لم يدرك القائمون على المؤسستين العسكرية والتعليمية بالقدر الكافي أهمية هذا الهدف، وظنوا ان اجراءاتهم تأتي بالمطلق لخدمة العراقيين كالتخفيف من الأعباء ومداراة الرغبات. بينما أهملوا قضية الصهر الاجتماعي، وكيف انه السبيل الأمثل ان لم يكن الوحيد لوأد النزعة الطائفية، وقطع السبل على من يريد توظيفها لأغراض سياسية ثانية...
مع ايماني الشديد بان المذاهب لا تشكل مثلبة في الأديان بقدر ما تعطيها قوة، اذ هي قراءات من وجوه مختلفة للشيء نفسه، ما يرسم صوره متكاملة عنه، لكن المثلبة تكمن في التوظيف السياسي للمذهبية، فجميع المذاهب راسخة في الوجدان ويفترض أن تحظى بالاحترام. واذا جاز لي الحديث باللغة الطائفية المقيتة أقول: ان ثلاثة من أفضل أصدقائي الذين يحتلون مراتب متقدمة في سلم الأصدقاء ينتمون لطائفة غير طائفتي، لما يتمتعون به من خلق رفيع، وما اتخذوه من مواقف مشرفة في اللحظات الحاسمة، ولذلك استمرت علاقتنا الأخوية ما يقرب الأربعين عاما من دون أن تشوبها شائبة.
هؤلاء الأصدقاء تعرفت عليهم في مجالين مختلفين، اثنان منهما في الخدمة العسكرية الالزامية والثالث في الدراسة الجامعية، ومع اننا نسكن في مدن متباعدة ومصنفة طائفيا، الا ان التواصل مازال مستمرا بالرغم من السنوات السود التي مرت بها البلاد.
وهذا يعني ان الجامعة والتجنيد الالزامي مصاهر اجتماعية من شأنهما تمتين النسيج الاجتماعي بين أفراد المجتمع العراقي، فما كان للتصدعات الاجتماعية أن تحدث لو وضعنا هذه المصاهر بالحسبان، واتخذنا الاجراءات المناسبة لتفعيل أدوارهما تماما، اذ يعد الصهر الاجتماعي من بين الأهداف غير المنظورة لهاتين المؤسستين، فحجم التحديات الراهنة والخطوب المحتمل تعرض البلاد والمجتمع لها مستقبلا، يتعذر التصدي لها من دون وحدة وطنية متماسكة.
لكن للأسف لم يدرك القائمون على المؤسستين العسكرية والتعليمية بالقدر الكافي أهمية هذا الهدف، وظنوا ان اجراءاتهم تأتي بالمطلق لخدمة العراقيين كالتخفيف من الأعباء ومداراة الرغبات. بينما أهملوا قضية الصهر الاجتماعي، وكيف انه السبيل الأمثل ان لم يكن الوحيد لوأد النزعة الطائفية، وقطع السبل على من يريد توظيفها لأغراض سياسية ثانية.
ما قادني لهذا الحديث هو الحماس اللافت للتعليم الالكتروني الذي نقدر فيه عاليا جهود وزارة التعليم العالي في سعيها الحثيث لتجاوز تأثيرات وباء كورونا، والعمل على توظيف تكنولوجيا الاتصال في المجال التعليمي، والرغبة في تأهيل وتطوير مهارات المجتمع الجامعي في هذا النوع من التعليم والاندماج فيه، بالتأكيد لا نختلف على صحة المواكبة، وتطوير القدرات وتجاوز الظرف الاستثنائي، ولكن أن يحتل التعليم الالكتروني مساحة أوسع من التعليم الواقعي، فهذا ما نختلف فيه، اذ ينطوي التعليم الالكتروني على تأثيرات سلبية تشبه الى حد كبير تلك التي خلفتها الاستحداثات الجامعية.
فقد اعترضت قبل سنوات في ندوة حضرها الوزير الأسبق عبد ذياب العجيلي على الافراط في استحداث كليات وأقسام متماثلة في الجامعات العراقية، وقلت: ان من شأن ذلك تعزيز العزلة الاجتماعية، بخاصة وان الاستحداثات وصلت الى انشاء كليات رسمية في أقضية ونواح بعضها أشبه بالقرى، ناهيك عن الكليات الأهلية المنتشرة في أرجاء البلاد، الأمر الذي يعمق من التخلف الحضاري، فماذا يعني أن ينهي الطالب كل مراحله الدراسية من الابتدائية الى الجامعة في مكان واحد، أي في اطار ثقافة واحدة، بينما يفترض العكس لكي ندفع الطلبة الى الدراسة بعيدا عن محيطهم بهدف الاندماج والتخلص من العزلة والانغلاق.
قد يستغرب المسؤولون في الوزارة اذا قلت ان بعضا من طلبة كليات الأقضية من أنهوا دراستهم الجامعية ولم يروا بنايات جامعاتهم الواقعة في مركز المدينة، ولم يحدث ان ذهبوا للعاصمة الا لمراجعة طبيب.
ان أخذ محل سكن الطالب بالحسبان عند قبوله ليس بالضرورة صحيحا في كل الأحوال، وان كانت الوزارة تنظر الى الأعباء المالية المترتبة على العوائل، فأظن ان الأصح أن تخصص الحكومة مبالغ مالية كافية للطلبة الذين يقبلون خارج محافظاتهم، يجب ألا يعيقنا المال عن تحقيق هدف وحدة المجتمع.
نريد لأبناء المحافظات التداخل مع بعضهم، فالصداقات والمصاهرات والزيارات المتبادلة هي التي توحد المجتمع، وليس كلام الاعلام والمناهج المدرسية، طبعا اذا كانت صحيحة، وغيرهما بكاف لتحقيق هذا الهدف.
اضف تعليق