لماذا كان قطاع رحلات العمل قطاع كبير جدا منذ البداية ولماذا كان ذلك القطاع ينمو بمعدل ثلاثة أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي على الرغم من توفر سكايب أو فايستايم أو واتساب أو البريد الالكتروني علما ان كل تلك الأدوات تسبق كوفيد-19 وزووم. هل كان...
بقلم: ريكاردو هوسمان
كامبريدج- لقد بلغ إجمالي حجم الانفاق على رحلات العمل قبل كوفيد-19 1،5 تريليون دولار أمريكي سنويا (حوالي 1،7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي) واليوم انخفض هذا المبلغ الى مبلغ لا يكاد يذكر بينما تغلق الدول حدودها وينتشر التباعد الاجتماعي. الطائرات تربض في المطارات وتم اغلاق الفنادق ولم يعد المسؤولون التنفيذيون في الشركات يكسبون النقاط من شركات الطيران بسب سفرهم المتكرر كما تأثرت سلبا الكثير من الوظائف المرتبطة بقطاع السفر والضيافة. لكن لو كانت العوامل السلبية تنحصر بتلك الأمور فحسب، لكان التأثير مهما كبر حجمه أقل بكثير من التدهور الحاصل في السياحة العالمية بشكل عام ويمكن استعادة الوضع الطبيعي بسهولة عندما تنتهي الجائحة.
للأسف، فإن الأبحاث الأخيرة التي قمت انا بها مع فرانك نيفك من جامعة هارفارد وميشيل كوسكيا من جامعة أي تي اوف كوبنهاغن والتي سوف تنشر في المجلة التي يستعرضها الأقران السلوك البشري في الطبيعة "نايتشر هيومان بيهافير" أشارت إلى ان من الممكن ان يكون تأثير وقف رحلات العمل اكبر بكثير وأكثر استدامة وحتى نفهم السبب يجب ان نسأل انفسنا أولا لماذا كان قطاع رحلات العمل قطاع كبير جدا منذ البداية ولماذا كان ذلك القطاع ينمو بمعدل ثلاثة أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي على الرغم من توفر سكايب أو فايستايم أو واتساب أو البريد الالكتروني علما ان كل تلك الأدوات تسبق كوفيد-19 وزووم.
هل كان الموضوع برمته يتعلق بالامتيازات، ام ان مبلغ 1،5 تريليون دولار أمريكي تم في الغالب انفاقه بشكل جيد؟ اذا كان الامر كذلك فلماذا وما هي الأثار المترتبة على تقييد هذه الأنشطة الآن؟
بالطبع عندما بدأنا هذا البحث لم نكن نتصور انه سيحصل وقف كامل لقطاع رحلات العمل ولكن تحليلنا يسلط الضوء على العواقب المحتملة.
لقد كنا في ذلك الوقت ندرس الانتشار التكنولوجي حيث نرى ان التكنولوجيا هي في واقع الأمر ثلاثة أنواع من المعرفة : المعرفة الكامنة في الأدوات والمعرفة المنظمة في الرموز والوصفات والصيغ والخوارزميات وكتيبات كيفية التنفيذ والمعرفة الضمنية في العقول ومن بين تلك الأنواع الثلاثة فإنه من السهل تحريك الأدوات والرموز ولكن الخبرة والمهارة تتحرك بشكل بطيء جدا من دماغ الى آخر وذلك من خلال عملية طويلة من التقليد والتكرار والتعليقات كما هو الحال عند تعلم التحدث بلغة جديدة أو العزف على آلة موسيقية.
وكما يجادل مالكولم جلادويل في كتابه "الحالات المنعزلة" فإنه يمكن ان يستغرق المرء 10،000 ساعة من التمرين ليصبح متمرسا في شيء ما وعندما واجهت الناس مصاعب من اجل نقل الخبرة والمهارة من عقل لأخر، استنتج هؤلاء الناس قبل وقت طويل انه سيكون اسهل بكثير نقل العقول نفسها وعليه قام العديد من الباحثين بما فيهم نحن بدراسة حركة الخبرة والمهارة بين الشركات والمناطق والبلدان وذلك من خلال انتقال العمالة والهجرة والشتات.
لكن ماذا بالنسبة لرحلات العمل؟ لقد أظهرنا في بحثنا السابق ان هناك ارتباط ضعيف بين رحلات العمل والتجارة أو حتى تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر. يبدو ان رحلات العمل ترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من المؤسسات في بلد ما تمتلكها شركات في بلد آخر.
طبقا لمؤسسة دان آند برادستريت فإنه يوجد هناك 1،5 مليون مؤسسة من تلك المؤسسات في العالم فحتى تدير شركة، فأنت بحاجة ليس فقط للمعلومات ولكن أيضا للقدرة على فهمها مما يعني انك بحاجة للخبرة والمهارة. إن من مزايا المؤسسات متعددة الجنسيات وشركات الاستشارات والمحاسبة والمحاماة العالمية انه يمكنها تحريك تلك القدرة الى نقاط مختلفة في شبكتها.
