استبدلت عبارة ما هو خير للمجتمع بعبارة ما هو جيد لي أنا وقد أحدث هذا الانقلاب في المقاييس والموازين سجالا فلسفيا في أوساط نخب المفكرين في من يرى أن هذا التحول وأضرابه يمثل انعتاقا من أسر الاكراه الجمعي في حين يرى أخرون -وهو الحق- أنه نوع خطير من وسائل التفكك الاجتماعي وفقدان للبوصلة القيمية للمجتمع بأسره...
اختزال الجماعة بالفرد الواحد ليس مجرد تعبير يشيع لدى النخب الاجتماعية بل هو سلوك ظاهر يؤشر إلى تحول ثقافي مهم في الفكر الإنساني غزا عالمنا المعاصر بحسب بعض المؤرخين منذ منتصف القرن العشرين أو أواخره، وما تزال تجلياته ماثلة للعيان حتى زماننا هذا، والمراد به من الناحية المفهومية على نحو الإيجاز هو تهميش دور الجماعة لصالح الفرد بما يمثله هذا الفرد من ذات مستقلة وتجربة خاصة، فالكلّ الجمعي كالمجتمع، والأمة، الطائفة، والطبقة يسير وفقا لاشتراطات هذا المنطق إلى الذوبان في بوتقة الفرد الواحد. والسمة الرئيسية لهذا المفهوم تتعلق بنقد السرديات الكبرى التي راجت قبل هذا التاريخ كالاشتراكية، والقومية، والدين، وكذلك الحداثة؛ والمقصود بها (جوهر) الحياة الفكرية الغربية التي بدأت إرهاصاتها منذ القرن السابع عشر، وتميزت بالتركيز على العقلانية، والعلمانية، والفلسفة التجريبية.
والغاية التي ينشدها دعاة ما بعد الحداثة تتلخص بإعطاء الأولوية لتجربة الأفراد، بما لهم من رؤى متعددة ومتناقضة ليغدو الفرد أو الأفراد محور الوجود الإنساني ومعنى معناه، لا الجماعة، أو الجماعات، كما هو العهد بها في حقب سابقة لتلك التواريخ...
وبناء على ما تقدم ذكره آنفًا وفي ظل هذا التحول الدراماتيكي لم يعد يُنظر إلى الجماعة بوصفها مرجعية نهائية للهوية العامة، أو للمعنى الاجتماعي الكلي، وعليه فقد أُضْعِفت القيم التي كانت مرتبطة بالجماعة كالتضامن، وما يندرج ضمن الواجب الاجتماعي، والانتماء الوطني، والإيثار أو ُعيد تأويلها على وفق معايير فردية بحتة، وبهذا تُقرأ القيم الدينية أو الوطنية في وقتنا الحاضر ولدى كثيرين من منظور فردي نفعي خاص، لا جماعي مطلق!
وبقدر ما يتعلق الأمر بالحقل الثقافي فقد ظهرت أنماط حياتية تركّز على الذات في المقام الأول كثقافة الاستهلاك، وكذا التعبير الذاتي المنفلت عادة من القيود المرعية سابقا عبر وسائل التواصل، والغرض كما يبدو بعد مزيد من إمعان النظر هو تفكيك الهويات الجمعية، لاسيما ما يقع في نطاق الهويات الرئيسية المتعارف عليها منذ بواكير تأسيس الدول سواء في صبغتها الماضية أو الحديثة، هذا من الوجهة الثقافية (الفكرية).
أما من الوجهة السياسية فقد جرى التهوين من أهمية الحركات الجماعية المنظمة كالأحزاب، والنقابات، والاتحادات كما جرى السعي الحثيث على قضية صعود السياسات القائمة على التوجهات الفردية أو الفئوية بمختلف تقسيماتها لاسيما المؤسسة على الجنس أو الجندر والانتماء الآيدلوجي الخاص بحيث صار التعويل على تقديم الرغبة الغريزية الفردية حتى العابرة منها على سائر المسلمات العقلية والمنطقية، فيكفي لأن يتحول الفرد من جنس إلى آخر أن يبدي الرغبة ليس إلا أي أنه غير مطالب بتقديم مسوغات من أي نوع كان يبرر التحول الجنسي الذي هو بصدده، وهكذا، وهلم جرا.
وفي ما يتصل بالمنظومة الأخلاقية فقد استبدلت عبارة (ماهو خير للمجتمع) بعبارة (ماهو جيد لي أنا) وقد أحدث هذا الانقلاب في المقاييس والموازين سجالا فلسفيا في أوساط نخب المفكرين في من يرى أن هذا التحول وأضرابه يمثل انعتاقا من أسر الاكراه الجمعي في حين يرى أخرون -وهو الحق- أنه نوع خطير من وسائل التفكك الاجتماعي وفقدان للبوصلة القيمية للمجتمع بأسره...
اضف تعليق