إن الدولة العراقية تنظر الى الشباب اليوم على أنهم عبئ ثقيل، وعامل استنزاف للمال بسبب التوجه المركز نحو التوظيف الحكومي، لاسيما حملة الشهادات من خريجي الجامعات والمعاهد، وهي نظرة لا يستحقها، لا الشباب العراقي، ولا العراق كبلد في موقعه الجغرافي وفرصه الهائلة للنمو والتقدم...
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم لجمع من المسلمين ذات مرة: رحم الله من أعان ولده على برّه، فقيل يا رسول الله، كيف يعينه على برّه؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به؛ فليس بينه وبين أن يصير في حد من حدود الكفر إلا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم".
يتصور البعض أن تبعيض المشاكل وإلقاء المسؤوليات بعيداً على هذا او ذاك يخفف من وطأة الازمة، ويخلّص المسؤول الحقيقي من التبعات السلبية لقضية كبيرة ومتداخلة مثل قضية الشباب في أي مجتمع وأمة، ومنها؛ المجتمع العراقي الذي يمتاز بنسبة يُحسد عليها من الشباب في تعداده السكاني بين دول المنطقة، حيث تشكو بعض البلاد من تزايد نسبة الكهولة وخطورة فقدان هذا الرصيد العظيم ذو التأثير المباشر على ملف التنمية الاقتصادية.
معظم الشباب العراقي مكانهم اليوم؛ الاسواق والشوارع لكسب لقمة العيش، وايضاً الأرصفة والطرقات، وفي أحسن الحالات؛ في المتنزهات ومقاهي الانترنت، عاكفين على الارجيلة وبعض الالعاب بغية قضاء بعض الوقت لاخراج النفوس من مشاعر الكآبة، والحزن، واليأس الى حيث الاستمتاع بالضحك وتبادل النكات، فهم بعيدون عن البيت والأسرة، وربما بنفس المسافة عن مؤسسات الدولة، بينما المعروف سابقاً عن الشاب العراقي تحديداً، أنه كان المرافق الاول لأبيه، كما البنت لأمها، و يعد الرجل الثاني في البيت، أما علاقته بمؤسسات الدولة، فهو إما طالباً في الجامعة، او عاملاً في مشاريع البناء والإعمار والبحث العلمي، او في المعامل والمزارع، فضلاً عن الاعمال الحرة والمهن المعروفة.
لسنا بوارد الخوض في اسباب هذا المآل المؤسف، فقد كثر الحديث عن الحروب والازمات السياسية والاقتصادية، إنما يهمنا ويهمّ الشباب اليوم؛ الحلّ، او ربما حزمة حلول للخروج الى سبيل من هذا الواقع السيئ.
الأسرة المنطلق
الحديث الذي توجنا به المقال عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، يبين مدى تأثير الأسرة ومنهجها التربوي على نشوء الشاب بشكل ايجابي، وسرعة ظهور النتائج في السلوك والثقافة، فأن يكون الشباب مستقيماً ومهذباً ومؤدباً ويتحلّى بكل الصفات الحميدة، ليست مجرد أمنيات بقدر ما هي حاجة اساس لهيكلية المجتمع الناجح والمتقدم تستدعي ما يلزم لتخريج شباب من هذا النوع، ولمن ينظر الى الابداعات والابتكارات في الدول المتقدمة في الغرب، وحتى النامية في دول العالم الثالث، يجد ورائها سواعد وعقول ونفوس صقلتها مناهج تربوية وبرامج تنموية مكّنت ابناء هذه الشريحة من العطاء المضاعف مما أخذ وتعلم، فهم لم يتخرجوا فقط من الكليات والمعاهد رغم دورها العلمي والتأهيلي.
كتب الكثير من العلماء والخبراء في المناهج التربوية الخاصة بتنشئة الشباب داخل الأسرة، وظهرت الكثير من الافكار العملية والجديرة، منها ما أشار اليه سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي في عدة عناوين صدرت في أواخر أيام حياته، ومن نافلة القول: أنه –طاب ثراه- في الوقت الذي كان في خريف العمر، كان يحمل في نفسه هموم من هم في ربيع العمر، يدفعه الحب لرسم مستقبل زاهر ومشرق لابناء هذه الشريحة وفق خارطة طريق تتطابق مع المنطق والعقل.
