كمال درويش
إسطنبول ــ في أيامنا هذه، وفي حين يمر الاقتصاد العالمي بتحول جوهري، يخضع العمال في مختلف أنحاء العالم لقدر كبير من الضغوط. وفي الاقتصادات المتقدمة بشكل خاص، بات لزاماً على السياسات الاجتماعية أن تتكيف وتتأقلم من أجل توفير الدعم الذي تحتاج إليه الفئات ذات الدخل المنخفض، بينما تعمل في الوقت نفسه على تشجيع النمو وتعزيز الرفاهة.
كانت الضغوط هائلة ولا مهرب منها. ففي الولايات المتحدة، هبطت بنسبة 21% التعويضات الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) للرجال الذي يحملون شهادة الدراسة الثانوية فقط في الفترة من عام 1979 إلى 2013. وفي قسم كبير من أوروبا، التي توفر حماية أقوى للأجور، ارتفعت البطالة إلى عنان السماء، وخاصة منذ بدأت أزمة اليورو عام 2008. وتظل ألمانيا وبعض دول شمال أوروبا هي الاستثناء، رغم أن سوق العمل الألمانية تضم شريحة كبيرة من الوظائف الصغيرة المتدنية الأجر.
وتدفع هذه الاتجاهات الطبيعة المتغيرة للعمل. فبادئ ذي بدء، كانت الخدمات تكتسب المزيد من الأرض في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة. ففي الفترة من 1970 إلى 2012، ارتفعت حصة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من 53% إلى 71%.
الواقع أن التكنولوجيا الجديدة والآلات "الذكية" لا تحل محل العديد من أنماط العاملين في قطاعي التصنيع والخدمات فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على تسهيل صعود نماذج تجارية جديدة، حيث يؤدي الأفراد (خدمات منخفضة الأجل غالبا) وظائف ضمن شبكات غير محكمة، بدلاً من كونهم موظفين مخلصين يعملون ضمن منظمات مهيكلة.
على سبيل المثال، يعمل الآن لدى خدمة تقاسم الركوب أوبر 162 ألف سائقاً نشطاً في الولايات المتحدة وحدها، ومن الواضح أن هذه الخدمات تعمل على إزاحة خدمات سيارات الأجرة التقليدية. وتأمل الشركة البادئة "هاندي" أن يحقق تطبيقها نجاحاً مماثلاً في ربط العملاء بالمقاولين المستقلين الذين يقدمون خدمات منزلية مختلفة. ومع تسارع التكنولوجيا وعولمة سلاسل القيمة، يتعين على العمال أن يتأقلموا، سواء بتغيير وظائفهم، أو الانتقال، أو اكتساب مهارات جديدة ــ وهو التحدي المرهق بشكل خاص بالنسبة للعمال الأكبر سنا، ولكنه يتطلب نهجاً جديداً في تخطيط الحياة بالنسبة للجميع.
الواقع أن بعض الناس ــ وخاصة أولئك الذين اكتسبوا مهارات قيمة ومرنة في وقت مبكر من حياتهم، فضلاً عن أولئك الذين هم في مواقف قوبة بالفعل بسبب ثروة موروثة ــ من الممكن أن يزدهروا في هذا الاقتصاد الجديد. غير أن ملايين آخرين غير مجهزين بشكل جيد للعصر الجديد. وقلقهم المتزايد هو الذي يغذي صعود سياسات الهوية، حيث تتمتع الحركات الشعبوية والقادة الشعبويون بالجاذبية لدى الساعين إلى التضامن العِرقي أو الديني في مواجهة قوى التغيير المجردة.
وتواجه أحزاب يسار الوسط تحديات عصيبة بشكل خاص، حيث تنجذب قاعدتها الانتخابية الأقل دخلاً بعيداً عنها إلى المنافسين المناهضين للهجرة والشوفينيين. وما يزيد الطين بلة أن تفتت الإنتاج (سواء السلع أو الخدمات)، جنباً إلى جنب مع الضغوط المالية المتزايدة الشدة، تجاهد ضد اعتماد هذه الأحزاب التقليدي على المفاوضة الجماعية بهدف إنشاء أنظمة وسياسات كفيلة بتأمين المواطنين ضد الصدمات والمحن.
