حان الوقت لكي يقوم العراق بزيادة الاستثمار في شعبه وخلق بيئة مواتية لتحقيق نمو مستدام طويل الأجل. ويتحقق هذا الالتزام من خلال العمل الدؤوب، مما يعطي الأمل في أن يواصل العراق الاستثمار في أغلى مقوماته؛ وهو شعبه. ويستطيع العراق إطلاق الطاقات الكامنة لرأسماله البشري على نحو تام وبناء...

إن أغلى ما يملكه العراق من مقومات هو شعبه. يقدِّم تقرير مراجعة رأس المال البشري في العراق: "خارطة طريق نحو استعادة رأس المال البشري في العراق" نظرة شاملة عن رأس المال البشري. ويأتي هذا التقرير الذي صدر عن البنك الدولي مؤخراً بالتعاون مع وزارة التخطيط العراقية، في مرحلة بالغة الأهمية من مسار التنمية في البلاد نحو تعزيز النمو الاقتصادي في أعقاب سنوات من الصراع. ويشير التقرير إلى أن النمو الاقتصادي المستدام للعراق يعتمد على رأس المال البشري، الذي يتضمن تراكم المعارف، والمهارات وتحسين الحالة الصحية للشعب العراقي على مدار حياته، مما يمكن الأفراد من التعلم، والعمل بفاعلية وإنشاء الأعمال التجارية، مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر ازدهاراً وإنصافاً وقدرة على الصمود في مواجهة الأزمات. ولقد كانت هذه أحد السمات الأساسية لمسار التنمية في العراق في الماضي، ولكنه واجه تحديات في الآونة الأخيرة.

لقد أدت عقود من الصراع إلى عرقلة جهود العراق نحو بناء رأس المال البشري. كما أسهمت جائحة كورونا (كوفيد-19) في تفاقم هذه الأوضاع، حيث أدى إغلاق المدارس والصعوبات الاقتصادية إلى تكبد خسائر طائلة في التعلم، فضلاً عن الانتكاسات الصحية. وقد يؤدي تأثير الجائحة إلى فقدان ما يصل إلى 63 مليار دولار من دخل الشباب العراقي في المستقبل.

ويضاف إلى ذلك قابلية تأثر العراق بمخاطر تغيّر المناخ التي تهدد الأمن الغذائي والمائي، والصحة، والاستقرار الاقتصادي، ولذلك يجب على العراق، باعتباره أحد أكثر البلدان عرضة للتأثر بتغيّر المناخ على مستوى العالم، مواجهة التحدي المزدوج المتمثّل في إعادة بناء رأس المال البشري والتخفيف من حدّة المخاطر البيئية.

يقدِّم تقرير نظرة شاملة على الفجوات في رأس المال البشري في العراق في كل مرحلة من مراحل الحياة، ويستعرض التحديات في مرحلة الطفولة المبكرة، وفي سن الالتحاق بالمدرسة، وفي سن العمل، فضلاً عن الآثار البالغة على الصحة في مرحلة الشيخوخة.

وإدراكاً لأهمية مواجهة هذه التحديات، شرعت الحكومة العراقية في بذل المزيد من الجهود المتضافرة لإعطاء الأولوية لتنمية رأس المال البشري. وتقدِّم الإستراتيجيات الوطنية؛ ومن بينها خطة التنمية الوطنية للسنوات (2023-2027) والإستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق للسنوات (2022-2031) إطاراً للتصدي لهذه التحديات. وتركِّز هذه الخطط على تحسين خدمات التعليم، والرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية، وتهدف أيضاً إلى خلق اقتصاد أكثر مراعاة للمسؤولية الاجتماعية.

غير أن تنفيذ هذه الإستراتيجيات وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع يستلزم إجراء إصلاحات مستدامة، وحوكمة فعَّالة، وتمويلاً عاماً كافياً. ومن الضروري بناء توافق وطني في الآراء يعطي الأولوية للاستثمار في رأس المال البشري من أجل تحقيق مستقبل واعد للبلاد. 

ومما يبعث على التفاؤل أن هذا التوافق الوطني قد بدء يلوح في الأفق. لقد سلّط المؤتمر الوطني الأول لرأس المال البشري، الذي عقدته وزارة التخطيط العراقية مؤخراً الضوء على الفرص المتاحة للتصدي لهذه التحديات ومعالجتها. ويتمتع العراق بالقدرات التي تمكّنه من الاستفادة من الشباب العراقي لدفع عجلة النمو الاقتصادي، لكن ذلك يستلزم اتخاذ إجراءات حاسمة وجريئة. ويأتي في صدارة الأولويات سد الفجوات في تقديم الخدمات في مجالي التعليم والرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الحصول على الحماية الاجتماعية، وخلق فرص العمل، لا سيمّا للنساء والشباب.

ولا يمكن تحقيق العائد الديموغرافي المنشود من الشباب العراقي إلا من خلال الاستثمارات المستدامة في رأس المال البشري. إن تنفيذ الإصلاحات بفعالية سيمكّن العراق من تحويل تحدياته الحالية إلى فرص قائمة، بما يضمن تحقيق مستقبل أكثر إنصافاً وازدهاراً لجميع مواطنيه.

لقد حان الوقت لكي يقوم العراق بزيادة الاستثمار في شعبه وخلق بيئة مواتية لتحقيق نمو مستدام طويل الأجل. ويتحقق هذا الالتزام من خلال العمل الدؤوب، مما يعطي الأمل في أن يواصل العراق الاستثمار في أغلى مقوماته؛ وهو شعبه. ويستطيع العراق إطلاق الطاقات الكامنة لرأسماله البشري على نحو تام وبناء مستقبل أكثر إشراقاً للأجيال القادمة، من خلال تطبيق السياسات المناسبة، وتعزيز الحوكمة والالتزام العام من جانب الدولة والشعب.

ولقد أشارت ملحمة جلجامش إلى أهمية الاستثمار في رأس المال البشري بلغة بليغة ومعبرة، حيث يسرد جلجامش في مغامراته تفاصيل رحلة بحثه عن الخلود، والتي جعلته يكتشف أن سر خلوده، هو الإرث الذي يتركه، من خلال التنمية المادية والبشرية. هكذا هو تاريخ العراق العريق، وهذا هو السبيل إلى المضي قدّماً نحو تحقيق التنمية البشرية في العراق.

* بقلم: - فاديا سعدة، المديرة الإقليمية للتنمية البشرية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي، - خالد محيي الدين، خبير حماية اجتماعية

** للاطلاع على التقرير الكامل:

http://documents1.worldbank.org/curated/en/099092624123537794/pdf/P17667115aece00dd19a8c16b5978eac329.pdf

اضف تعليق