في ظل نفس الاختلافات التي صاحبت عودة ظهور الأزمات السابقة، نحتاج إلى اختبار بسيط لاحتواء نزاعات التضخم القديمة والجديدة. السؤال الرئيسي هو ما إذا كنا على ثقة من أن حالة الاستثناء ستنتهي. إذا تمكنا من تحديد نقطة زمنية مُعينة بوضوح، فلا داعي للقلق بشأن التضخم...
بقلم: هارولد جيمس/ماركوس برونرماير/جان بيير لانداو
برينستون/باريس ـ في الآونة الأخيرة، شهد العالم عودة أزمة التضخم. على مدى عقدين من الزمن، كانت البنوك المركزية في الاقتصادات الصناعية واثقة من نجاحها في القضاء على التضخم بشكل نهائي. عند اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، عادت المخاوف بشأن ارتفاع مُعدلات التضخم على جانبي الأطلسي. في الولايات المتحدة، عمد الجمهوريون في الكونجرس إلى اعتماد سياسة التقشف في عام 2010، وفي عام 2011، بدأ البنك المركزي الأوروبي في تشديد سياسات أسعار الفائدة. وفي وقت لاحق، شعر صُناع السياسة بالقلق من أن مُعدل التضخم كان مُنخفضًا للغاية، وأن عودة ارتفاعه قد تكون مُستحيلة.
واليوم، عاد الجدل حول ارتفاع مُعدلات التضخم. ولكن ما مقدار الاهتمام الذي يجب أن يوليه المرء لهذه المسألة؟ بعد كل شيء، لقد مررنا بأزمة مُماثلة من قبل، وليس فقط في عام 2010.
يُعيد الجدل القائم إحياء البيئة السياسية المُضطربة في السبعينيات، حين زعم حمائم التضخم بأن صدمات النفط في العقد - حيث تضاعفت الأسعار ثلاث مرات في 1973-1974، ومرة أخرى في عام 1979، بعد الثورة الإسلامية الإيرانية - لن تُسفر عن توقعات معدلات تضخم مُرتفعة أو دوامة تضخم. وقد جادل بعض الاقتصاديين البارزين، مثل البريطاني الكينزي روي هارود، بأن السياسات النقدية والمالية المُعززة للنمو الاقتصادي ستؤدي إلى انخفاض الأسعار، لأن معدلات الإنتاج والوفرة ستعرف زيادة ملحوظة.
رداً على ذلك، حذر صقور التضخم من التوسع النقدي المتزايد الذي تفضله المصالح المصرفية والمالية. ومن شأن الزيادة الناتجة في الأسعار أن تخلق تأثيرًا سلبيًا حيث تقوم المجموعات المنظمة - وخاصة النقابات العمالية - بتأمين تسويات أعلى للأجور.
إن التفسير التاريخي الشائع لهذه الفترة هو أن الرئيس ريتشارد نيكسون، والرئيس جيمي كارتر، قاما بتخويف مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لدفعه باتجاه التضخم. لكن البحث المُكثف الذي أجراه الخبير الاقتصادي في بنك الاحتياطي الفيدرالي إدوارد نيلسون مؤخرًا عن ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل والجدل النقدي في السبعينيات يدحض هذا التفسير. وجد نيلسون أن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي آرثر إف بيرنز، بصفته خبيرًا ماليًا متشددًا ومعلم فريدمان، كان عازمًا على منع حدوث دوامة تضخم جديدة.
ومع ذلك، كانت نظرية بيرنز حول سبب حدوث التضخم خاطئة. كان مُقتنعًا أن إدخال ضوابط الأسعار والأجور التي دعا إليها يمكن أن يتحكم في تأثير دفع الأجور الناتج عن صدمة لمرة واحدة. وهكذا، استخدم بنك الاحتياطي الفيدرالي هذه النظرية الخاطئة للتعامل مع التضخم العظيم في السبعينيات. وقد نجح فريدمان في بناء سمعة هائلة بناءً على توقعاته لنمو الأسعار خارج نطاق السيطرة.
اتخذت بعض الدول الأوروبية مسارًا مختلفًا. كان البنك المركزي الألماني (بوندسبانك) قلقًا بشأن التضخم قبل فترة طويلة من الصدمات النفطية، وفي مايو/أيار 1973، انتهز الفرصة لرفع سعر الصرف الثابت للمارك الألماني مُقابل الدولار الأمريكي. في ذلك الوقت، كانت البنوك الألمانية غير راضية عن هذه الخطوة، خشية أن تؤدي إلى فشل البنوك. ولكن في وقت لاحق، نظرًا إلى أن معدل التضخم وبالتالي سعر الفائدة كان أقل من مثيله في الولايات المتحدة، كان لدى صُناع السياسة الألمان القدرة على التعامل مع صدمة النفط التي أعقبت ذلك في عام 1973 على أنها أزمة عابرة. بفضل نجاحاتهم الأولية، فقد تمكنوا من تحمل الصدمة، حيث عانت ألمانيا بشكل طفيف خلال الركود العالمي في عام 1975.
