الاعتقاد بخالق للكون باعتباره العلّة العليا عند الالهيين لا يعني تجاهل العلل الطبيعية، وانكار الروابط المادية بينها وبين معاليلها ليكون انكشاف العلل والروابط في ضوء العلم سبباً لتزعزع الاعتقاد بوجود الله وانحساره. ونسبة هذا الامر الى الالهيين محض كذب وافتراء، وعين الظلم والجفاء، وأي ظلم اشد...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
2 - نظرية الجهل بالعمل الطبيعية
لقد عمد بعض الماديين في تعليل نشوء الاعتقاد بوجود الله الى فرضية اخرى وهي: ان الانسان البدائي عندما واجه الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول والكسوف والخسوف، التي تحيط به ولم يعرف عللها الطبيعية الواقعية لجأ لجهله الى اختراع فاعل لها واعتبره العلة الوحيدة لكل شيء مباشرة، وكلما تكامل فكرياً، واستطاع من خلال اكتشافاته وتحليلاته ان يقف على السبب الطبيعي المادي لكل حادثة، اسند كل ظاهرة الى عاملها الطبيعي الحقيقي وتخلى عن اسنادها الى تلك «القوة الوحيدة» وهكذا كان الاعتقاد بوجود الله وليد الجهل بأسباب الحوادث الكونية الطبيعية.
وفي هذا قال ويل ديورانت: «تعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية منها الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الأحداث التي ليس في مقدور الانسان فهمها» (1).
وقال بعض علماء الاجتماع: أن العلم وان وقف على جملة من علل الحوادث الا انه لازالت هناك حوادث لم تقع في اطار هذا العلم، ولازالت تعاني من الابهام والغموض وهذا هو الذي سبب نشوء العقيدة الدينية.
ولو أردنا أن نشرح هذه الفرضية ـ كما شرحها بعض الماركسيين ـ لقلنا بأن الانسان المادي عندما كان يرى نزول المطر، وقطع الثلج بأشكالها الهندسية المسدسة، وكان يسمع الرعد ويرى البرق ويتعرض للملاريا التي كانت تهاجمه بين الفينة والأخرى، ولم يعرف أسبابها الطبيعية ـ التي كشف عنها العلم فيما بعد ـ عمد الى افتعال علة لها من لدن نفسه، وأسند اليها جميع تلك الطوارئ المجهولة العلل.
ومن هنا نجد بعض الماديين ينادي بتنافي العلم والدين بعد أن ذهبوا الى التحليل المذكور لان «العلم» عندهم يسند الأمور الى عللها الطبيعية، ويكشف عن العلاقات المادية بين الظواهر الطبيعية ومناشئها، بينما يسند «الدين» كل تلك الظواهر والحوادث الى علة واحدة يقيمها مكان جميع العلل الواقعية.
ولهذا أيضاً ذهبوا الى أن تقدم العلوم ونجاحها في كشف الموضوعات الطبيعية، والسنن المحاكمة في الكون يزعزع مكانة الدين، ويوجب انحسار الاعتقاد بالخالق، وتراجعه الى زاوية النسيان.
قيمة هذا التحليل
ان هذا التحليل يواجه ثلاثة مؤاخذات هي:
اولا): أن ما يؤخذ على هذه الفرضية هو عين ما أخذ على سابقتها وهو ان افتعال مثل هذه الفروض والاحتمالات وارتكاب مثل هذه التعليلات والتفسيرات انما يصح في الأمور والعادات التي لم يكن لها علة واقعية ـ روحية او منطقية ـ عند ابناء البشر.
واما عندما يكون للعادة أو الحالة سبب واضح ـ كما هو الحال في مسألة الاعتقاد بالله ـ فلا مجال لمثل هذه التعليلات، بل هي حينئذ تكون ضرباً من الخيال الذي تأباه العقول السليمة، ويرفضه المنطق السوي.
ثانياً): ان هذا التحليل ينم عن جهل صاحبه باعتقاد الالهيین ومنطقهم على اختلاف مسالكهم ومشاربهم.
فان الاعتقاد بخالق للكون باعتباره العلّة العليا ـ عند الالهيين ـ لا يعني تجاهل العلل الطبيعية، وانكار الروابط المادية بينها وبين معالیلها ليكون انكشاف العلل والروابط في ضوء العلم سبباً لتزعزع الاعتقاد بوجود الله وانحساره.
