نتناقل في وسائل التواصل ومواقع الانترنت مقاطع مسجلة لعلماء وأدباء وخطباء ومؤرخين من غير الشيعة وهم يذكرون فضائل الامام علي، عليه السلام، ومنزلته ومقامه من رسول الله، صلى الله عليه وآله، فيمتدحونه وفق أحاديث مسنودة لديهم، ومنها حديث الغدير، بيد أن المديح والإطراء يقيدونه بالعاطفة ولا يسمحون بالاقتراب من العقيدة ليأخذ طريقه الى اتخاذ الموقف الصحيح، لذا يكون المقطع المحوري في حديث الغدير لدى هؤلاء بأن "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه..."، لا علاقة له بالقيادة، انما هو نوع من التعبير عن حب النبي الاكرم، ومودته لعلي أمام اكثر من مائة ألف مسلم في حر الظهيرة وفي ذلك المكان القفر!
وهنالك تصور سائد وقديم، بأن في مقدور الانسان التوصل الى حقائق الحياة والكون والوجود، والتعرّف على المصالح والمفاسد، من خلال جهد ذهني وتسخير العقل ليستغني عن وجود أناس آخرين في مقام الإرشاد والتوجيه، مهما كان قربهم من الحقائق وقدرتهم على إسعاد البشرية، وهذا ما واجهه الانبياء مع أقوامهم، ولم يتوقف الامر عند بزوغ فجر الاسلام وظهور النبي الخاتم على وجه البسيطة، بل استمرت المشكلة، وشهدنا كيف أن نفراً من المسلمين، ومن أدعياء العلم والمعرفة واصحاب الوجاهة في المجتمع، بدأوا يروجون لمقولة: "حسبنا كتاب الله" علّهم يتملّصوا من الالتزام بأوامر الأئمة من بعد رسول الله.
وفي كتابه القيّم "الغدير" يشير سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- الى أفضل السبل لمعرفة ضرورة وجود القائد متمثلة بقاعدة "اللطف"، وهي تدرس في علم العقائد، تجعل الانسان في ظل رحمة الله ولطفه لمساعدته على اكتشاف الطريق الصحيح من الخطأ، من خلال تبيين السنن والمعادلات في الحياة، منها؛ تطابق النتيجة مع العمل، فان حسناً فحسن، وإن كان سيئاً فسيئ، وأن المجتمع المتقدم والسعيد هو المجتمع المنفق والمتعاون على البر التقوى، وغيرها كثير.
أما العقل؛ فيقول عنه سماحة الفقيه الشيرازي بانه: "يبيّن الخطوط العريضة، وهي لا تكفي لسعادة الإنسان في الدنيا ولا في الآخرة، لدى العقل مجموعة يُسميها الأصوليون "المستقلات العقلية": الظلم قبيح، العدل حسن، رد الوديعة جيد، وهي كليات يقولها العقل، وخطوط عريضة لا تكفي لسعادة الإنسان في هذه الحياة، أما في التفاصيل، فان العقل يقول عن كثير من الأشياء: لا أعلم"، بل حتى القرآن الكريم يتحدث عن كليات، مثل الظلم والعدل والشرك، بيد اننا بحاجة الى مصاديقها على ارض الواقع، لنعرف من يكون الظالم؟ ومن يكون العادل؟ وكيف يكون الشرك؟ وهذا تحديداً يندرج ضمن مهام الإمام المعصوم من بعد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولعل هذا يفسّر حديث رسول الله الى أمير المؤمنين: "يا علي، أقاتل على التنزيل وتقاتل على التأويل"، وجاء اليوم الذي يتجسد فيه هذا الحديث في واقع الأمة في عهد أمير المؤمنين، عندما تخلّوا عنه وقالوا: "كيف نقاتل قوماً – في صفين- يحملون المصاحف..."!! فأجابهم، عليه السلام: "أنا القرآن الناطق وذاك القرآن الصامت".
والغريب حقاً؛ أن يكون الانسان على درجة من الإصرار والعناد ليعد نفسه قادراً على وضع القوانين والشرائع التي تنظم حياته وحياة البشرية كما يضمن لهم السعادة والرخاء، يكفي أن نلقي نظرة خاطفة على اخفاقات لا تعد في القوانين والنظم بالعالم، سواءً في الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة و شؤون اخرى، حتى أذعن العقلاء والحكماء في العالم على أن نجاح هذه الانظمة يُعد مسألة نسبية، لذا فان الازمات المالية والحروب وانتشار الاوبئة والظواهر الاجتماعية السيئة، كلها يعبرون عنها بالاجتهادات والمحاولات الرامية لتحقيق الافضل، فإن ظهرت المساوئ والاضرار، عكف المشرعون والعلماء والباحثون على تغييرها وصياغة قانون آخر وهكذا، وقد عبر الامام السيد محمد الشيرازي عن هذا الواقع المزري في العالم، في كتابه "الصياغة الجديدة"، بأنه "عالم المجانين"!
وإذن؛ فان الذي يتحدث عن عدم الحاجة الى "المرجعية الدينية" التي تجسدت بداية في الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وتستمر مع علماء الدين العاملين، إنما يدفع نحو المزيد من التخبط في الازمات والمشاكل، وإبعاد الناس عن نور الحقيقة، بل وثمة مساعي للتقليل من دور المرجعية الدينية ثم التشكيك بقدراتها على معالجة الازمات ومساعدة الامة على حل مشاكلها، وإبعادها عن الحالة القدسية التي تحظى بها، لاسيما ما يتعلق بالفتوى، ومشاريع التبليغ والنشر والتأسيس، ومن ثمّ تشويه صورتها في المجتمع.
وفي تاريخ المرجعية الدينية من بعد غيبة الإمام الحجة المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، لم يحصل أن تعرضت الامة الى أزمة ومشكلة من وراء الفتاوى التي أصدرها العلماء والمراجع طيلة القرون الماضية، اذا لم نقل بالفوائد الجمّة التي تحدثنا عنها في مقالات سابقة، ويعود الفضل في ذلك الى ذلك "الغدير" والى تلك السيرة الوضاءة للمعصومين، عليهم السلام، والجهود المضنية لاستنباط الاحكام منها ومن القرآن الكريم الى جانب اعتماد العقل والإجماع (رباعية دعائم الحكم الشرعي) بما يواكب المتغيرات والتطورات على مر الزمن.
إن مشكلة البعض مع المؤسسة الدينية، وتحديداً مع المرجعية والقيادة، ليست شخصية مع هذا المرجع او ذاك، بقدر ما هي تتعلق بأصل الفكرة، فالسؤال المثير للجدل بأن "من أين لك هذا الرأي..."؟! ولماذا يجب على الآخرين اتباعه، لم يصدر اليوم او في عصرنا الحاضر، بل يعود الى يوم الغدير عندما وقف البعض بوجه رسول الله وهم يسألون: "هل هذا منك أم من الله"؟!! فذاك النبي المرسل والخاتم الذي {لا ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحيٌ يوحى"، وهي حقيقة التي يعرفها الجميع، تعرض للتشكيك بأن يكون تنصيبه علي بن أبي طالب، للولاية من منطلق فئوي يبتغي من ورائه – حاشاه- مصالح معينة، فما بالنا بعلماء الدين في الوقت الحاضر.
اضف تعليق