بات التأثير المترتب على اقتران الإجهاد الناجم عن الجائحة بتسييس ممارسات الصحة العامة واضحا جليا في ذات اللحظة التي شهدت وصول الموجة الثانية المتوقعة من جائحة كوفيد-19. من المؤسف أن هذا يتناسب مع سيناريو الركود المزدوج المخيف الذي حذرت منه مؤخرا. ففي ثماني من دورات الأعمال...
بقلم: ستيفن روش
نيوهافين ــ على نحو مفاجئ، أصبح للتعافي الاقتصادي الذي يقوده اللقاح حُـجة معقولة. فقد قَـدَّمَ لنا العلم الحديث بكل تأكيد واحدة من أعظم المعجزات في حياتي الطويلة. وكما دفعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الاقتصاد العالمي إلى أشد وأعمق حالة ركود على الإطلاق، بات من المحتمل الآن أن نشهد تطورا متماثلا إلى الأفضل.
أتمنى لو كان الأمر بهذه السهولة. فمع استمرار تفشي جائحة كوفيد-19 ــ وخروج معدلات الإصابة بالعدوى والاحتجاز في المستشفيات والوفيات عن نطاق السيطرة (مرة أخرى) ــ انقلبت مخاطر الأجل القريب للنشاط الاقتصادي حتما في الاتجاه السلبي في الولايات المتحدة وأوروبا. بات التأثير المترتب على اقتران الإجهاد الناجم عن الجائحة بتسييس ممارسات الصحة العامة واضحا جليا في ذات اللحظة التي شهدت وصول الموجة الثانية المتوقعة من جائحة كوفيد-19.
من المؤسف أن هذا يتناسب مع سيناريو الركود المزدوج المخيف الذي حذرت منه مؤخرا. الخلاصة هنا تستحق التكرار: ففي ثماني من دورات الأعمال الإحدى عشرة منذ الحرب العالمية الثانية، أعقب التعافي الاقتصادي الواضح في الولايات المتحدة انتكاسات. وتعكس هذه الانتكاسات شرطين: استمرار الضعف الناتج عن الركود ذاته واحتمال حدوث هزات تابعة. ومن المؤسف أن الشرطين مستوفيان في حالتنا هذه.
من الواضح أن استمرار الضعف غير قابل للنقاش. فعلى الرغم من الارتداد القياسي على أساس سنوي بنسبة 33% في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الثالث من هذا العام، ظل الاقتصاد الأميركي أقل من ذروته السابقة في الربع الأخير من عام 2019 بنحو 3.5%. وباستثناء الانخفاض بنسبة 4% من الذروة إلى القاع خلال الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، تعادل الفجوة الحالية بنسبة 3.5% تلك المسجلة في أعماق كل ركود آخر في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
من المضحك بالتالي أن نتحدث عن اقتصاد أميركي يتعافى بالفعل. لم يكن الارتداد في الربع الثاني سوى نفس أخير ــ انتعاش ميكانيكي في فترة ما بعد الإغلاق في أعقاب أشد انحدار على الإطلاق. وهذا يختلف تمام الاختلاف عن التعافي التراكمي العضوي لاقتصاد يشهد تحسنا حقيقيا. فلا تزال الولايات المتحدة عالقة في بـئـر عميقة.
ما عليك إلا أن تسأل المستهلكين الأميركيين، الذين مثلوا لفترة طويلة الحصة المهيمنة من الطلب الكلي في الولايات المتحدة بنحو 68% من الناتج المحلي الإجمالي. بعد الانخفاض غير المسبوق بنسبة 18% من يناير/كانون الثاني إلى إبريل/نيسان، استعاد إجمالي الإنفاق الاستهلاكي منذ ذلك الحين نحو 85% من خسائره (بالقيمة الحقيقية). لكن الشيطان يكمن في التفاصيل.
تركز الانتعاش في الاستهلاك السلعي ــ السلع المعمرة مثل السيارات، والأثاث، والأجهزة المنزلية، بالإضافة إلى بنود غير معمرة مثل الطعام والملابس والوقود والمستحضرات الصيدلانية التي عوضت وزيادة عن الخسائر خلال الانخفاض الناجم عن الإغلاق. وفي شهر سبتمبر/أيلول، كان استهلاك السلع بالقيمة الحقيقية أعلى بنحو 7.6% من أعلى مستوى بلغه قبل الجائحة في يناير/كانون الثاني 2020. استفاد هذا الارتداد بشكل كبير من الزيادة الضخمة في الشراء عبر الإنترنت من قِـبَـل المستهلكين الملازمين لمساكنهم، مع ارتفاع التجارة الإلكترونية من 11.3% من إجمالي مبيعات التجزئة في الربع الأخير من عام 2019 إلى 16.1% في الربع الثاني من عام 2020.
