يعد تاريخ الديون العراقية عموماً والخارجية منها خصوصاً من الوقائع المحزنة والداكنة في تاريخ العراق الاقتصادي الحديث. فقد ظل الدين الحكومي على مدار العقود الاربعة الماضية بعيداً في توجهاته عن فلسفة الاقتراض من أجل الاستثمار في التنمية وتحقيق الازدهار الاقتصادي بحكم الظروف والعوامل السياسية القاهرة...
يعد تاريخ الديون العراقية عموماً والخارجية منها خصوصاً من الوقائع المحزنة والداكنة في تاريخ العراق الاقتصادي الحديث. فقد ظل الدين الحكومي على مدار العقود الاربعة الماضية بعيداً في توجهاته عن فلسفة الاقتراض من أجل الاستثمار في التنمية وتحقيق الازدهار الاقتصادي بحكم الظروف والعوامل السياسية القاهرة والاستثنائية.
ففي عقد الثمانينيات الماضي وابان الحرب مع إيران كان الاقتراض الخارجي مسخراً لتمويل آلة الحرب المهلكة وهو دين استهلاكي قاتل وبغيض (odious debt) رافقه اقتراض داخلي للغرض الإنفاقي الاستهلاكي نفسه. فقد قدرت سكرتارية نادي باريس في العام 2004 دين العراق الخارجي لمرحلة ما قبل ١٩٩٠ بحوالي ١٢٨ مليار دولار والذي تقرر حينها شطب 80% منه بموجب اتفاقية نادي باريس.
تلك الاتفاقية استندت على قرار مجلس الامن 1483 في أيار/مايس 2003 بشأن تسوية المديونية الخارجية للعراق ازاء دائنيه. إذ تراكمت ديون قبل العام ١٩٩٠ جراء توقف السداد والعجز عن الدفع وتطبيق شروط اتفاقيات الدين الموقعة رسمياً مع مختلف الدائنين سواء السيادية منها والتي تعود لمجموعة دول نادي باريس التسعة عشر أو للدائنين الرسميين من مجموعة الدول الـ ٥٤ دولة الدائنة للعراق من خارج مجموعة نادي باريس، فضلاً عن آلاف الدائنين التجاريين. إن ما أظهرته اتفاقات الدين الثنائية مع الاطراف الدائنة قد اشرت إلى اقرارات بدفع الفوائد المتراكمة سواء على صعيد أصل الدين أو قبول الفائدة التأخيرية PDI وحسب نصوص التعاقد على الدين والموقع أغلبها رسميا مع الاطراف الدائنة في ثمانينيات القرن الماضي.
وفي مرحلة حصار التسعينيات وفرض العقوبات الدولية على العراق والمترتبة جراء حرب الكويت وتبعات غزوها، فقد اتخذ موضوع الديون واعبائها مسارين مختلفين. الاول، ظل الاقتراض الداخلي يسير بكثافة لمصلحة الانفاق العام ضمن الادوات النقودية وممارسة لعبة تمويل عجز الموازنة بالتمويل التضخمي، أو لعبة تنقيد الدين العام debt monetization game ذلك لتوفير استدامة للواقع الهش في موازنات مرحلة الحصار الاقتصادي والسعي وقتها لتشغيل ماكنة النظام الاقتصادية.
إذ جرى مصادرة الدخل الحقيقي للفرد العراقي عن طريق استخدام ما يسمى (مبدأ المصادرة التلقائية لمدخرات الافراد وفوائضهم المحتملة وامتصاصها مقدماً بموجات التضخم والتوقعات التضخمية التي يولدها الانفاق العام الممول بالإصدار النقدي أو بالتضخم). وهي آلية استلاب تلقائية تقوم على ديمومة استبدال ادوات الدين الحكومي (حوالات الخزينة السنوية) الصادرة عن وزارة المالية بالنقد المصدر لتقبل تلقائياً في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي. ومن ثم اعتمادها كأصول رديئة غير قابلة للإطفاء وقت ذاك في تكوين القاعدة النقدية.