ونسبة هذا الامر الى الالهيين محض كذب وافتراء، وعين الظلم والجفاء، وأي ظلم اشد من أن ننسب الى طائفة كبرى من البشر ما لا يقولون به، بل وما هم بريئون منه، فان الاعتقاد بالله ليس ـ عندهم ـ بمعنى انكار العلل، بل هو بمعنى انهم يعتقدون بأن النظام العلّي السببي السائد في الكون، يرجع في مآله الى قوة عليا، وينتهي الى مبدأ اعلى هو علة العلل، وهو مسبب الاسباب وهو موجد ذلك النظام العلّي، فالإنسان اذا أطل على هذا الكون، وشاهد ما فيه من انظمة بسيطة وأخرى معقدة تنتظم ظواهر الطبيعة، وتسير على وفقها جميع الحوادث بانتظام، ودون فوضى أو عبثية جرته هذا النظرة الفاحصة، الى الاعتقاد بقوة مدبرة منظمة خالقة وراء هذا الكون العظيم، ونظامه البديع، هو الذي أوجد الكون، وأرسى فيه السنن.
الاعتقاد بذلك الخالق القادر المدبر وليد الاعتقاد بالنظام السببي العلّي، والايمان بالعلل الطبيعية لا انكارها وتجاهلها كما زعم أو توهم اصحاب هذه الفرضية من الماديين، واتهموا به الالهيين.
وبعبارة أخرى ان الالهي لا يثبت وجود الله عند عدم العلم بعلل الحوادث وعند المبهمات والغوامض بل يعتقد به عندما يقف على النظم الكونية السائدة، والامور الواضحة السياق، البينة النظام، فطريقه الى الاذعان والايمان بوجوده هو ما يشاهده من التنسيق والانسجام، والترابط والنظام، لا ما قد يصادفه من الفوضى والعشوائية.
نعم أن المشتغل بدراسة الطبيعة المهتم بعالم الأحياء كلما ازداد علماً بأسرار الكون، ووعياً وادراكاً لقوانينه ازداد ایماناً ویقیناً بوجود الخالق، الموجد لتلك القوانين، الخالق لتلك السنن، فتقدم العلم والادراك والاكتشاف يخدم هذا الاعتقاد لا انه يهدده أو يزعزعه لانه كان ولا يزال الطريق المنطقى الى هذا الايمان.
ولهذا فليس الالهي هو من يبحث عن وجود الاله في ما يجهل علله وأسبابه، وهو الذي لم يزل ـ منذ اول الهي والى الان ـ يستدل على وجود الخالق المدبر بالأنظمة السائدة في الكون من دقيقها الى جليلها، فكيف يعزى اليه انه يثبت وجود الله ويعتقد به بما يجهل فيه الاسباب والعلل الطبيعية من الظواهر الكونية.
ويكفي لمعرفة هذه الحقيقة والتأكد منها الرجوع الى منطق الالهيين واستدلالهم منذ أقدم العصور الى الان فهذا سقراط يستدل في محاورته مع اريستودیم بالنظام على وجود الخالق:
سقراط: الا ترى (یا اریستودیم) ان من دلائل التدبير والحكمة أن تمتّع العين ـ وهي ضعيفة ـ بجفون تنفتح وتنغلق عند الحاجة وتنطبق عند النّوم طول الليل، وأن توهب تلك العين غربالا من اهداب لتقيها فعل الرياح الثائرة، وأن تمنح لها تلك الحواجب كمیزاب يمنع عنها غوائل العرق المتساقط من الرأس، وأن تصنع الاذن على صورة لا تكل عن سماع الأصوات ولا يعتاض الحس بها، وان تعطى جميع الحيوانات اسناناً امامية لقطع الأغذية، واضراساً جانبية لسحقها، وأن يكون الفم الذي تدخل منه الحيوانات الأغذية الصالحة لها الى اجوافها موضوعاً قريباً من العينين والمناخير.
أترى نفسك بازاء كل هذه الاعمال التي تدل على تدبير وحكمة، لا تزال متردداً بين عزوها إلى الصدفة والاتفاق، وبين اسنادها للحكمة والعلم.؟
قال اريستودیم: لا والاله فان اقل نظر في الكائنات الحية يدلنا على ان هنالك ذات عالم رحیم خلقها وعدّ لها (2).
