إنه وريث تقاليد متناقضة: تقاليد الستينيات من القرن العشرين المنصرم، المناهضة للنظام بشدة، وتلك التي ولدت من الثورة الليبرالية، ذات الطابع الفردي العميق. فنتج عن هذا مزيج غريب، الفرد الذي يُطالب بمكانه في المجتمع، لكنه يرفض ما يُعرض عليه. ولكن، بماذا يختلف هذا الإنسان عن سابقيه؟ كل إنسان ممزق...
بقلم: عفيف عثمان
أدى انتشار الرقمنة في مناحي النشاط الإنساني الى التسريع في تفكيك المؤسسات التي تُهيكل المجتمع
بعد عشر سنوات من إصدار "الإنسان الإقتصادي" (Homo economicus) (2012)، خائر القوى من النضال في عالم المنافسة الشرسة بدلاً من التعاون، حيث تسود النقود بديلاً من القيّم، يكتب دانيال كوهين (تولد في العام 1953)، عالم الإقتصاد الفرنسي الشهير، وبعد سلسلة من المؤلفات الناجحة مثل: "العولمة وأعداؤها" (2004)، و"ثلاثة دروس حول المجتمع" (2006)، و"ثلاث قراءات في العالم ما بعد الصناعي" (2007)، ليرسم صورة "الإنسان الرقمي"، ذلك الكائن الغارق في التناقضات والخيبات. ما عنى، في رأيه، الإنتهاء من "الإنسان العاقل (Homo Sapiens)، أقله في نسخته "النيوليتية" (Néolithique) القديمة، والاحتفاء بالإنسان الجديد القادم، متوّجاً بنجاحات هائلة من التطبيقات ومن الممارسات التي غدت عادية جداً من قبيل التبضع من خلال الشبكة العنكبوتية والعمل من بعد.
وأشار هذا الأمر الى الخروج من العصر الصناعي والدخول في "التصنيع في المجتمع ما بعد الصناعي"، في إشارة الى عالم لم يعد النشاط الرئيسي فيه يتمثل في زراعة الأرض أو تصنيع السلع، ولكن في رعاية البشر أنفسهم وأجساهم، وعيش خيالاتهم وهواماتهم، وهذا ما يسميه الكاتب "الحضارة القادمة".
خوارزميات تتحكم بحياتنا
وعلى غرار الثورة الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين، المؤدية الى خلق مجتمع الاستهلاك من خلال إنتاج سلسلة من الخيرات المادية، كان هذا المجتمع قائماً، حتى السنوات الأخيرة، على مبدأ بسيط إلى حد ما: التشجيع على شراء الكثير من الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أسهل: سيارة لتنقلنا بشكل أسرع، آلة تجنّبنا عناء غسيل الملابس. وإذ بالثورة الرقمية ترغب في اتباع الخطى نفسها في تقديم الخدمات والتي تشكل اليوم ثلاثة أرباع الاقتصاد ومجالات العمل. فكل شيء تقريباً ينجز عبر الشبكة العنكبوتية من أجل تخفيض الأكلاف، سواء في المسائل الأساسية أم في وسائل اللهو والتعليم والصحة وحتى المواعدة.
ما تقدمه شبكة الإنترنت الآن ليس عالماً سنكون فيه أفضل حالاً في العالم الحقيقي، ولكن تقدم لنا مصادر أكثر للرضا عن أنفسنا من خلال البقاء في الوضع الافتراضي. إذا أخذنا مثال تطبيق "تندر" (Tinder) الخاص بالمواعدة، فإن الأمر يتعلق باستهلاك علاقة رومانسية عبر الإنترنت، اذ من الممكن تصنيعها من خلال تقليل الوقت في المغازلة. وهنا تخضع المشاعر والرغبات والمخاوف لسيطرة الخوارزميات الجديدة التي تحوّل العلاقات العاطفية على نحو جذري.
الخوارزميات، في عرف الكاتب، شبيهة بسلاسل الإنتاج في مصانع فورد التي كسرت أسعار السيارات بدءاً من العام 1920. فالرقمي يعد بتحرير الكلام، ومعه تغدو المعرفة في متناول الكل، وهو ينذر بنهاية التراتبية والعوائق الاجتماعية بكل أنواعها، ويتيح كسب الوقت. لكنه، في المقابل، يُنهي وظائف كثيرة، في استخدام "الروبوت" والذكاء الاصطناعي، ويدمر جزءاً من الروابط الإجتماعية.
وقد أدى انتشار الرقمنة في مناحي النشاط الإنساني الى التسريع في تفكيك المؤسسات التي تُهيكل المجتمع: الشركات والمؤسسات والنقابات والأحزاب السياسية ووسائط الإعلام...إلخ. ولم تعد الهيئات الوسيطة تسمح للمجتمع بالوجود.
ولتصحيح هذا، يجب أن نتساءل بشكل جمعي عن ممارساتنا.
من هو الإنسان الرقمي؟
من هو الإنسان الرقمي؟ لقد ظهر منذ عشرة أو خمسة عشر سنة، عندما تحولت العلاقات مع الشبكات الاجتماعية الى إدمان. إنه وريث تقاليد متناقضة: تقاليد الستينيات من القرن العشرين المنصرم، المناهضة للنظام بشدة، وتلك التي ولدت من الثورة الليبرالية، ذات الطابع الفردي العميق. فنتج عن هذا مزيج غريب، الفرد الذي يُطالب بمكانه في المجتمع، لكنه يرفض ما يُعرض عليه. ولكن، بماذا يختلف هذا الإنسان عن سابقيه؟ كل إنسان ممزق بين قطبين.