لكن استهلاك الخدمات، الذي يشكل أكثر من 61% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة، مسألة مختلفة تماما. فقد شكلت الخدمات 72% كاملة من الانهيار في إجمالي الإنفاق الاستهلاكي من يناير/كانون الثاني إلى إبريل/نيسان. وعلى الرغم من انتعاش الخدمات جزئيا منذ ذلك الحين، فإنها لم تسترد سوى 64% فقط من الخسائر التي تكبدتها في وقت سابق من هذا العام بسبب الإغلاق.
مع استمرار تفشي جائحة كوفيد-19، يظل المستهلكون الأميركيون الضعفاء مترددين بشكل مفهوم في العودة إلى المشاركة في التفاعل الشخصي اللازم لإدارة أنشطة الخدمات وجها لوجه مثل تناول الطعام في المطاعم، والتسوق الشخصي، والسفر، والإقامة في الفنادق، والترفيه وأنشطة الاستجمام. تمثل هذه الخدمات مجتمعة ما يقرب من 20% من إجمالي الإنفاق على الخدمات المنزلية.
يقودنا هذا التخوف المفهوم من التفاعلات الشخصية في خضم الجائحة إلى المكون الثاني للركود المزدوج: الهزات التابعة. مع الارتفاع المتسارع الحالي في حالات الإصابة بعدوى كوفيد-19، عادت عمليات الإغلاق ــ ليس بذات القدر من الحدة الذي كانت عليه في مارس/آذار وإبريل/نيسان، لكنها تستهدف رغم ذلك التقليص الجزئي للأنشطة التي تمارس وجها لوجه ونحن نقترب من موسم العطلات الشديد الأهمية. وعلى وجه التحديد، في اللحظة حيث يتوقع التقويم الاقتصادي عادة ارتفاعا هائلا في النشاط، ترتفع احتمالات خيبة الرجاء الكبرى المعدلة موسميا.
يفرض هذا مخاطر حقيقة على سوق العمل الأميركية التي لا تزال مجهدة. صحيح أن معدل البطالة الإجمالي انخفض بشكل حاد من 14.7% في إبريل/نيسان إلى 6.9% في أكتوبر/تشرين الأول، لكنه يظل في الأساس يعادل ضعف المستوى الذي بلغه قبل كوفيد-19 (3.5%). وفي ظل المطالبات الأسبوعية بالتأمين ضد البطالة، التي بدأت ترتفع ببطء في أوائل شهر نوفمبر/تشرين الثاني مع فرض حرض التجول والعودة إلى تدابير أشبه بالإغلاق الكامل، فضلا عن فشل الكونجرس الأميركي المختل في الاتفاق على حزمة إغاثة أخرى، يتنامى خطر تجدد الضعف في إجمالي تشغيل العمالة.
الواقع أن الأخبار حول اللقاحات غير عادية حقا. فعلى الرغم من صعوبة لوجستيات الإنتاج والتوزيع، في أقل تقدير، هناك سبب وجيه يجعلنا نأمل في أن تكون نهاية جائحة كوفيد-19 قريبة في الأفق الآن. لكن التأثير على الاقتصاد لن يكون فوريا، لأن التطعيم من غير المرجح أن يؤدي إلى ما يسمى مناعة القطيع حتى منتصف عام 2021 في أقرب تقدير.
ما الذي قد يحدث إذن بين الحين وذلك الموعد؟ في ظل اقتصاد أميركي لا يزال ضعيفا وتحت رحمة هزات تابعة متوقعة، تصبح الحجة لصالح احتمالات حدوث انتكاسة، أو ركود مزدوج، قبل منتصف عام 2021، أكثر إقناعا.
في إعادة صياغة لعبارة تشارلز ديكنز الشهيرة، "هذه أفضل الأوقات وأشدها سوءا". ففي حين تحتفل الأسواق المالية بالطفرة القادمة التي يقودها اللقاح، يدفعنا التقاء الهزات التابعة المرتبطة بالجائحة مع الصدمات السياسية إلى مستنقع الضعف الاقتصادي الشديد. من منظور ديكنز، لكي نصل إلى "ربيع الأمل"، يتعين علينا أولا أن نتحمل "شتاء اليأس".
اضف تعليق