q
إنسانيات - مجتمع

قاط سياسي

تكشف الازياء بأشكالها المتعددة عن اكثر من توجه في كل مجتمع، توجه حداثوي وتوجه تقليدي، يسيران سوية فيما يرتديه الناس في تلك المجتمعات، وخاصة مجتمعاتنا الشرقية..

والازياء من جهة ثالثة تفرض تصنيفا على الشخص الذي يرتدي زيّا معينا، مثل موظفي الدولة (رجال الشرطة – الجيش) او رجال الدين وبعض اصحاب المهن كما يلاحظ عندنا..

وهي من جهة رابعة تكشف عن تمسك بالقديم من الزي – الزي الوطني – (الدشداشة العربية – الشروال الكردي) خارج اطر التصنيف الاولى واحيانا حتى داخل هذه الاطر، نفس الدشداشة يرتديها الموظفون في دول الخليج العربي..

البدلة الرجالية (القاط) بالعامية العراقية واحد من هذه الازياء المتنوعة.. تعرفت عليه في خزانة ابي، وارتديته منذ السابعة من عمري، حين كان والدي الموظف لدى الحكومة يشتري لنا هذه البدلات التي تناسب اعمارنا، وكنت اتباهى بها امام اقراني، وفي نفس الوقت كانت تقيد من حركتي وتميزني عن بقية الاطفال.. كنا نرتديها حين نزور اقاربنا او في الاعياد يوم كانت اعيادنا وعطلنا تعد على اصابع اليد الواحدة.. ويترافق مع القاط ربطة العنق او (الرباط) اختصارا في لهجتنا العامية..

كان القاط معيارا للمكانة الاجتماعية ايام زمان، ودلالة على الاناقة والاهتمام بالمظهر الشخصي، فكنت ترى الكثير من الرجال وخاصة من الطبقة الوسطى قبل انقراضها في التسعينات يرتدون القاط وهم يسيرون في الشوارع على اقدامهم او وهم يستقلون سيارات الاجرة..

في زماننا الحاضر وبعد عام 2003 ، اصبح القاط والرباط من لوازم العمل الوظيفي في العراق، وخاصة ما يتعلق منها بالوظائف الموجودة منها في المنطقة الخضراء والتي هي على تماس مباشر مع الساسة والسياسيين.. وقد يختفي الرباط من رفقة القاط لدى المتأسلمين من تيارات الاسلام السياسي الايديولوجي المرتبطين بايران، وقد تكون مرافقة للقاط لدى المتأسلمين البراغماتيين كما في المثال التركي..

شكّل القاط ظاهرة في الزي الرجالي العراقي بعد العام 2003 ، وان كانت ظاهرة لاتكاد ترى في الشوارع العامة في بعض السنوات بعد ذلك العام لدواع امنية، لكنها واضحة شديدة الوضوح داخل دوائر الدولة وخاصة المرتبطة بشقها الوظيفي بالسياسة، حيث المكاتب المكيفة والتي لاتنقطع عنها الكهرباء، على نقيض ماقام به احد رؤساء وزراء اليابان قبل سنوات من عدم ارتداء البدلة الرجالية اثناء اوقات العمل ، ليحذو حذوه موظفو الدولة ترشيدا لاستهلاك الطاقة الكهربائية..

في جلسة لمجموعة من الادباء والمثقفين العراقيين في فندق بالاس في السليمانية مع احد الكوادر المتقدمة لحزب كردي عريق، وكان يرتدي بدلة رجالية بلون داكن، تحدث معنا عن سنوات نضاله ضد طاغية العراق، سالته ما الذي تغير فيه او اضافه اليه تغيير لباسه من الزي الكردي وهو يقاتل في الجبال، الى الزي الغربي جالسا امامنا مسترخيا في هذا المكان؟ اجابني محتدا: لم يتغير شيء.. كانت اجابته صادقة، وهو واقع الحال، فقد رايته في احدى اللقاءات مع مجموعة من اهالي خانقين وهو يرتدي زيه الكردي دلالة على تمسكه بطروحات حزبه والحديث الدائر عن عائديتها القومية..

ومثله السيد مسعود بارزاني في اقليمه لاتراه الا مرتديا زيه الكردي امتدادا لترسيخ هويته الكردية في بيئته المحلية وما يرافقها من تصريحات واحاديث متوترة او متشنجة تجاه المركز، عكس مانراه في سفره الى امريكا او دول اوربا وهو يرتدي القاط، وتكون تصريحاته عندها اكثر انفتاحا ومرونة تجاه القضايا المطروحة..

انه القاط السياسي الذي يكون مركز الحدث والحديث امام عدسات المصورين ووسائل الاعلام الاخرى.. وترى من يرتديه لايخلوا من نزعة للتباهي امام تلك العدسات وهو تباه مفتعل يستجيب لضرورات اللحظة التصويرية..

واحيانا منهم من يحاول تقليد النمط الخليجي في ارتدائه للدشداشة فيخرج الى ضيوفه، والحديث هنا عن احد وكلاء احدى الوزارات ليحدثهم عن الثقافة العراقية وعن تطويرها..

بالعودة الى اختفاء القاط الرجالي من الشارع العام رغم كونه ظاهرة من ظواهر التغيير الديمقراطي في العراق، يعود ذلك الى ان هذا القاط فرض نمطا اخر من التعامل مع وسائط النقل، فلا يليق الان بموظف يرتدي قاطا ان يستقل الباص او الكيا ، بل يستدعي هذا القاط امتلاك سيارة خاصة غير خاضعة لنظام الزوجي او الفردي.. او الاستفادة من سيارات الدولة للتنقل فيها.. ومنهم وهو في بداية صعوده السلم الوظيفي يخلع بدلته في مكان عمله ويخرج الى الشارع مرتديا القميص والبنطلون خوفا من الرصد الامني للعلّاسة، راكضا خلف وسيلة النقل التي تقله الى بيته..

هل غيّر القاط السياسي من طرائق التفكير لدى السياسيين او المسؤولين؟ المشهد السياسي العراقي بنزاعاته وتوافقاته لازالت تحكمه الدشداشة العربية والشروال الكردي ومابينهما العشيرة والانتماء الطائفي والقومي.

اختم بتعبير امريكي يقول: الملابس لاتصنع منك رجلا..

اضف تعليق