ان بقايا مرحلة الاختلاف ما زالوا متمسكين بقضايا خلافية، خاصة الثنائيات المستقطبة، وهم بهذا قد يعيقون الحركة نحو الوحدة، وقد يطيلون الفترة الانتقالية بين مرحلة الاختلاف ومرحلة استعادة الوحدة، لكنهم لن يستطيعوا منع الوحدة، لان هذا هو السياق التاريخي العام، الذي يمكن تحديه لفترة وجيزة...
قرأت مؤخرا وقائع اعمال ندوة مهمة عقدت في القاهرة يومي ٢٤ -٢٥ تشرين الاول من العام ٢٠١٠ حول "مفهوم الحضاري ومعالم منظور جديد في العلوم السياسية والاجتماعية". لكن اعمال الندوة لم تنشر في كتاب الا في العام ٢٠١٦. اما انا فلم يحالفني الحظ في الحصول على الكتاب وقراءته الا في يوم الجمعة ١٥ مايس من هذا العام.
"الحضاري"، وهي الكلمة التي استخدمتها في تركيب مصطلح "الدولة الحضارية الحديثة"، من المصطلحات الجديدة في العلوم السياسية والاجتماعية. ولهذا كان استخدامي لكلمة الحضاري مثار التباس لدى بعض المتلقين. ومن هذه الالتباسات قول احدهم مثلا ان العراق هو مهد الحضارات، فلماذا تدعو الى اقامة دولة حضارية فيه. وهناك من قال ان الحضارات متعددة فاي حضارة تقصد؟ والاشكال الاخير يتوهم ان كلمة "الحضاري" لا بد ان تكون مشتقة من كلمة "الحضارة الفلانية".
وطبعا، انا لم اكن اقصد ان تنتسب كلمة "الحضاري" الى اي من الحضارات الست الموجودة الان، لانها لا تعني ايا من هذه الحضارات. في هذه الاثناء اشتريت نسخة الكترونية من اعمال الندوة المشار اليها، واذا بها تقول: "اجمع المشاركون في الندوة على ان الحضاري وصف يلحق بالامم ذات المنظومات القيمية الكبرى".
وهذا بالضبط ما اقصده، فالحضاري وصف يلحق بالشيء اذا كان ذلك الشيء محتويا على منظومة قيم. ففي قولنا "المركب الحضاري"، فاننا نقصد المركب ذا العناصر الخمسة في حال كونه محاطا بالقيم العليا، وكذلك الامر حين نقول "النظام التربوي الحضاري"، فنحن نقصد النظام التربوي المنطوي على منظومة قيمية كبرى، وكذا الامر حين نقول "الدولة الحضارية" فاننا نقصد تلك الدولة القائمة على منظومة قيم، وتكون هذه القيم هي اطار اشتغال عناصر المركب الحضاري وتفاعلها في ما بينها، وهكذا.
وهذا التوصيف ينطبق على كل دولة تتخذ من منظومة قيم عليا مؤشرات للسلوك. واترك لها ولشعبها بعد ذلك اختيار منظومة القيم المناسبة لها. فقد يختار الشعب الصيني القيم الكونفوشية، والشعب الهندي القيم البوذية، وهكذا. وربما يفضل بعض الباحثين تقسيم القيم الى نوعين: وضعية والهية، وهم احرار في ذلك. لكني اسجل الملاحظة الاساسية هنا ان القيم تسير باتجاه ان تكون قيما انسانية مشتركة. فالوصايا المذكورة في التوراة مثلا، ومثلها الوصايا المذكورة في القران تكاد تكون موضع قبول كل البشر الان، بغض النظر عن الدين. وكذلك القيم التي بشر بها كونفوشيوس وبوذا وموكب الانبياء الفلاسفة والمفكرين وصولا الى جون راولز. فقد "كان الناس امةً واحدة"، ثم اختلفوا، وها هم يعودون تدريجيا امة واحدة عن طريق الاقتصاد وحقوق الانسان والقضايا المشتركة والقيم الانسانية العليا. وهي وحدة بشرت بها الديانات والفلاسفة من مختلف التوجهات.
هذه ثلاث مراحل كبرى في تطور البشرية اذاً: الوحدة والاختلاف ثم الوحدة من جديد. ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان البشرية الان في الجزء الاخير من مرحلة الاختلاف، وانها تستعد لدخول مرحلة الوحدة من جديد.
لا انكر ان بقايا مرحلة الاختلاف ما زالوا متمسكين بقضايا خلافية، خاصة الثنائيات المستقطبة. وهم بهذا قد يعيقون الحركة نحو الوحدة، وقد يطيلون الفترة الانتقالية بين مرحلة الاختلاف ومرحلة استعادة الوحدة، لكنهم لن يستطيعوا منع الوحدة، لان هذا هو السياق التاريخي العام، الذي يمكن تحديه لفترة وجيزة، لكن لا يمكن ايقافه الى الابد. سوف تجتاز البشرية هذه الفترة الانتقالية، وان ببعض الخسائر، ثم تدخل مرحلة الوحدة، فيما يذهب بقايا مرحلة الاختلاف الى متاحف التاريخ الطبيعي، حتى لا اقول الى مزبلة التاريخ.
اضف تعليق