أما المسار الثاني، ويتمثل بتنفيذ الاتفاق مع الامم المتحدة، بعد ان سخرت المنظمة الدولية ثلث عوائد النفط العراقي المصدر عبر مذكرة التفاهم أو برنامج (النفط مقابل الغذاء والدواء) وتم بدء العمل في تلك المذكرة الانقاذية في العام ١٩٩٦، ذلك لدفع (التعويضات الخارجية) إلى متضرري حرب الكويت من خلال صندوق الامم المتحدة للتعويضات UNCC وبمختلف مشاربهم ودولهم ومؤسساتهم التي ظلت ال تعد وال تحصى وبمبلغ تعويضات زاد على 52 مليار دولار. علماً ان التعويضات هي ليست ديون وإنما جزاءات فرضت بقرارات اممية بما فيها تغطية تكاليف فرق التفتيش وتستوفى جمعها من عوائد مذكرة التفاهم النفطية.
ظلت المنظمة الدولية تحتفظ بعوائد النفط العراقي في حساب باسم الامين العام للأمم المتحدة ضمن ترتيبات الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية.
ولم يبق حالياً من مبالغ تلك التعويضات الكويتية سوى مبلغ هو أقل من 3 مليارات دولار. حيث بدأت المرحلة الجديدة الاخرى في حياة العراق الاقتصادية وتطور مديونيته منذ مطلع الالفية الثالثة وتحديدا مرحلة التحول السياسي الكبير في العام ٢٠٠٣ وحتى الوقت الحاضر، فلم يلجأ العراق إلى أي اقتراضات ذات أهمية تذكر. الا ان تعرض بلادنا فجأةً، بعد انتهاء عقد زمني من التحول السياسي، إلى أزمتين خانقتين (أمنية ومالية) في العام ٢٠١٤ امتدتا حتى العام ٢٠١٧ قد أطلق عجلة القروض التشغيلية لتأخذ مدياتها مجدداً. إذ ذهب جل الاقتراضين الداخلي والخارجي هذه المرة إلى دعم الموازنة التشغيلية بما يؤمن استدامة مدفوعات الموازنة الجارية ولاسيما من الرواتب والاجور وغيرها من الالتزامات فضلاً عن تطمين جبهة الحرب ضد الارهاب بعد ان تراجعت اسعار النفط الخام من ٨٠ دولار للبرميل إلى أقل من ٣٠ دولار للبرميل الواحد. وإذا ما أخذنا كلفة انتاج النفط الخام الذي تتولى خدماته شركات النفط العالمية IOCs فإن صافي عائد البرميل من النفط الخام المصدر ستكون ٢٠ دولار آنذاك، وان الرواتب والاجور والتقاعدات صممت على برميل نفط عائده ال يقل عن ٨٠ دولار.
وهكذا جاء الدين الخارجي هذه المرة مرتبطا بشكل أساس بمشتريات السالح والتجهيز وإعادة بناء القوات المسلحة لمواجهة الارهاب الداعشي، وهو توجه يمتلك في نهاياته طبيعة استهلاكية عالية في تشغيل ماكنة الحرب وأدواتها والتي تطلبتها أولويات تحرير الارض.
ويلاحظ أن نصف الديون الخارجية التي ولدتها الازمتين المذكورتين (المالية والأمنية) بعد العام ٢٠١٤ (ولاسيما القروض الخارجية المقدمة من الدول السبعة الكبار التي استندت على التعهدات التي قطعتها تلك الدول في بيان طوكيو في شهر أيار/مايس ٢٠١٦ لدعم العراق بحربه ضد الارهاب، فضلاً عن الائتمانات المقدمة من المؤسسات المالية الدولية المتعددة الاطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي بلغ مجموعها إلى اليوم بنحو 12 مليار دولار ونيف) قد انصرف أكثر من نصفه أو ربما غالبيته على دعم الموازنة التشغيلية بين الاعوام 2017-2015.