بل ونجد الكتاب العزيز يستدل على وجوده سبحانه بالنظم السائدة في شتى مجالات الطبيعة اذ يقول:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ (الطور/35 ـ 36)
ويقول:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) (الروم 2۰ ـ 25)
وأنت ترى كيف أن هذه الآيات جعلت النظام السائد في الكون ـ الذي يوقف الانسان على الانسجام والترابط والنظام ـ دليلا على وجود منظم لهذا الكون، وليست «الآية» في هذه الآيات الا بمعنى «العلامة» فهي علامات على دخالة الشعور والعقل في ابتداع هذا النظام.
ولو أنك لاحظت كل ما ألفه الالهيون منذ أقدم القرون، ودبجته أقلامهم حول اثبات الصانع لرأيت بأم عينيك كيف يجمعون على الاستدلال للخالق بوجود النظام لا بالجهل بالأسباب والعلل حتى ان المهاجر وخوارق العادة التي تظهر على أيدي نخبة من البشر ليست ـ في منطقهم ـ مما تخلو من علة بالمرة بل لا تستند إلى علل عادية (3).
ثالثاً): ان هذه الفرضية تقوم على أساس أن البشر كان يعرف، بل ويعتقد بقانون العلية، وهذا هو يعني ان الانسان البدائي لما كان يجهل العلل الواقعية للظواهر الطبيعية آل به هذا الاعتقاد الى اختراع فكرة «خالق الكون» واحلالها محل العلل الطبيعية التي كان يجعلها، حتى يرضى وجدانه الذي يلح عليه بنسبة كل ظاهرة الى علة.
فلو كان البشر البدائي مدركاً ـ بهذه المنزلة ـ لقانون العلية فلم لا يكون اعتقاده بالله، ناشئاً عن اذعانه بأن النظام الرائع السائد في الكون الذي لا ينفك عن تأثير بعض أجزائه في بعض، وانسجام بعضه مع بعض، قد وجد بفعل قوّة عالمة، وعارفة بالسنن والقوانين الكونية اللازمة.
نعم ربما يوجد بين بعض البسطاء السذج من المؤمنين بالله من أقام أو يقيم «القوة العليا» مقام العلل الطبيعية غير أن تفسير «الاتجاه الديني» الذي شمل العالم البشري طيلة قرون مديدة، وسار في ركبه ملايين البشر، وآلاف الالاف من العظماء والنوابغ من المفكرين، بمثل هذه الامور الصادرة عن بعض السذج والبسطاء، في غاية السخافة ومنتهى الظلم.
ولأجل ذلك سيوافيك ـ في بعض الفصول القادمة ـ ان الالهي لا يبحث عن الله، ولا يثبته من خلال المجهولات أو الحالات الاستثنائية الشاذة عن النظام وانما يطلبه ويتوصل اليه ويثبته من خلال الامور المنتظمة التي لا يمكن أن تفسّر الا في اطار العلم والعقل.
القرآن ونظرية الجهل
والعجب من أصحاب هذه النظرية أنهم يفترون على رجال الوحي الكذب فيدّعون بان الجهل بالعلل الطبيعية الحقيقية هو أساس دعوتهم إلى الله، وانهم لأجل عدم وقوفهم عليها صوروا لها «علة واحدة» أسموها بالله مع ان القرآن الكريم يحارب الجهل أشد المحاربة ويمنع أتباعه من الاعتقاد بشيء بدون علم.
يقول سبحانه: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الاسراء ـ 3۹)
بل ولا يكتفي بهذا القدر، فهو يستدل على وجوده سبحانه بالنظام السائد في الطبيعة والكون، ويطلب من المؤمنين النظر في الطبيعة واستجلاء أسرارها وفهم قوانينها اذ يقول:
﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ (الغاشية 17 ـ 20)
ويعود ليدعو المؤمنين ـ في آيات اخرى ـ الى النظر في آيات وجوده ووحدانيته في الأرض والسماء اذ يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران 190 ـ 191)
فكيف يجز لأصحاب هذه النظرية ـ والحال هذه ـ آن يفتروا على أصحاب الرسالات الالهية بان عدوتهم الى الله سبحانه لم يكن الّا بسبب جهلهم بالعلل الطبيعية، والاسباب الواقعية للظواهر الكونية.