يدعو الامام الشيرازي المجتمع في كتابه "الى الشباب نقول" الى خطوات عملية رائعة:
1- خلق أجواء للحوار "تنفتح فيه قلوب الشباب معنا، وتنمو قدراتهم، ونعلّمهم على أسلوب الإصغاء، وإعطاء الجواب، والتفكير بتأمل، واحترام الآراء والأشخاص؛ لكي يصبح رصيدهم الروحي أكبر من أي رصيد آخر، فيتعاملوا مع الناس من منطلق المعنويات الإنسانية، فنحافظ بذلك على سيرهم الاجتماعي وتفكيرهم".
2- توفير القدوات الصالحة والنماذج العملية الحيّة ليتخذها مشعلاً في طريقه بالحياة، وهذا من خلال توضيح "معنى الأهداف، والآمال، وما هو دور المبادئ في حياة الإنسان، وكيف يجب أن تكون الأهداف والمبادئ شريفة ومقدسة؛ لكي تكون حركة الإنسان نحوها حركة لها معنى، وعندها يضحي الإنسان بروحه من أجل مبادئه فيكون لتضحيته رصيد عند الله، ولا تذهب سدى".
3- "من يريد أن يكون أباً روحياً، أو أباً نسبياً أن لا يكون شخصاً غريباً عن عالم الشباب، فهو عالم خاص، وله نمط خاص في الحياة، ولون خاص، ومنطق خاص، وحركة خاصة، وآمال عجيبة، وتصرفات تحتاج إلى موازنة".
4- ويشير سماحة الامام الشيرازي إلى "مسألة مهمة، وهي: عندما ننطلق مع الشباب علينا أن لا ننطلق من بعض التقاليد الاجتماعية غير الصحيحة، كالذي ينظر إلى الحرية باعتبارها حقاً من حقوق الشباب الذكور فقط، أما بالنسبة إلى الإناث فيعدها محرّمة عليهن، وكأن الفتيات لا يسمح لهن بمزاولة حقوقهن المشروعة من التعلم والزواج وما أشبه، فبعض الأعراف تنظر إلى المرأة، لاسيما الشابات البواكر على أنهن متهمات في كل سلوك وكلام و فكر، فيحظر عليهن الخروج والدخول والكلام، بل حتى إبداء وجهات نظرهن، حتى في أمر زواجهن، إلى غير ذلك من التقييدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، نعم؛ لا يجوز الاختلاط المحرّم، وكلما يوجب الفساد والإفساد".
مما يؤسف له حقاً في مجتمعنا العراقي، وربما عديد المجتمعات الاسلامية العبئ النفسي الثقيل على الشباب من قبل الأبوين وبعض المقربين ودفعهم بشدة نحو كسب الوجاهة الاجتماعية والمكاسب المادية، كأن يمتهن الطب أو الهندسة، او يضمن التعيين في دوائر الدولة بما يضمن له الراتب الشهري الدائم ثم التقاعد في خريف العمر، بدعوى أنه سيكون وحيداً في الساحة عندما تخور قواه ويكوم جليس الدار، ولا يجب ان يتوقع المساعدة من أحد!
هذه الايحاءات السلبية المنبعثة من تصورات وهمية وتضخيم لبعض الظواهر تدفع الشباب ليس الى التعلّم والحصول على الشهادة الجامعية لتهدئة مخاوف الأهل وتطمينهم كما يتصورون، وإنما السقوط في مستنقع القلق والاضطراب الداخلي الذي لا يشعر به سوى الشاب والشابة فقط، لما يعتمل في داخلهما من مشاعر الخوف من الفشل من جهة، والتنافس المحموم وغير الشريف لتجاوز الآخرين وبلوغ أعلى المراتب مهما كلف الأمر.
ولعل هدر الطاقات وضياع الكفاءات المتهم بها حالياً الحكومة ومؤسسات الدولة، تنشأ وتبدأ بالحقيقة من هذه البذور الصغيرة داخل بعض الأسر والعوائل التي يبدو أنها تعدّ ابنائها، ليس لادوار حضارية وتنموية يخدمون من خلالها المجتمع والأمة مثل كل شعوب العالم، وإنما لخوض حرب طاحنة، إما آكل أو مأكول!
مؤسسات الدولة واستيعاب الطاقات
عندما تفقد الدولة رؤيتها الاقتصادية، وتعاني الضعف في التفكير الاستراتيجي، من الطبيعي أن تلجأ الى حلول ترقيعية لحل مشكلة متداخلة ومعقدة مثل؛ بطالة الشباب من خلال تعيينهم في وظائف حكومية، ليكون لهم راتب شهري ثابت، حتى وإن أخذ هذا الإجراء طابع البطالة المقنعة، وازدحمت الدوائر بطاولات الموظفين والموظفات، وأثقلت رواتبهم كاهل الميزانية العامة التي يفترض ان تنظر الى الخدمات، من ماء وكهرباء وصحة وتعليم وطرق، الى جانب مشاريع تنموية واقتصادية.