وتأسيساً على ما تقدم، فإن تاريخ المديونية العراقية وعبر عقود متعددة ومختلفة من الزمن قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنفاق الاستهلاكي الحكومي جراء الحروب والصراعات والحصارات والازمات والفساد بنسبة بلغت 90%، وان اعباء الديون الاستهلاكية ربما عادلها في الجانب الاخر من الدين، ولو بشكل محدود، ارتباط تمويل بعضه بمشاريع التنمية المدرة للدخل. ولكن ظلت المشاريع المنفذة بالقروض هي الاخرى هامشية الأثر في دفع النمو الاقتصادي للبلاد واحداث تحول اقتصادي يعتد به.
وهكذا وعلى مدى اربعة عقود من عمر العراق الاقتصادي لم تشكل الديون التنموية المرتبطة بمشاريع الدولة الاستثمارية سوى ١٠٪ من اجمالي الديون السيادية العراقية. إذ ظلت موارد النفط العراقي تعمل كرافعة تسديد مالية مستدامة في خدمة الديون الاستهلاكية غير المنتجة، لتسجل البلاد بعدها ايضاً اربعة عقود متتالية من التنمية الضائعة. فعلى سبيل المثال، بلغت نفقات المنح والمساعدات الدولية والقروض الميسرة (أو التي يمثل عنصر المنحة فيها grant element نسبة عالية) والتي صرفت على قطاع الاستثمار والبنية التحتية العراقية بين الاعوام 2013-2003 بنحو 94 مليار دولار. وشارك العراق من جانبه بصرف 126 مليار دولار، أي ان اجمالي المصروفات الفعلية على قطاع الاستثمار الحكومي خلال السنوات العشر آنفاً بلغ 220 مليار دولار! والنتيجة هي ان البلاد ظلت وما زالت بحاجة إلى أكثر من 8000 بناية مدرسية وان هناك 3,5 مليون انسان يعيش في عشوائيات حول المدن عديمة الخدمات (وتفتقر إلى شبكات الصرف الصحي والمياه وخدمات نفاذ القانون) حتى أمسى جميعنا يتمتع بأشلاء متهالكة من البنية التحتية.
وعلى الرغم مما تقدم، فإن حالة الاقتصاد الكلي للعراق، سواء المرئية أو الكامنة، مازالت تظهر استدامة في قوة البلاد المالية والاقتصادية، تؤازرها تدفقات نقدية اجنبية ملائمة للسداد والقدرة على ادامة خدمة الديون وتحملها، ما جعلت اجمالي الديون الحالية للعراق (الداخلية والخارجية) كنسبة إلى الناتج المحلي الاجمالي لا تتعدى 49,7% وبواقع 115 مليار دولار وعلى وفق ما هو مؤشر في جداول المديونية في العام 2019 وستنخفض تلك النسبة إلى 48,6% في العام 2020 على الرغم من ارتفاع تلك الديون قليلاً (بالقيمة المطلقة) وحسب التوقعات بسبب ظروف تمويل الموازنة العامة الاتحادية 2020 والعجز المتوقع فيها، إذا سيساعد ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي (من 235 مليار دولار في عام 2019 إلى 254 مليار دولار في عام 2020 ) في توفير وزن مؤثر سيقف وراء انخفاض النسبة المعيارية للديون العراقية في العام ٢٠٢٠. وعليه ستسير معدلات المديونية نحو الانخفاض باتجاه أو صوب الحدود الامنة لطاقة تحمل الدين أو الاقل خطراً debt sustainability فالمديونية العراقية مازالت آمنة وبعيدة حتى عن الدائرة القصوى للمعيار الدولي في تحديد نهايات مقبولة للدين كنسبة إلى الناتج المحلي وبنحوٍ لا يزيد على ٦٠٪.
ختاماً، سيتوافر للعراق ومنذ اليوم حيزاً مالياً fiscal space مناسباً يلامس بإشارته توقعات الدائنين الدوليين واسواق رأس المال بشكل ايجابي ليتاح ادارة الدين العام والايفاء بالتزامات خدماته بمستوى أكثر اطمئناناً.
اضف تعليق