إن الأزمات لن تغيب، لكن طريقة إدارتها هي التي تحدد شكل الدولة ومستقبلها، فالدبلوماسية أكثر من مجرد إدارة مؤقتة للتوتر، وإنما هي فن تحويل الأزمة إلى فرصة، وإعادة تعريف المصالح بطريقة ذكية ومتوازنة، وفي بيئة العراق المليئة بالتحديات، يمكن لهذا الفن أن يكون بوابة لتأسيس سياسة خارجية أكثر واقعية وفاعلية...

تُعد العلاقات الدبلوماسية في أوقات الأزمات من أكثر الميادين حساسية في السياسة الدولية، إذ تتحول القنوات التقليدية بين الدول إلى ساحات لإدارة الخلافات، واحتواء التصعيد، وإعادة بناء الثقة.

ومع تزايد التوترات الإقليمية والعالمية، أصبح لزاماً على الدول، ولا سيما تلك ذات البيئة السياسية المعقدة مثل العراق، أن تطور أدواتها الدبلوماسية لمواجهة الأزمات بأبعادها الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والإعلامية.

تشير الدراسات الحديثة في العلاقات الدولية إلى أن مفهوم "الأزمة" حيث لم يعد يقتصر على النزاعات العسكرية أو السياسية فحسب، بل يشمل أيضاً الأزمات غير التقليدية مثل الجوائح، والتغير المناخي، والهجمات السيبرانية، والانهيارات الاقتصادية، وفي هذا السياق، توضح دراسة بعنوان "التغيرات في أزمة الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين" Changes in  Crisis Diplomacy in the 21st Century (2024)  أن طبيعة الأزمات باتت عابرة للحدود، وأن الدبلوماسية الحديثة مطالبة بإدارة تفاعلات معقدة تضم فاعلين من غير الدول، ووسائل إعلام رقمية تؤثر في مسار الأحداث.

هذه الحقيقة تجعل من العراق، بما يواجهه من تحديات داخلية وخارجية، نموذجاً خاصاً لدراسة الدبلوماسية في الأزمات، لأنه يجمع بين هشاشة الداخل وضغط الخارج، وبين الحاجة إلى التوازن والانفتاح في الوقت نفسه.

تشابك الجغرافيا والسياسة

العراق اليوم يقف في منطقة جغرافية حساسة، محاطاً بقوى إقليمية كبرى لها مصالح متشابكة -إيران وتركيا والسعودية- إضافة إلى حضور فاعلين دوليين مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما أن ضعف البنية المؤسسية وتعدد مراكز القوى الداخلية يجعلان إدارة الأزمات أكثر تعقيداً، إذ تمتزج فيها اعتبارات الأمن الوطني بالمصالح الحزبية والمكوناتية، فكل أزمة داخلية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية، تمتد آثارها إلى المجال الخارجي، والعكس صحيح.

لذلك فإن فهم العلاقات الدبلوماسية في العراق يتطلب الجمع بين تحليل العوامل المحلية والإقليمية والدولية في آن واحد، وعدم النظر إلى الأزمة بوصفها حدثاً منفصلاً، بل إنها نتيجة لتفاعل شبكة واسعة من المصالح، وانها من أهم وظائف الدبلوماسية أثناء الأزمات إدارة التصعيد ومنع الانزلاق إلى المواجهة المفتوحة.

دبلوماسية الأزمات

تناولت دراسة في Foreign Affairs تحت عنوان "دبلوماسية الأزمات" Crisis Diplomacy Harlan Cleveland, 1963 المبادئ الأساسية لهذا الدور، مؤكدة أهمية القنوات الخلفية والحوار غير المعلن لاحتواء المواقف المتشنجة.

هذه القنوات السرية أو الهادئة كانت ولا تزال أداة فعالة لتخفيف التوتر قبل أن يتحول إلى أزمة علنية، أما اليوم فقد توسعت أدوات إدارة الأزمات لتشمل "الدبلوماسية الرقمية" التي تستخدم فيها المنصات الإلكترونية لتوجيه الرسائل السياسية وكسب الرأي العام.

وفي هذا الصدد هناك بحث صادر عن جامعة أكسفورد بعنوان " الدبلوماسية الرقمية في أوقات الاضطراب" Digital Diplomacy in Times of Upheaval  يوضح البحث كيف باتت وزارات الخارجية تستخدم تويتر ووسائل التواصل لإدارة الأزمات في الزمن الحقيقي.

وفي الحالة العراقية، يمكن لهذه الوسائل أن تلعب دوراً مزدوجاً، فهي من جهة أداة لإيصال الموقف الرسمي بسرعة وشفافية، لكنها من جهة أخرى قد تتحول إلى ساحة للتجاذب الداخلي والتضليل إذا غابت عنها الرؤية الواحدة، وهنا تبرز الحاجة إلى استراتيجية اتصال دبلوماسي موحدة، تسند إلى فريق محترف يوازن بين السرعة والمصداقية، ويمنع تسرب الخطاب الداخلي المنقسم إلى الخارج.

دروس إضافية

التجارب الفرنسية والصينية تقدم دروساً إضافية يمكن للعراق الاستفادة منها، ففي الأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر(Le Monde, 2025)، اعتمدت باريس مزيجاً من الحزم والتهدئة، إذ لجأت إلى "القوة الهادئة" لتجاوز الخلاف دون خسارة الشريك، وهذا النهج الواقعي يمكن أن يلهم بغداد في تعاملها مع جيرانها، حيث تتطلب العلاقة مع إيران أو تركيا مزيجاً من التوازن والمناورة بعيدا عن القطيعة أو التبعية.