ويبدو هذا أسهل الطرق على مؤسسات الدولة العراقية التي تديرها أحزاب وتيارات سياسية، وربما اشخاص بعينهم، ليس لتوفير فرص العمل للشباب، وإنما لتحقيق أمر آخر ذو أهمية بالغة وهو؛ التنافس على القاعدة الجماهيرية بما ينفعها في موسم الانتخابات البرلمانية للحصول على اكثر المقاعد، ثم أكثر التأثير على القرار السياسي والاقتصادي وتحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن الشباب والمجتمع.
الدور التكاملي المطلوب من الدولة إزاء هذه الشريحة الواعدة؛ تمكينها الشباب على مواصلة مسيرة التعليم الى أرقى المستويات بعد استجلاء القدرات والطاقات، والبحث عن العقول المبدعة والمتطلعة الى التطور في التخصصات المختلفة، لا أن يتركوا الشباب "ينهوا التعليم الجامعي ثم يخوضوا غمار الحياة تاركين التقدم العلمي وتطوير معلوماتهم او تنويعها من دون استفادات اخرى من التجارب والنظريات الجديدة"، (دور الشباب في انهاض الامة، الامام الشيرازي الراحل)، ولعل هذا يكون أحد مصاديق الحديث النبوي الشريف: "أطلب العلم من المهد الى اللحد".
والاستزادة من العلم ليس بالضرورة من خلال الدراسات العليا ونيل شهادة الماجستير والدكتوراه، وإنما بإثراء التجارب العملية من خلال دورات تدريب وتأهيل، والمشاركة في مشاريع وورش عمل، الى جانب المشاركة في مؤتمرات وندوات علمية في بلدان بلغت مراتب من التقدم العلمي والتقني.
إن الدولة العراقية تنظر الى الشباب اليوم على أنهم عبئ ثقيل، وعامل استنزاف للمال بسبب التوجه المركز نحو التوظيف الحكومي، لاسيما حملة الشهادات من خريجي الجامعات والمعاهد، وهي نظرة لا يستحقها، لا الشباب العراقي، ولا العراق كبلد في موقعه الجغرافي وفرصه الهائلة للنمو والتقدم.
ومن مساوئ واقع العمل في العراق عدم وجود احصائية رسمية محددة لعدد الموظفين، ففي الوقت الذي يتحدث وزير التخطيط عن "ان الحكومة لا تمتلك احصائية رسمية عن عدد الموظفين في الدولة العراقية، وما مسجل لدى جهاز الاحصاء المركزي هو 2 مليون و 700 الف موظف فقط"، نسمع من وزارة المالية أن الرقم يصل الى 6 ملايين ونصف المليون موظف حتى العام الماضي، وحسب وزارة المالية فان الإنفاق على رواتب الموظفين والمتقاعدين ارتفع من حوالي 2 مليار دولار عام 2004 إلى 43.3 مليار دولار عام 2020.
ولسنا بحاجة الى مزيد من الارقام المحبطة التي تعج بها المواقع الخبرية على الانترنت، بقدر ما تعنينا الخطوات العملية التكاملية بين مؤسسات الدولة والمجتمع في انتشال الشباب من الحيرة القاتلة ومخاطر البطالة ومحاذيرها.
وما نعنينه بالتكاملية؛ ايجاد التوازن في الاهتمام بين الجانبين، وإلا فان تفوق الدولة بما تملك من دولارات النفط وانفاقها على الرواتب من دون رؤية مستقبلية لمرحلة ما بعد النفط في العقود القادمة، يعني الاستهانة بمصير هؤلاء الشباب انفسهم وبأبنائهم وبالاجيال القادمة. أما تفوق المجتمع وتقاليده وأعرافه دون ضوابط قوانينة ينتج نوعاً من الفوضى في السلوك والتفكير، ويرمي بالشباب ليس في مستنقع البطالة، بل وبما هو أخطر منه بكثير، وهو؛ سوح العنف والجماعات المتطرفة الباحثة عن المكاسب السياسية وإن كان على حساب أرواح ومستقبل الشباب والمجتمع بأكمله، وتجارب المجتمعات القريبة علينا ليست ببعيدة، عندما انسحبت الدولة، وغابت برامجها ومناهجها التنموية، ليتحول الشباب الى معاهد ومراكز للتدريب على التفجير والنسف والاختطاف تحت شعارات ومبررات شتّى.
اضف تعليق