ريتشارد كوزول رايت
جنيف ــ منذ اندلعت الأزمة المالية في عام 2008، أعرب صناع السياسات والمؤسسات الدولية بانتظام عن اتساع فجوة التفاوت والآثار السياسة غير المرغوبة المترتبة على ذلك. وهم في أغلب الأحيان يعزون المشكلة إلى عوامل "خارجية المنشأ" مثل التجارة العالمية والتكنولوجيات الجديدة.
ولكن في حين كثف صناع السياسات تركيزهم على التجارة والتكنولوجيات الجديدة، فقد غفلوا عن محرك أكثر قوة للتفاوت: السعي المستوطن إلى جمع الريع والذي ينبع من تركيز السوق، وتعاظم قوة الشركات، والاستيلاء التنظيمي.
الريع في تعريفه العريض يعني الدخل المتأتي حصرا من ملكية الأصول والسيطرة عليها، وليس من عمليات النشر المبدعة التي تتسم بروح المغامرة للموارد الاقتصادية. عندما توقع رجل الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز "القتل الرحيم للباحثين عن الريع" في كتابه الصادر عام 1936 بعنوان النظرية العامة لتشغيل العمالة، والفائدة، والمال، كان يشير إلى طبقة مالية لم تخدم أي غرض سوى استغلال رأس المال النادر لصالحها. ولكن على مدار العقود الثلاثة المنصرمة، تمكن الباحثون عن الريع المالي من الانتقام. فمن خلال إنشاء الائتمان الخاص والخيمياء المالية، كدسوا مكاسب ضخمة لا تتناسب مطلقا مع العائد الاجتماعي المترتب على أنشطتهم.
وعلاوة على ذلك، في عصرنا الذي يتسم بالعولمة المفرطة، نشأت أيضا شركات غير مالية ضخمة كطبقة من الباحثين عن الريع. ونظرا لقوة سوقهم الكبيرة وبراعتهم في ممارسة الضغوط، أصبحوا يشاركون بشكل منتظم الآن في ذلك النوع من أنشطة جمع الريع التي كانت ذات يوم تقتصر بالكامل على الصناعة المالية. ونتيجة لهذا، أصبحت الشركات غير المالية الضخمة مصدرا متغلغلا لاتساع فجوة التفاوت في الدخل.
دخلت الشركات غير المالية لعبة البحث عن الريع من خلال عدد من القنوات. وقد انتهكت منهجيا قوانين الملكية الفكرية لتحقيق هدف الهيمنة على السوق، بدلا من حماية الإبداعات الحقيقية. وقد نهبت موارد القطاع العام من خلال مخططات الخصخصة الواسعة النطاق، وعن طريق تأمين إعانات الدعم العامة التي نادرا ما تلزمها بتسليم الفوائد لدافعي الضرائب. كما انخرطت في التلاعب بالأسواق على نطاق واسع، من خلال تحويل أنفسها إلى جُباة للديون، واستخدام إعادة شراء الأسهم لتعزيز مكافأة المسؤولين التنفيذيين، وما إلى ذلك.
بالإضافة إلى النطاق الضخم الذي تتسم به مخططات البحث عن الريع المعمول بها اليوم، يتسبب تراخي متطلبات الإبلاغ المفروضة على الشركات في مختلف أنحاء العالَم في جعل تقدير حجم المشكلة أمرا بالغ الصعوبة. ويركز قدر كبير من الأبحاث القائمة على اقتصاد الولايات المتحدة، حيث تناولت بعض الدراسات قياس نمو القوة السوقية التي تتمتع به الشركات المهيمنة من خلال الاتجاه الصاعد الحاد في الأسعار؛ وتولت دراسات أخرى اختبار الدور الذي تلعبه تكنولوجيات المعلومات المتكاثرة في تراكم "الثروة الفائضة".
في إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، تنظر أبحاثنا إلى ما هو أبعد من حدود الاقتصاد الأميركي، اعتمادا على قاعدة بيانات منشأة حديثا للشركات المتداولة علنا في 56 دولة متقدمة ونامية. وقد استخدمنا هذه البيانات لتقدير مدى تجاوز أرباح الشركات الضخمة غير المالية لأداء الأرباح القطاعية السنوية النمطية منذ عام 1995. وقد وجدنا أن الأرباح الفائضة ارتفعت بشكل ملحوظ على مدار العقدين المنصرمين، من 4% من مجموع الأرباح في الفترة 1995-2000 إلى 23% في الفترة 2009-2015. وفي أفضل 100 شركة ارتفعت هذه النسبة من 16% إلى 40% في المتوسط.
كما تؤكد نفس قاعدة البيانات المتعددة البلدان أن تركيز السوق ارتفع بشكل ملحوظ على مدار العقدين المنصرمين، وخاصة بين أفضل 100 شركة. والواقع أن أوجه التفاوت الكبيرة بين الشركات أصبحت سمة أساسية من سمات عصر الشركات الباحثة عن الريع. في عام 2015، كانت القيمة الرأسمالية السوقية المجمعة لأفضل 100 شركة (القيمة الإجمالية لأسهم الشركة القائمة) أكبر بنحو 7000 ضعف نظيرتها لدى أسوأ 2000 شركة أداء. وقبل عشرين عاما كان المعدل 31 ضعفا فقط.
ما يزيد الأمور سوءا أن هذا الاتجاه لم يمتد إلى تشغيل العمالة. ففي الفترة من 1995 إلى 2015، زادت أكبر 100 شركة رأسمالها السوقي إلى أربعة أضعاف، ولكنها حتى لم تضاعف نصيبها في العمالة. ويعني هذا ضمنا أن تركيز السوق واستخراج الشركات للريع يغذي كل منهما الآخر. والنتيجة هي بيئة السوق حيث "يستحوذ الفائز على كل شيء" والتي تلحق الضرر الشديد بالشركات البادئة، والإبداع في مجال ريادة الأعمال، والإنشاء المستمر للوظائف العالية الجودة.
ولنتأمل هنا على سبيل المثال انتشار صلاحيات حماية براءات الاختراع الواسعة النطاق من خلال الاتفاقيات التجارية والاستثمارية الثنائية والمتعددة الأطراف. امتدت هذه الصلاحيات لتشمل أنشطة جديدة لم تكن تُعَد سابقا من مجالات الإبداع التكنولوجي، مثل أساليب التمويل ومزاولة الأعمال. ونتيجة لهذا، نجحت شركات التكنولوجيا العملاقة بشكل خاص في تحقيق مستوى جديد من الاستحواذ التنظيمي، الأمر الذي سمح لها بالحد من حرية التعبير عندما يخدم ذلك مصالحها، والتوسع إلى أسواق أخرى غير أسواق التكنولوجيا الفائقة، وتشكيل أجندات السياسة العامة الناشئة، مثل الشمول المالي والتجارة الإلكترونية.
لم يفت الأوان بعد لوقف الاتجاه نحو رأسمالية الريع. الواقع أن العوامل "الداخلية المنشأ"، التي تسهم في الاستيلاء التنظيمي وبحث الشركات عن الريع على نطاق واسع، يمكن التصدي لها من خلال تشريعات مكافحة الاحتكار القوية، والسياسات الكفيلة بتمكين العمالة المنظمة، وتنقيح الاتفاقيات التجارية القائمة، وتحسين عمليات الرصد لتسعير التحويلات والتهرب الضريبي على المستوى الدولي. وقد بدأ بعض صناع السياسات بالفعل اتخاذ الإجراءات على هذه الجبهات. ولكن النجاح يتطلب جهودا أكثر تضافرا. وقد آن الأوان لإرغام الشركات الكبرى على العودة إلى الاستثمار المنتج وخلق فرص العمل.
اضف تعليق