أما التجربة الصينية، فقد أكدت وزارة الخارجية في تقاريرها (2020–2022) أن "الدبلوماسية في الأزمات تتجاوز رد الفعل، وانها أداة وقائية لبناء بيئة خارجية مستقرة، وهو ما تسميه بكين "الدبلوماسية الوقائية"، وهذه الفكرة تحمل أهمية خاصة للعراق، إذ يمكنه تبني آلية وطنية للإنذار المبكر، تتابع التطورات على حدوده أو داخل بيئته السياسية قبل أن تتفاقم، فبدلاً من إنتظار الأزمة، يمكن للحكومة العراقية استخدام التحليل الاستباقي والمشاورات الدورية مع الجوار لامتصاص أي توتر محتمل.

وتكمن إحدى نقاط القوة غير المستغلة في الدبلوماسية الاقتصادية، وهي أداة يمكن للعراق توظيفها لإعادة بناء العلاقات بعد الأزمات، فالعلاقات الاقتصادية والتجارية، وخصوصاً في قطاع الطاقة، قادرة على تخفيف التوترات السياسية.

وتشير دراسة بعنوان "هل تؤثر الجغرافيا السياسية على تجارة الطاقة؟" Does Geopolitics Have an Impact on Energy Trade  إلى أن الطاقة كثيراً ما تكون جسراً دبلوماسياً حتى بين الخصوم، لأن المصالح الاقتصادية تخلق روابط يصعب قطعها.

النفط والموقع مفتاح النفوذ

من هذا المنطلق، يمكن للعراق أن يوظف مكانته كمصدر رئيسي للنفط وممر حيوي للتجارة بين الخليج وصولا الى ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يضم دول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بل يمكن ان تتسع مكانته بشكل أوسع وصولا الى أجزاء من تركيا، وشمال غرب السعودية، وشمال شرق سيناء، لتعزيز نفوذه الدبلوماسي وتخفيف الضغوط الإقليمية، كما يمكن للدبلوماسية الاقتصادية أن تستخدم داخلياً لتقوية موقف الدولة في المفاوضات الخارجية، فعندما ينجح العراق في تنويع اقتصاده وتقليل اعتماده على النفط، يصبح أقل عرضة للابتزاز السياسي، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة في السياسة الخارجية.

جسور للعراق

من جانب آخر، لا يمكن تجاهل البعد الثقافي والإعلامي في الدبلوماسية العراقية، فان صورة العراق في الخارج لا يمكن الاكتفاء بالبيانات الرسمية فقط، بل بات ممن المهم التركيز على الإنتاج الثقافي والإعلامي والأكاديمي، لذا فإن تفعيل ما يعرف بـ"القوة الناعمة" - من خلال الدبلوماسية الثقافية والتعليمية- يسهم في إعادة بناء الثقة الدولية بالعراق كدولة فاعلة ومسالمة. فكل جامعة أو بعثة علمية، وكل معرض فني أو مهرجان ثقافي، يمكن أن يكون جسراً ناعماً بين العراق والعالم، خصوصاً في أوقات الأزمات حين يكون الخطاب السياسي مشحوناً.

تفرض البيئة العراقية أن تكون الدبلوماسية على مستوى حكومية، ومحلية، وإقليمية ودولية، وأن تدمج بين الأدوات التقليدية والحديثة، فهي لا تبدأ وتنتهي عند وزارة الخارجية، بل تشمل مؤسسات الدولة الأخرى، والبرلمان، والإعلام، وحتى المجتمع المدني.

بناء منظومة تنسيق وطنية

كما أن تنوع الفاعلين في الداخل يجعل من الضروري بناء منظومة تنسيق وطنية تضمن وحدة الخطاب الخارجي وتمنع تضارب الرسائل، وهناك تجارب كثيرة مثل الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة أو مساعي الوساطة بين السعودية وإيران، جعلت من بغداد أن تملك إمكانيات لعب دور إقليمي إيجابي خصوصا عندما متوفر القرار السياسي والرؤية الواقعية، ويمكن لهذه التجارب أن تتحول إلى قاعدة لتوسيع مفهوم "الدبلوماسية الوقائية" العراقية، بحيث تتعدى التفاعل مع الأزمات لتكون شريكاً في صنع الحلول. في المدى البعيد، يحتاج العراق إلى استراتيجية دبلوماسية تقوم على ثلاث ركائز:

-                 الاستباق بدل ردود الأفعال عبر مراقبة مؤشرات الأزمات والتحرك مبكراً.

-                 التوازن بدل الانحياز في العلاقات الإقليمية والدولية.

-                 الاقتصاد كأداة نفوذ لا أن يكون مصدر للهشاشة.

خلاصة القول إن الأزمات لن تغيب، لكن طريقة إدارتها هي التي تحدد شكل الدولة ومستقبلها، فالدبلوماسية أكثر من مجرد إدارة مؤقتة للتوتر، وإنما هي فن تحويل الأزمة إلى فرصة، وإعادة تعريف المصالح بطريقة ذكية ومتوازنة.

وفي بيئة العراق المليئة بالتحديات، يمكن لهذا الفن أن يكون بوابة لتأسيس سياسة خارجية أكثر واقعية وفاعلية، تُعيد بناء الثقة الإقليمية والدولية بالعراق كدولة مبادرة غير متأثر بصراعات الآخرين.

 

 *علي الطالقاني، رئيس ملتقى النبأ للحوار


اضف تعليق