مع وجود البيانات عن رحلات العمل لدى مركز ماستركارد للنمو الشامل، تمكنا من معرفة ما اذا كانت رحلات العمل مهمة في الانتشار التكنولوجي وذلك من خلال جعل المهارة والخبرة متوفرة للدول المتلقية وهذا بالضبط ما وجدناه فرحلات العمل من البلدان التي تعتبر جيدة في صناعة معينة تترجم الى إنتاجية أعلى وتوظيف وصادرات في تلك الصناعات في البلد المتلقي خلال السنوات الثلاث اللاحقة بالإضافة الى ذلك فإن الاختلافات في رحلات العمل المرتبطة بالفروقات في أنظمة التأشيرات الثنائية تمكننا من تفسير تلك العلاقة ليس كرابط بحسب بل كرابط مسبب.
ان أكثر الدول المستفيدة من تدفق الخبرة والمهارة وذلك من خلال رحلات العمل هي النمسا وايرلندا وسويسرا والدنمارك وبلجيكا وهونغ كونغ وسنغافورة علما انه لا يوجد أي من الدول النامية بين أفضل 25 دولة متلقية. ان أفضل الدول من حيث الأداء في العالم النامي هي بنما وأوروغواي وصربيا وماليزيا وجنوب أفريقيا وتشيلي. ان البلدان التي تساهم بشكل أكبر في تبادل المعرفة هي ألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان. أما الهند والبرازيل والصين فهي تحتل المراكز 12 و15 و17 على التوالي.
طبقا لتقديراتنا فإن الوقف الدائم والكامل لرحلات العمل الدولية سوف يؤدي لانكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 17%، أي بالنسبة للحجم يعتبر ذلك أكبر من نسبة 1،7% من الناتج المحلي الإجمالي الذي تم انفاقه سنة 2018. ان الدول الأكثر تضررا ستكون تلك الدول الأكثر استفادة حاليا من تدفقات الخبرة والمهارة.
لقد كان عالم ما قبل الجائحة يعتمد بشكل متزايد على القدرة على إيجاد الخبرة والمهارة عالميا. ان الاقتصادات التي كانت قادرة على ان تربط نفسها بتدفقات الخبرة والمهارة تلك استفادت من زيادة في الإنتاجية والإنتاج والصادرات. لقد كانت الكثير من دول العالم النامي على هامش تلك التدفقات ولكن مهما كان الذي حصلت عليه تلك الدول فإنه ما يزال مهما جدا لتنوعها وتنميتها الاقتصادية.
لقد اكتشف العديد من الناس بما فيهم أنا شخصيا ان بإمكانهم عندما يعملون من المنزل ويتواصلون من خلال زووم تحقيق نفس الإنتاجية التي كانوا يحققونها عندما كانوا يعملون في المكتب أو يسافرون في رحلات عمل ولكن من الممكن ان يكون هذا وهم قصير المدى يختلف بشكل كبير طبقا لطبيعة النشاط. لقد كان صندوق النقد الدولي قادرا على توزيع المساعدة المالية للعديد من البلدان بسرعة وذلك بالعمل في المكاتب والتحدث من خلال ويبيكس ومن ثم تحويل الأموال ولكن البنوك التنموية واجهت مصاعب اكثر بكثير من اجل تنسيق مشاريع البنية التحتية حيث الحضور العملي يعتبر أمرا لا يمكن تجنبه وبدون القدرة على الوصول للخبرة والمهارة العالمية على الأرض فإن الشركات المحلية واجهت المتاعب في تشييد هياكل المباني أو اصلاح المعدات او معرفة كيفية تحسين العمليات.
ان ابحاثنا توحي بإن العالم سيدفع ثمنا باهظا للإيقاف الحاصل في رحلات العمل حيث سوف يظهر هذا الثمن جليا من خلال انخفاض نمو الإنتاجية والتوظيف والإنتاج في مرحلة ما بعد الأزمة. ان الوقت ليس موردا متجددا والسفر المفقود لن يرجع مرة أخرى وحتى لو رجع السفر المستقبلي لمعدلاته الطبيعية، وعلى الرغم من ان إيقاف السفر لا يمكن تجنبه بسبب اعتبارات الصحة العامة، إلا أن التكاليف حقيقية.
سوف تتصاعد تلك التكاليف بشكل أكبر لو تخلينا عن الاستثمارات العالمية في اللقاحات والشهادات والتراخيص اللازمة لإعادة فتح قطاع السفر بأسرع وقت ممكن علما أن من الواضح ان البلدان ستدفع ثمنا أكبر لو استخدمت كوفيد-19 كحجة من اجل فرض نظام تأشيرات متشدد كما حاولت إدارة الرئيس دونالد ترامب ان تفعل وذلك من خلال الحد من اصدار التأشيرات المهنية ومنع الطلبة الأجانب من دخول أمريكا اذا قررت جامعاتهم ان لا تفتح الحرم الجامعي في الخريف.
في واقع الأمر فإن من المرجح ان الجائحة والتقنيات مثل زووم سوف تظهر ان بعض رحلات العمل هي فعلا غير ضرورية ولكن ابحاثنا تشير الى ان تحريك العقول من اجل تبادل الخبرة والمهارة سيكون أمرا حيويا في عالم ما بعد كوفيد- 19 كما كان قبله وان عواقب وقف رحلات العمل ستدوم لفترة طويلة.
اضف تعليق