والواقع أن استجابة اليمين لهذا التحدي ــ تفكيك دولة الرفاهة في الأساس ــ من شأنها أن تترك غالبية المواطنين عُرضة للصدمات الاقتصادية والتحولات البنيوية (وهو ما لا يُسفِر إلا عن تعزيز شعورهم بالعزلة والضعف). وعلى النقيض من ذلك، لابد أن تستتبع الاستجابة التقدمية سياسات اجتماعية قوية ــ بما في ذلك التأمين والحماية ــ متوافقة مع التكنولوجيات وأنماط العمل الجديدة. وبشكل ملموس، يعني هذا أن كل مواطن سوف يحصل بدلاً من الحماية الاجتماعية العامة على ميزانية فردية مدى الحياة للدعم والأمن، في حين يتطلب إظهار المستفيدين المؤهلين قدرتهم على المبادرة في تحديد كيفية التكيف.
إن الفارق الرئيسي بين الرؤية التقدمية لأي مجتمع يرتكز على "حسابات المواطن" هذه وبين الفكرة المحافظة بأن المواطنين الأفراد لابد أن ينشئوا حسابات تقاعد شخصية، أو يحصلوا على قروض الطلاب، أو يتولوا تغطية تأمينهم الصحي بأنفسهم، هو الدور الذي يلعبه القطاع العام. ولن يتولى القطاع العام المسؤولية الرئيسية عن تمويل الحماية الاجتماعية فحسب؛ بل إن السياسة العامة من شأنها أيضاً أن تعمل على تأطير التعاون بين الحكومات وأصحاب العمل والمستفيدين لإزالة الازدواجية وتعزيز الفعالية والعدل.
على سبيل المثال، يعمل "الحساب الأسري" مدى الحياة على تمكين إجازات الأمومة والأبوة المدفوعة الأجر، وتوفير دعم رعاية الطفل، والسماح بترك العمل لفترة لرعاية المرضى أو المسنين من أفراد الأسرة. وسوف يجمع هذا بين بعض القواعد العامة والمساهمات المالية المعدلة تبعاً للدخل من قِبَل الدولة وأصحاب العمل والأفراد. ومن شأنه "حساب التعلم" أن يحدد معالم الدعم التعليمي، بما في ذلك الفرص التي تدوم مدى الحياة لاكتساب مهارات جديدة وتعليم المهارات لآخرين.
الواقع أن الأشكال الأساسية لمثل هذا المخطط قائمة بالفعل في العديد من البلدان. فالنرويج تقدم 49 أسبوعاً كإجازة أبوية بأجر كامل، أو 58 أسبوعاً في مقابل 80% من الأجر. ويتعين على كل من الأبوين أن يستخدما 10% على الأقل من هذه الميزانية، ولكنهما يستطيعان أيضاً أن يرحلوا جزءاً منها لاستخدامه عندما يبدأ أطفالهم الذهاب إلى المدرسة (مع الاستفادة مرة أخرى بشكل كبير من الدعم الأبوي). لا شك أن قِلة من البلدان قد تكون ثرية كثراء النرويج؛ ولكن المبدأ ــ بما في ذلك دعم رعاية المسنين ــ يمكن تطبيقه لفترات تدوم ثلاثين أو أربعين أو خمسين أسبوعا.
وفرنسا أيضاً تتحرك الآن في هذا الاتجاه، فتعمل على إنشاء "حسابات أنشطة فردية" تهدف إلى تبسيط سياساتها الاجتماعية، من دون التضحية بحس التضامن الوطني.
لا شك أن هذا النهج لن يوفر حلاً سحرياً لكل التحديات التي تواجهها البلدان حاليا. فسوف تظل القيود المالية قائمة، مع استمرار الحكومات في تمويل المنافع العامة. وسوف تصبح الضرائب الكافية المفروضة على الأفراد من ذوي الدخل المرتفع والشركات العالية الربحية، جنباً إلى جنب مع الجهود القوية المتواصلة للحد من التهرب الضريبي، أكثر أهمية في الدفاع عن قاعدة الإيرادات. وسوف تظل النقابات مطلوبة للدفاع عن مصالح أعضائها.
ولكن هناك رغم ذلك احتياج إلى إنشاء عقد اجتماعي جديد يأخذ في الاعتبار الدور المتزايد الأهمية الذي تلعبه التفضيلات الفردية والمسؤولية الفردية في عالم اليوم. وينبغي لكل مواطن أن يشعر بالتمكين، وليس العزلة، في مواجهة العولمة والتحول التكنولوجي.
وبالاستعانة بهذا النهج، تستطيع الديمقراطية الاجتماعية أن تدفع مرة أخرى عجلة التقدم، بدلاً من الاختناق بحبل سياسات الهوية وأصولية السوق. ولن يخدم هذا قضية العدالة الاجتماعية فحسب، بل وأيضاً هدف دعم قوة العمل الماهرة السعيدة الموفورة الصحة والتي يحتاج إليها أي اقتصاد ناجح.
اضف تعليق