q
لو راجعنا تجارب النجاح في العالم وجدنا أنها بدأت من أبسط الامكانيات المتوفرة، ثم جاءت العزيمة والإرادة والإيمان لتكون مثل عناصر النمو في الطبيعة، تضخ القوة والاندفاع نحو تلك الاهداف البعيدة، ولذا يكون نصيبها من النجاح أكبر، وربما تحقق ما لم يحققه الآخرون المتفوقون من قبل...

"إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه". أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام

سرعة الحركة، واستعجال الأمور بدافع الحماس، والرغبة الجامحة في التطور والتغيير نحو الأفضل، أحياناً تحجب حقائق كثيرة على ارض الواقع، فتضيع في زحمة التطلع نحو البعيد الذي يحضّ عليه الكثير، على أنه مدعاة لبعد النظر وسعة أفق التفكير.

الافراد، كما الجماعات تتعرض لهذه الاشكالية في طريقة التفكير، فمن اجل الحصول على ما هو أكبر وأفضل في قادم الأيام، يتركز الجهد الذهني والعضلي ايضاً للوصول الى تلك النقطة من الهدف المرسوم، لتحقيق المُراد، حتى أن البعض يعد ما في اليد من مخلفات الماضي، ولا يصلح لأن يكون جزءاً من الحل، او من النجاح.

ولو راجعنا تجارب النجاح في العالم وجدنا أنها بدأت من أبسط الامكانيات المتوفرة، ثم جاءت العزيمة والإرادة والإيمان لتكون مثل عناصر النمو في الطبيعة، تضخ القوة والاندفاع نحو تلك الاهداف البعيدة، ولذا يكون نصيبها من النجاح أكبر، وربما تحقق ما لم يحققه الآخرون المتفوقون من قبل، وهنا تكون النتيجة الباهرة، بتفوق من لم يتوقع أحد تفوقه، او انتصار شعب عاش ردحاً من الزمن تحت ركام العبودية والهزيمة النفسية والتخلف.

التقدم صناعة

بالنزر اليسير مما نحتفظ به مشاهد استثمار القدرات الذاتية البسيطة في انتاج مختلف السلع والمقتنيات في عراق السبعينات، مع أغلب الظن أنها آخر الأيام الجميلة لذلك الوعي المجتمعي ذو الطابع الفطري الناصع.

في الوقت الذي كان الغرب في سني الستينات والسبعينات يحثّ الخطى البعيدة نحو التقدم الاقتصادي والعلمي، كان العراق يوصف بأنه من الدول المتخلفة من زمرة "العالم الثالث" لسبب واحد، من جملة أسباب، أنه لم يكن منتجاً وكان يعتمد في الصناعات الكبرى على الشركات الاجنبية، كما كان يفتقر للخبرات العلمية في مجالات عدة، بيد أن "التخلف العراقي" في عيون الغربيين، لم يكن مطلقاً مثل "التخلف الافريقي"، فقد خرجت تقارير في أوقات مختلفة تصف العراق بأنه يمتلك من الموارد والفرص ما تغبطه عليه دول عديدة في العالم، أبرزها؛ التناسب الدقيق بين المساحة الجغرافية مع تعداد السكان، وثقافة التغذية القائمة على موروث شعبي محترم يقدس الطعام الطيب والمفيد، حتى أن أحد علماء الطب بحث، خلال زيارة له للعراق –في السنوات الخوالي- عن سبب عدم وجود داء الروماتيزم، وآلام المفاصل بين افراد الشعب العراقي، فجال في الأسواق، وعرف أن اللبن المخثّر والرائب يُعد أهم مفردة غذائية في المائدة العراقية، يُضاف الى هذا، المرتبة الراقية للعراق في تصنيف الشعوب الأكثر ذكاءً بالعالم، والشواهد على ذلك لا تُعد بوجود عشرات العلماء في الطب والهندسة منتشرون في العالم.