بشكل عام، يمكن التصدي للصدمة لمرة واحدة دون آثار طويلة الأمد، لأن الجميع سيعتقدون أنها مجرد حدث استثنائي. ولكن عندما تتكرر دورات الصدمات والاستجابات السياسية، سيظهر نمط مُعين. تبدأ وجهات نظر الناس في المستقبل بالتغير عندما تصبح الأمور الاستثنائية طبيعية. بلغة البنوك المركزية، تصبح التوقعات غير مُستقرة.
تم تقديم حجج مماثلة حول الاشتباكات العسكرية الكُبرى، والتي تتطلب نفقات مالية ضخمة تؤدي إلى زيادة الطلب مؤقتًا (أي طوال فترة الصراع). بعد الحرب العالمية الأولى، حاولت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة العودة بسرعة إلى "الحياة الطبيعية"، وشرعتا في تنفيذ عملية صعبة لمكافحة التضخم. ومع ذلك، كانت بلدان أوروبا الوسطى تُعاني من ضعف سياسي واجتماعي عميق وطويل الأمد، مما خلق الانطباع بأن ظروف زمن الحرب لا تزال قائمة، وأنه لا تزال هناك حاجة إلى تدابير مالية في زمن الحرب. انتهى الأمر بهذه البلدان في مواجهة التضخم، ثم التضخم المُفرط.
نفس المنطق ينطبق على جائحة كوفيد 19. لا شك أننا بحاجة ماسة إلى احتياطيات نقدية ومالية كبيرة لتخفيف الأثر المُباشر للفيروس والإغلاق الاقتصادي الناتج. وإذا أمكن التأكيد بوضوح على أنه سيتم سحب هذه الاحتياطيات في مرحلة ما، فلن يكون لها تأثير طويل المدى على توقعات الأسعار.
ولكن مثل وباء فيروس كورونا نفسه، يمكن أن تستمر الأزمة الاقتصادية مع استمرار معاناة المجتمعات من المرض. لن يكون التأثير مُوزعًا بالتساوي. ستخضع قطاعات السياحة والسفر لعمليات انتعاش متأخرة للغاية، وبالتالي ستكون هناك حاجة إلى دعم مالي مُستمر. ويتمثل التحدي الذي يُواجه الحكومة في كيفية التمييز بين القطاعات المُتضررة بشدة والتي لا تزال قادرة على الاستمرار والأنشطة الاقتصادية التي عانت من أزمات مُستمرة نتيجة للتطورات التكنولوجية أو التغيرات السلوكية.
على الرغم من أن صُناع السياسات يُدركون الطابع الفريد لأزمة وباء فيروس كورونا المُستجد، إلا أنهم مُنقسمون حول كيفية التعامل معها. تعتقد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن اعتقادًا راسخًا أن حزمة التعافي المقترحة البالغة 1.9 تريليون دولار (بالإضافة إلى 3.1 تريليون دولار من الإنفاق في عام 2020) لن تُشكل أي مخاطر على المدى الطويل.
يُدرك رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بأن زيادة الطلب قد تؤدي إلى ارتفاع قصير الأجل في التضخم، لكنه يعتقد أن هذا سيكون مؤقتًا، بالنظر إلى تجربة العشرين عامًا الماضية. وعلى نحو مماثل، يزعم البنك المركزي الأوروبي أنه لا ينبغي تفسير الارتفاع السريع في الأسعار على أنه عودة إلى التضخم. وقد صرحت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد بثقة أنه "لم يحن الوقت بعد للقلق بشأن التضخم".
وعلى النقيض من ذلك، بدأت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - خاصة "المُتقشفة في الشمال" - في القلق بشأن إجماع تضخمي جديد وخطير على مستوى العالم. وقد أعرب بعض الأمريكيين عن مخاوف مُماثلة، بمن فيهم وزير الخزانة السابق لورانس سمرز، الذي دافع في وقت سابق عن الحوافز المالية.
في ظل نفس الاختلافات التي صاحبت عودة ظهور الأزمات السابقة، نحتاج إلى اختبار بسيط لاحتواء نزاعات التضخم القديمة والجديدة. السؤال الرئيسي هو ما إذا كنا على ثقة من أن حالة الاستثناء ستنتهي. إذا تمكنا من تحديد نقطة زمنية مُعينة بوضوح، فلا داعي للقلق بشأن التضخم.
ولكن إذا أدى استثناء واحد إلى مزيد من الاستثناءات، فلن تكون هناك حلول واضحة. وبدلاً من ذلك، ستتغير توقعات الناس، وسيؤثر التضخم بشكل متزايد في رؤيتنا المستقبلية، مما سيؤدي إلى حالة من عدم اليقين السياسي والاستقطاب الحاد بين البلدان التي يُهيمن عليها الصقور الخائفون أو الحمائم الواثقة.
اضف تعليق