وما ذكرناه من الآيات ما هو سوى نماذج قليلة من الايات البارزة حول هذه الحقيقة.
ثم ان القرآن يصرّح بأن العلماء السم الذين يخشون الله دون غير هم اذ يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر ـ 28)
وللوقوف على مدلول الآية بصورة كاملة نقول: أن هناك ثلاثة مفاهيم: الجبن، الخشية، والخوف، والذي يقصده سبحانه في الآية هو الخشية والخوف منه سبحانه لا الجبن الذي هو في مقابل الشجاعة.
فان الجبن أمر مذموم لأنها حالة تسيطر على الانسان لأجل تجنبه للأمور المرعبة غير الواقعية كالخوف من الغول، أو الظلمة الموجودة في قبو مع العلم بعدم وجود ما يخيف حقيقة.
وأما الخشية فهي عبارة عن احساس الإنسان بالعظمة الالهية التي تملأ الصدور والنفوس مهابة عند مشاهدة عظيم خلقه، وجليل فعله.
وهذا الأمر مسبّب عن علم الانسان بالعظمة الالهية لا جهله، ووعيه، لا توهمه، وتخيّله.
وأما الخوف منه سبحانه فلأجل ان الانسان العاقل يخاف في قرارة نفسه أن لا يقوم بما عليه من وظائف العبودية تجاه ذلك الرب العظيم.
فالمراد في هذه الآية اذن هو الخشية والخوف منه سبحانه الناشئين مما ذكر، لا الجبن الذي يقابل الشجاعة، ويضاددها.
على هامش فرضيتي الخوف والجهل
تلخصت الفرضيتان المذكورتان في الق الانسان اخترع فكرة «الاله الأعلى» وعكف على عبادته وذهب الى تقديسه تحت دافع الخوف وعامل الجهل، ولقد عرفت ما يرد عليهما من اشكالات.
ونعود هنا لندرس هاتين الفرضيتين من غير الزاوية التي درسناها سابقاً فنقول: ان هاتين الفرضيتين لا يمكن الركون اليهما لعدّة أسباب، مضافاً الى ما ذكرناه في البحث السابق:
اولا: لو كانت فكرة الاله وعبادته والخضوع له والاثار في سبيله والاعتقاد بالمسؤولية تجاهه من ولائد الجهل البشري بالأسباب الطبيعية والخوف من الحوادث الكونية المرعبة فلماذا نجد هي الفكرة قائمة حتى في المجتمعات الحاضرة رغم انتفاء دواعيها من الجهل والخوف، حيث لا جهل بسبب ما اكتشفته العلوم من العلل الطبيعية، ولا خوف بسبب تغلب الانسان الحديث على أكثر حوادث الطبيعة، وتمكنه من تجنب أضرارها وأخطارها.
فما الذي يفسّر بقاء فكرة «الاله المعبود المقدّس» بين المجتمعات الحاضرة، والاحساس بالمسؤولية تجاهه والسعي لتحصيل رضاه، وما يلحق كل ذلك من الاعتقادات والممارسات العملية الدينية وقد زال الجهل والخوف؟
اليس بقاء هذا الامر ـ مع زوال ما قيل عن علته ـ يعدّ دليلا واضحاً وبرهاناً ساطعاً على أن هناك عاملا آخر، غير عامل الجهل والخوف، وراء نشأة فكرة «الاله المعبود» هو الذي دفع الذهن الانساني الى الالتزام بهذه الفكرة والمعتقد الى اليوم؟
ولو قيل: صحيح أن العلماء والمفكرين في هذا العصر تغلبوا على الطبيعة وكبحوا جماحها، وعرفوا اسرارها وعللها وتحرروا من الجهل والخوف، ولكنهم ورثوا فكرة «الاله المعبود» من آبائهم وأسلافهم، ولم يستطيعوا التخلص منها والتحرر من رواسبها.
فإننا نقول: وهل هذا الا ازدراء بمثل هؤلاء العلماء والمفكرين، واحتقار لشأنهم، وتجاهل لما هم عليه من سداد الفكر، ورشادة العقل، وقوة التحليل التي تأبى التقليد الأعمى، وترفض التبعية الجاهلة.