لذا يمكن القول أن الشعب العراقي في تلك الفترة لم يكن يعيش أزمة اقتصادية حقيقية كالذي نشهده اليوم، ولم تكن هنالك بطالة ولا فقر مدقع، ولسنا بوارد الخوض في العوامل السياسية، ودور المغامرات العسكرية للحكام في تدمير النظام المعيشي للناس، إنما نسلط الضوء على المعنويات العالية للانسان العراقي في سوق العمل والانتاج آنذاك، حيث كانت الورش الصغيرة ومشاريع الانتاج البسيطة التي كانت تسد حاجة العائلة لكثير من السلع الاستهلاكية، مع التذكير المهم بالأمن الغذائي الذي كان يوفر الشعب بنفسه قبل الحكام، من خلال الإقبال الواسع على الزراعة والرعي، وتوفير أكبر قدر من المواد الغذائية الاساس التي كانت تغطي حاجة العراقيين و زيادة، بما لم يسمح للمستورد من الغذاء للتطفل على المائدة العراقية.

منذ تلك الفترة كان العراق؛ الأرض والانسان، يشطب على فكرة شراء التطور والتقدم بأموال النفط، وتوفير الراحة والاستقرار بتجارب وخبرات الآخرين، قبل أن يتحدث عن هذه الفكرة ويتبجح بها أصحاب المليارات في الخليج، ثم يصطدموا اليوم بصخرة الواقع المرير بعد خسارتهم الفادحة لكل ما يمتلكونه قبل أن يخسروا الحماية الاجنبية لحياتهم التي أصبحت –على حين غرّة- ألعوبة شخص مثل "دونالد ترامب".

كورونا اختبار الإيمان

كما هي مخلفات الحروب والكوارث الطبيعية تدفع بالمتضررين للتفكير بما لديهم من قدرات وإمكانات لتسخيرها والاستفادة القصوى منها، فان أزمة صحيّة، مثل؛ انتشار وباء "كورونا" من شأنه ان يذكّر الناس في العراق –مثلاً- على ما لديهم من قدرات وفرص للمواجهة وتجاوز الازمة مع أقل الأضرار.

وقد سبق للعراقيين أن جربوا هذه الالتفاتة في أزمة أمنية كادت أن تعصف بالاستقرار في العراق برمته، عندما اجتاحت الاراضي العراقية مليشيات داعش، مدعومة بامكانات عسكرية وإدارية ومالية غاية في الاتقان، مع دافع ذاتي من افكار تكفيرية متطرفة تجعل الموت مثل تذوق الحلوى لتحقيق الاهداف المرسومة وهي؛ الوصول الى أكبر مساحة ممكنة في العراق مروراً بالعاصمة بغداد.

كان العراق حينها، وتحديداً في حزيران عام 2014 عندما اجتاحت عناصر داعش مدينة الموصل، يرتبط باتفاقية "الإطار الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة، وهي القوة العسكرية التي يفترض ان تهابها، ليس داعش، وإنما أي قوة عسكرية منظمة في العالم، ولكن الذي حصل أن العراقيين لم ينقذهم من خطر الاجتياح سوى استنفار تاريخي للقوى الشعبية من داخل المجتمع العراقي ليتفاجأ العالم بظهور قوة عسكرية تتشكل خلال فترة وجيزة مدعومة بإيمان عميق وراسخ، وثقة عالية بالنفس، مع تضامن شعبي واسع خلق شريحة اجتماعية جديدة تحمل راية المقاومة لأي قوة غازية ومعتدية، فالجهاد في سبيل الله، ليس الشعار الذي يرفعه الشباب المتوثّب والمرابط في جهات القتال فقط، وإنما بات هذا الشعار على لسان أبناء هؤلاء في المدارس، و زوجاتهم وأمهاتهم، لاسيما الشهداء منهم، ثم على لسان سائر شرائح المجتمع.

إن فيروس ضعيف جداً مثل كورونا المستجد، أو ما يسمى علمياً "كوفيد19" أمام الجهاز المناعي الصارم المتوفر لدى نسبة كبيرة من العراقيين، يمثل اختباراً جديداً للإيمان بالله –تعالى- وبالقيم السماوية، وأن ثمة قدرات خارقة تعين الانسان دائماً عند الشدائد فيما يسمى بالمصطلح الديني "التوكل"، وهي القدرة المعنوية العظيمة التي أذعن اليها علماء الطب في مدخليتها المباشرة بمعالجة العديد من الامراض، حتى المستعصية منها، فالى جانب هذه النعمة الكبيرة، ثم نعم ومحاسن كبيرة اخرى يمتلكها العراقيون، كما لدى شعوب مسلمة أخرى بمقادير مختلفة، إنما نحتاج التفاتة بسيطة ثم استثمار لما هو مطلوب لمواجهة المخاطر المحدقة، ثم التطلع الى مستقبل أفضل.

اضف تعليق