تعني تقلبات السوق هذه أن التحولات الرقمية والتحولات في مجال الطاقة والطب الحيوي الجارية الآن تفتقر إلى الجوهر، أو أنها لن يكون لها تأثيرات اقتصادية طويلة الأمد. تميل الأسواق بطبيعة الحال إلى كونها أكثر تقلبا من الواقع الاقتصادي الأساسي الذي يفترض أن تعكسه. وتتسبب حوافز القوة الدافعة في إحداث تجاوزات في كلا الاتجاهين.
سيكون لتقلبات السوق المتزايدة الحدة عواقب مهمة في الأمد القريب، لأن تمويل رأس المال الاستثماري والأسهم الخاصة، والذي يضطلع بدور بالغ الأهمية في دعم الشركات المبدعة التي تتمتع بإمكانات النمو القوي، ليس بمعزل عنها. أثناء فترات الصعود، تكون التقييمات سخية، ولا تستثنى من التمويل بعض الشركات التي تقدم مزاعم مشكوك في صحتها بشأن ديناميكيات النمو الدائم. وفي أوقات الانكماش، تتأخر التقييمات الخاصة عن تعديلات السوق بنحو ستة إلى تسعة أشهر (تقدير الخبراء)، ويرجع هذا جزئيا إلى مقاومة المستثمرين والشركات تعديل التقييمات نزولا إلى أن تُــفـرَض القضية فرضا بسبب الحاجة إلى جمع رأسمال إضافي. (حتى الآن، تُـحَـض شركات النمو على خفض التكاليف والحفاظ على رأس المال). خلال هذه الفترة، كانت أسعار الصفقات غير متماشية مع القيم الواقعية الأطول أجلا، مما يجعل التمويل صعبا ويعيق النمو والإبداع.
سؤال أخير يبدو أنه يشغل العقول مؤخرا هو ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا، وعزم أوروبا على تقليل اعتمادها على النفط والغاز الروسيين، وأسعار الوقود الأحفوري التي ارتفعت إلى عنان السماء، قد تعرقل التحول نحو الاقتصاد المنخفض الكربون. ما يدعو إلى التفاؤل أن هناك من الأسباب الوجيهة ما يحملنا على الاعتقاد بأن هذا قد لا يحدث، على الأقل ليس بشكل دائم.
بادئ ذي بدء، تخلق أسعار الوقود الأحفوري المرتفعة حافزا قويا لدى البلدان والمستهلكين لتعزيز كفاءة الطاقة والاستثمار في حلول الطاقة المستدامة. وعلى هذا فإنهم يقطعون شوطا نحو التعويض عن الفشل في إنشاء مخطط عالمي فعال لتسعير الكربون.
سوف تخلف أسعار الوقود الأحفوري المرتفعة تأثيرات سلبية على التوزيع داخل البلدان وبينها، على نحو أشبه بتأثير الضريبة التراجعية. لكن هذه التأثيرات يمكن تخفيفها، وعلى النحو الأمثل من خلال شكل ما من أشكال إعادة توزيع الدخل. ما لا ينبغي للبلدان أن تفعل هو دعم الوقود الأحفوري من خلال تنظيم الأسعار النهائية دون مستويات السوق، لأن هذا من شأنه أن يضعف الحافز لملاحقة خيارات أكثر استدامة. الواقع أن الحجة قوية لصالح تثبيت استقرار أسعار الطاقة لتشجيع الاستثمار في البدائل. لكن هذا لا يعني خفض القمم مع ترك القيعان على حالها.
تساعد العوامل الجيوسياسية أيضا في تعزيز حافز الطاقة النظيفة: على عكس الوقود الأحفوري، لا تخلق مصادر الطاقة المتجددة تبعيات خارجية في الأغلب الأعم. وهذا يعني أن التحول الأخضر يشكل آلية قوية لزيادة القدرة على الصمود والحد من الضعف في مواجهة استخدام إمدادات الطاقة كسلاح.
إن التحول الأخضر، في نهاية المطاف، عملية تستغرق عدة عقود من الزمن، وفي غضون ذلك سيتحول مزيج الطاقة تدريجيا من الوقود الأحفوري إلى البدائل النظيفة. في الأمد القريب، قد تلجأ الاقتصادات ــ وخاصة الاقتصاد الأوروبي ــ إلى الطاقة "القذرة"، بما في ذلك الفحم، لتلبية احتياجاتها. لكن هذا لا يعني بالضرورة كارثة تهدد تحول الطاقة، ناهيك عن أجندة الاستدامة العالمية.
اضف تعليق