هذا مضافاً إلى ما يرد على هذا الرأي من اشكالات سوف نذكرها عند مناقشة نظرية توارث العقيدة قريباً.
ثانياً: لو كانت علة نشوء العقيدة الدينية في النفوس هي الجهل والخوف من دون دخالة أي عامل عقلاني وفكري لوجب أن يكون مثل هذا الاعتقاد سارياً بين جميع دواب الأرض وحيواناتها، وان يصدر من الحيوانات كل ما يصدر عن الانسان المعتقد المتدين من عبادة الله، والايثار في سبيله والاحساس بالمسؤولية تجاهه مع ان البداهة تقضي ببطلان هذا الامر (4).
فاذن لابد أن يكون هناك عامل آخر ينضم إلى ما ذكروه من الجهل والخوف حتى ينشأ عنه مثل هذه العقيدة في الأذهان والنفوس الانسانية، اذ لا يمكن ان يكون الجهل والخوف البسيطان مبعثين لمثل هذا الاعتقاد العام، ومنشأين لهذه الحركة العظيمة، ومنبعين لهذه العقيدة الشاملة الخالدة، السائدة في جميع ادوار التاريخ والى اليوم الحاضر.
فلابد أن نقول ـ عندئذ ـ ان الانسان عندما وقف على جهله بأسباب الحوادث صار ذلك موجباً لتحرك قواه العقلية باتجاه البحث عن سببها، فتصورت «سبباً» لها، بغض النظر عما اذا كان الذي توصلت اليه وتصورته من «السبب» صحيحاً أو خطأ.
المهم أن الجهل لم يكن وراء ابتداع فكرة الاله بل كان ارضية مساعدة لان ينشط العقل البشري ويتحرك باتجاه كشف الأسباب.
وهكذا الحال في الخوف فان الانسان عندما واجه إحداث الطبيعة المخيفة صار ذلك الخوف موجباً لان يبحث بعقله عن ركن وثيق يدفع عنه الخوف.
فلم يكن الخوف بما هو سبباً لنشأة العقيدة الدينية بل كان ارضية صالحة لتحرك القوة العقلية باتجاه البحث والتفتيش عن ملجأ طبيعي يسكن الانسان في كنفه.
فنستنتج من ذلك ان الاعتقاد بالله الخالق انما هو نتيجة تحرك القوة العاقلة ودخالتها، وتحريها الطبيعي للأسباب والعلل، لأن العقل الإنساني لم يفتأ يتساءل ـ كلما واجه حدثاً ـ عن علته وسببه، فكان مواجهته للحوادث الطبيعية الرهيبة وما تولد منها من الجهل والخوف سبباً لان يستيقظ العقل ويلتفت ويوسع دائرة تساؤلاته وينتقل من السؤال عن علة الاشياء الصغيرة الجزئية، إلى السؤال عن علة النظام الكوني الكلي، وما يقع في اطاره من أحداث جسام وحوادث كبری.
من هنا يتضح أن منشأ ظهور العقيدة الدينية ليس هو السبب البعيد (أي الجهل والخوف) بل ان ذلك صار سبباً لتدخل «القوة العاقلة» في المقام، وبدخالة هذه القوة وتحريها وتحليلها نشأت العقيدة، وراح الانسان يعتقد بخالق لهذا الكون ومبدع لنظامه العظيم.
فالدور الأساسي ـ هنا ـ انما هو للعقل والوعي لا للجهل والخوف.
ويمكن بيان ذلك بنحو آخر وهو ان الانسان خاف من الحوادث فصار خوفه ذلك موجباً لتفكره، ولتفتيشه عما يرفع آثار هذا الخوف فانتهى إلى فكرة الاله الخالق وراء هذه الحوادث وانه هو الرافع لهذه الاثار المرعبة.
فبزوغ هذه الفكرة والعقيدة يرجع إلى التفكر وان كان الخوف ارضية مناسبة التحرك الفكر ومن ثم الوقوف على هذه الفكرة.
وهكذا بالنسبة الى الجهل فان الانسان جهل اسباب الحوادث، ولاشك أن الجهل وحده امر لا حركة فيه فلا تنبثق منه أية عقيدة وانما دفع هذا الجهل القوة الفكرية لدى الانسان الى امور هي:
1: إنه لابد لكل ظاهرة من علة، ولا يمكن حدوث الظاهرة بلا علة.