هناك أولاً، نظام العاطفة ورد الفعل، وهناك ثانياً، نظام التفكير. وكل واحد يبحث في المتجر الرقمي الكبير عن الحقيقة التي تناسبه، لا عن الحقيقة الممكنة.
مشكلة الشبكات الاجتماعية أنها تنشّط النظام الأول أكثر من "النظام الثاني"، فلا يترك تطبيق "التيك توك" (TikTok)، الذي يعتمد على قصر مدة مقاطع الفيديو، أو منصة تويتر (Twitter)، الذي يحد من طول الرسائل، أي مساحة للتفكير. وإذ يقضي الشباب ساعات عدة في اليوم أمام شاشاتهم، نجد أن النتيجة هي إنسان غاضب، يجد صعوبة في قراءة كتاب، فكل شيء يصبح مسألة سرعة. إنه يريد السيطرة على كل شيء، لكنه هو نفسه غير عقلاني ومندفع، منقاد إلى سلوكيات إدمانية من خلال تلك الخوارزميات نفسها التي تراقب أصغر تفاصيل وجوده.
لم تصبح الشبكات الاجتماعية ساحات لقاء وتعبير (أغورا) جديدة، بل آلة لتغذية الشقاقات والتصدعات. فهل أعطت الرقمنة الأمل في مجتمع أكثر أفقية؟
إنها في الواقع تجعل كل طبقة اجتماعية تنغلق في صومعتها الخاصة. ويظهر نوع جديد من المجتمع لا يقوم على الفردية المعاصرة ولا على النموذج الهرمي للمجتمعات السابقة.
إنها "الفردية الجماعية" التي ولدت، حيث تُقرن هوية المجموعة بصورة الفرد.
كما تعمل الشبكات على تطوير ثقافة تجعل المرء يفقد التواضع وهو يعرض نفسه أو قل يستعرض أمام "قبيلته" أو "عشيرته".
الرأسمالية الرقمية
لقد أدى انتشار جائحة "كورونا" "دوراً محفزاً" في تقبل تداعيات العالم الرقمي. والمذهل هو السرعة التي تمت بها عملية الانتقال. العمل من بعد، على سبيل المثل، فرض نفسه بطريقة غير عادية. من الواضح أن قدرتنا على قبول العزلة في المنزل وعدم مقابلة زملائنا بعد الآن هي نتيجة للتثاقف الناشئ عن استخدام الهاتف الذكي.
في خلال فترة الإقفال والعزل الأولى، تحدث البعض عن نهاية العولمة، وعودة القرب. وفي عرف الكتاب أن ما حصل كان صعوداً للرأسمالية الرقمية، ما كان حقيقياً يصبح افتراضياً بأقل تكلفة ممكنة. فالرابحون من الأزمة هم: أمازون وأبل ونتفليكس، وهي الشركات التي انفجرت قيمتها السوقية خلال فترة الإغلاق، لقد جعلوا من الممكن الحصول على السلع من دون الحاجة للذهاب الى المتجر، والاستمتاع من دون ارتياد المسرح أو قاعة الحفلات الموسيقية، والكل أدرك هدف الرأسمالية الرقمية: تقليل الأكلاف قدر الإمكان.
تستجيب الثورة الرقمية لتوقعات المجتمع الذي يريد أن يتم الاستماع إلى كل كلمة، من دون الكشف عن الحقيقة. تختلف ألفباء الرقمية اختلافاً كبيراً عن تلك الموجودة في العلاقة السابقة القائمة على المواجهة المباشرة، وجهاً لوجه، والتفكير الحواري الذي يقوم على البحث عن التعاطف. في العالم الرقمي، يجب أن تُسمع صوتك أولاً، أي أن يصغي الآخرون اليك، وهذا يعني التحدث بصوت أعلى. لذلك، في كثير من الأحيان، ينطوي الأمر على إهانة الآخر وانتشار "خطاب الكراهية".
لقد بتنا في وضع يعيش فيه كل فرد في العالم الافتراضي. فالوحدة الاجتماعية المنسحبة على الحياة العاطفية والمهنية، المرتبطة بالاستخدام الإدماني للتكنولوجيا الرقمية، هي بالفعل حقيقة واقعة لكثير من الناس.
مكافحة الاختلال
يبقي الكاتب، برغم نقده الشديد للرقمنة وآثارها، على مسحة من التفاؤل، إذ تتيح الشبكات الاجتماعية أيضاً الانفتاح على الآخرين. يتوجب علينا أن نفكر في هذه الأدوات وما نريد أن نفعل بها. وعلينا ألا ننسى أن الإنسان جسد وعقل وروح، والآلة ليس لها جسد ومشاعر ولا عقل ولا تملك الخيال الإبداعي للبشر. فالذكاء الاصطناعي هو ذكاء حفظ، يعمل من خلال تعلّم المواقف المحتملة، من دون وجود مفاهيم لتنظيرها، والآلة لا تقرر: "البشر هم من يقررون".
في ختام كتابه، يدعو الكاتب الى مكافحة الاختلال الذي يحدثه العالم الرقمي في العلاقة مع الآخرين ومع العالم الحقيقي. ففي رأيه:" لن نهاجر الى مجرة أخرى، يجب أن نقبل العيش مع الأحياء وعلى هذا الكوكب".
اضف تعليق