فلِمَ الاندهاش مما يشيع من جرائم غير تقليدية في مجتمعنا، عندما تفشل المدرسة في غرس القيم النبيلة في نفوس الأجيال، ونقف لا مبالين عندما يكون المعلم نفسه جاهلا بها، او منتهكا لها، ولا يعتز بها؟، وكيف لا تنتشر الجريمة عندما يكون القائد بلا رسالة، ويسرق أمام أعين الرعية، وينتهك القانون...
أستغرب من اندهاش البعض من الجرائم الاجتماعية التي تتداولها وسائل الاعلام، تحت باب العنف الأسري، وهي جرائم غاية في البشاعة، أم ترمي أبناءها في النهر، أب يحرق ابنه، زوجة تقتل زوجها، عائلة تعرض أولادها للبيع، فتاة يشهّر بشرفها لأغراض سياسية، هذا الذي شاهدناه، وربما الذي لم نسمع به أعظم وأقسى، وأستغرب أيضا من تسائل المعنيين عن الأسباب مع انها معروفة ولا تقتضي بحثا، فماذا تتوقعون من دولة تنحدر الى الخلف بسرعة فائقة، يتوازى فيها العنف الاسري مع العنف السياسي مع خراب القيم؟.
ومع ان الجرائم مازالت في اطار الحالات، لكني أتوقع تصاعدها الى مستوى الظاهرة التي نفقد معها السيطرة عليها اذا ما بقي حالنا على ما هو عليه، الأسباب ليست مجهولة او غامضة، ذلك انها تُعزى لنصف قرن لم ير فيه العراقيون استقرارا سياسيا وأمنيا، ولم يتمتعوا فيه بحقوقهم الانسانية، ولم يشهدوا فيه عدالة اجتماعية، مدة زمنية طويلة شهدت ما شهدت من اقتتال أهلي وحروب دولية وحصار ظالم واحتلال أجنبي، كل ذلك مغلف بأنظمة سياسية هشة، قائمة على العنف والقسر والانتقام والأحقاد، أنظمة لا يمكن لها أن تصنع سوى الكراهية والبغضاء، لها القدرة على التضحية بكل شيء في سبيل بقاء شخوصها في السلطة، من دون أن يكبح جماحهم ضمير انساني، او روح وطنية، او وازع ديني.
لم يشكل الانسان العراقي قيمة معينة في نظر السياسي فردا كان أم حزبا، علمانيا كان أم اسلاميا، راديكاليا كان أم ليبراليا، الكل في هوى السلطة مغرمون، وفي سبيلها متأهبون لحرق الأخضر بسعر اليابس، ألم يقل المناضلون بأنهم سيسلمون أعدائهم العراق ترابا؟، وهكذا فعل المجاهدون الذين قتلوا شبابا بعمر الزهور لمجرد مطالبتهم بأن يكون للوطن قيمة وللقانون هيبة.
هكذا هو حال وطننا كما رأيته خلال الخمسين من عمري، أما قبل ذلك فلا أدري سوى ما يرويه التاريخ، وثقتي به متذبذبة، اذ غالبا ما يروى بمنظور أيديولوجي، يفرضه الأقوى، ويوظفه كيف يُريد لمشروعه الذي يعتزم تطبيقه على العراقيين.
وفي ظل هكذا أنظمة لا يمكن أن يرتقي التعليم وينتعش الاقتصاد وتتحقق العدالة، وتشيع الحرية ويستقل القضاء، وفي ظلها لا يمكن أن ترى للمواطنة تجسيدا، وللمحبة فضاء، وللوطن وزنا، كل شيء يتراجع، ولا يصح وصف هذه المرحلة الا بزمن الانحدار.
وفي أزمنة الانحدار تتحول البلدان الى غابات، قويها يأكل ضعيفها، وغنيها يذل فقيرها، والأزواج يقتلون بعضهم، والآباء يحرقون أولادهم، والذي لا يصدق فليقرأ تاريخ الانحدارات التي مرت بها الأمة. سيجد الكثير من أمثالها، وعند ذاك يهمس مع نفسه (ما أشبه اليوم بالبارحة).
فلِمَ الاندهاش مما يشيع من جرائم غير تقليدية في مجتمعنا، عندما تفشل المدرسة في غرس القيم النبيلة في نفوس الأجيال، ونقف لا مبالين عندما يكون المعلم نفسه جاهلا بها، او منتهكا لها، ولا يعتز بها؟، وكيف لا تنتشر الجريمة عندما يكون القائد بلا رسالة، ويسرق أمام أعين الرعية، وينتهك القانون من دون أن يستحي، ولا يُعير اهتماما لسوداوية صورته المتشكلة في أذهان الناس، وعندما يعتلي المنابر الدينية رجال غير مؤهلين، ولا يمتون لقيم ديننا العظيم بصلة، فيبثون الكراهية بين شرائح المجتمع، فتعمل سكاكينهم فيها أكثر مما تفعل سكاكين الأعداء، ويخشى من بيدهم السلطة ايقاف هؤلاء عند حدهم، أليس جريمة نكراء عندما تفشل الدولة في خلق فرص عمل لمن يريد قوت عياله بشرف؟، وهل من تخريب للاقتصاد أكثر من افلاس الدولة وعجز الحكومة عن سداد رواتب موظفيها؟، الجريمة حصيلة تاريخ من الفشل السياسي، كل ذلك يحدث وتتساءلون عن أسباب الجريمة؟
اضف تعليق