2: حصلت ـ حينذاك ـ فكرة اخرى وهي أن هناك قوة كبرى هي العلة.
3: بزغت العقيدة الدينية وما تستتبعه من مفاهيم.
فلو سأل سائل: هل الاصل لنشوء هذه العقيدة هو دخالة القوة العاقلة المفكرة ام نفس الجهل أو الخوف المجردين من كل شيء؟ كان الجواب هو الاول، نعم غاية الأمر هو أن العقل (حسب زعم المادي) قد اخطأ في اصابة الهدف الصحيح وتشخيص العلل الحقيقية الواقعية وهذا امر آخر غير نسبة الاعتقاد بالإله إلى عامل الخوف مباشرة.
وثالثاً: ان اصحاب هاتين الفرضيتين لم يميزوا بين الدافع للعقيدة، وبين ما يترتب على ذلك الدافع، في القيمة.
فلا يمكن أن تكون «الدوافع» لشيء و «ما يترتب عليها من الاثار والنتائج» ذات قيمة واحدة.
فقد يكون الدافع نحو الشيء امراً تافهاً لا قيمة له، بينما تكون النتائج والقضايا الحاصلة من ذلك الدافع ذات قيمة عالية جداً كما في المقام.
فعلاقة الإنسان بالثروة والشهرة هي التي تدفع الى الاكتشاف والاختراع، ومن المعلوم أن الدافع هنا أمر رخيص، ولكن الأثر الناتج عنه ذا قيمة عالية.
كما أن الحرب هي وراء أكثر الاكتشافات والاختراعات، والحال أنّ الحرب ـ كما نعلم ـ دافع رخيص، بينما يكون ما ينشأ على أثرها من التحولات العلمية والصناعية ذات قيمة عالية.
ولهذا لابد من الفرز والتفريق بين «الدافع» و«الآثار»، وعدم الخلط بينهما في تفسير ظاهرة من الظواهر.
ولنفترض ـ في المقام ـ ان الجهل والخوف هما اللذان دفعا الانسان الى التحري عن علل الحوادث، ثم نشأت العقيدة على أثر ذلك، الا أن كون «الدوافع» لنشأة العقيدة بلا قيمة لا يوجب أن تكون العقيدة ذاتها أمراً لا قيمة له، بل يجب أن توزن نفس العقيدة وينظر اليها ـ ذاتها ـ بعين التقييم، وانها هل هي مطابقة لمنطق العقل والبرهان أم لا، فلو كانت مطابقة وثابتة بالبرهان لم تضر تفاهة الدافع النشأة العقيدة وردائته بأهميتها (على فرض صحة ذلك الدافع)، وقد عرفت ان الدافع الى نشوء العقيدة أمران: الاول الفطرة الملهمة بأن هناك ملجأ للإنسان وراء الكون، والثاني هو الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام والاعتقاد بالخالق له.
يبقى أن نعرف أن كل ما ذكرناه في هذا المقام انما هو ـ بعد التسليم ـبصحة الفرضيتين، وقد عرفت ـ فيما سبق ـ بطلان هاتين الفرضيتين وأمثالهما من الأساس.
ونضيف هنا ما ذكرناه في البحث السابق وهو ان هؤلاء المحللين قد افترضوا أمراً من عند أنفسهم وهو «ان الاعتقاد بالله اعتقاد بأمر موهوم وباطل»، وبعد أن اعتبروا ذلك أمراً مسلماً لا نقاش فيه عمدوا إلى البحث عن أسباب نشوء هذا الامر الباطل الموهوم فنحتوا ما نحتوا، والحال أن هذا نفس المدعى، اذ لو لم يكن نفس الاعتقاد بوجود الله أمراً باطلا ـ في نظرهم ـ بل كان مما يدعمه الدليل الصحيح والبرهان الواضح لما نحتوا هذه الفرضيات لتفسير نشوئه فان الانسان العاقل لا يتحرى عن أسباب الاعتقاد بالمعادلة الحسابية التالية: 2 × 2 = 4 مثلا لان هذا الاعتقاد بهذه المعادلة يستند الى أمر واقعي.
فلامجال فيه لاختلاق أسباب، ونحت علل وفرضيات.
اضف تعليق