تحديد الشعبوية تأويلًا محددًا للشعبوية يتميز باستيعابه لجل مَا يُعرف اليوم بهذا الاسم، وتكمن قوته في تقديم تحديد واضح يميز الفاعلين الشعبويين من غيرهم. ويلخص هذا الفصل النقاط التي تميز أغلب الشخصيات السياسية المسمّاة الشعبوية ومن ثم يردُّ المؤلفان على انتقادَين من الانتقادات الرئيسة للمصطلح...
صدر عن سلسلة "ترجمان"، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب مقدمة مختصرة في الشعبوية، وهو ترجمة سعيد بكار ومحمد بكار لكتاب Populism: A Very Short Introduction لكلٍ من كاس مودّه وكريستوبل روفيرا كالتواسر، وقدَّما فيه تحليلًا للشعبوية ببعديها النظري والعملي، وبصفتها أيديولوجيا تشطر المجتمع إلى معسكرَين متخاصمَين؛ هما الشعب النقيّ مقابل النخبة الفاسدة، وتضع الإرادة العامة للشعب فوق أي اعتبار.
يصف المؤلفان القوة العملية لهذه الأيديولوجيا من خلال مسح يغطّي الحركات الشعبوية في العصر الحديث، وهي: الأحزاب اليمينية الأوروبية، والرؤساء اليساريون في أميركا اللاتينية، وحركة حزب الشاي الأميركية، ويميطان اللثام عن سر نجاح شخصيات شعبوية مثيرة للجدل؛ مثل خوان بيرون، وروس بِرو، وجان ماري لوبان، وسلفيو برلسكوني، وهوغو تشافيز. ويبيّن الكتاب أن الشخصيات الشعبوية لا تقتصر على الرجال الذين يجسّدون القوة، بل قد تشمل النساء الحازمات أيضًا؛ مثل إيفا بيرون، وبولين هانسن، وسارة بالين، اللواتي نجحن في تبوُّء مكانة شعبوية عن طريق استغلال مفاهيم التمييز بين الجنسين في المجتمع في أغلب الأحيان.
ما الشعبوية؟
يتألف الكتاب (176 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ستة فصول.
يقدم مودّه وكالتواسر في الفصل الأول، "تحديد الشعبوية"، تأويلًا محددًا للشعبوية يتميز باستيعابه لجل مَا يُعرف اليوم بهذا الاسم، و"تكمن قوته في تقديم تحديد واضح يميز الفاعلين الشعبويين من غيرهم. ويلخص هذا الفصل النقاط التي تميز أغلب الشخصيات السياسية المسمّاة الشعبوية"؛ ومن ثم يردُّ المؤلفان على انتقادَين من الانتقادات الرئيسة للمصطلح؛ أن الشعبوية ليست سوى كلمة هجومية لإدانة الخصوم السياسيين، وأن غموض هذا المصطلح الكبير يكاد يجعله ينطبق على جميع الشخصيات السياسية.
أما في الفصل الثاني، "الشعبوية حول العالم"، فيقدم المؤلفان عرضًا موجزًا لأهم الفاعلين الشعبويين في المئة والخمسين سنة الماضية، ويركزان اهتمامهما على ثلاث مناطق طالما حظيت الشعبوية فيها بأهمية بالغة؛ وهي أميركا الشمالية، وأميركا اللاتينية، وأوروبا. كما يقدمان تلخيصًا للمحطات الرئيسة التي تميز بها السياق السياسي في هذه المناطق، ثم يعرجان على المميزات التي يتفرد بها كل سياق على حدة، بتحديد الأيديولوجيات المتعلقة بالشعبوية في كل سياق، وذِكر التأويل الخاص الذي يقدمه الشعبويون للشعب والنخبة فيه. ويختمان بالإحالة على ثلة من الفاعلين الشعبويين المعاصرين خارج هذه المناطق المعروفة، ولا سيما في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
من الزعيم الشعبوي؟
يناقش المؤلفان في الفصل الثالث، "الشعبوية والتعبئة"، الأنواع الثلاثة الرئيسة التي يستخدمها الشعبويون لتعبئة الناس؛ وهي الزعامة الفردية، والحركة الاجتماعية، والحزب السياسي. لكن يبقى سؤالان مهمان يحتاجان إلى إجابة: لماذا ينتشر بعض أنواع التعبئة الشعبوية أكثر من غيره في مناطق معيّنة دون غيرها؟ وهل لأنواع التعبئة المختلفة هذه تأثير في النجاح الانتخابي للشعبوية؟ يجيب المؤلفان عن السؤال الأول بتأكيد أنّ الفاعلين الشعبويين لا يشتغلون في فراغ سياسي؛ إذ يمكن أن تساهم السياقات السياسية المتنوعة في بروز أحد ألوان التعبئة الشعبوية الثلاثة أو أكثر، أو العكس. ثمّ إنهما يجيبان عن السؤال الثاني إجابة دقيقة فيقولان: "يجب أن نجعل نصب أعيننا إمكان تحديد النجاح الانتخابي بطريقتين مختلفتين: أولًا، بوصفه اختراقًا انتخابيًا، أي الفوز بأصوات كافية لدخول الساحة السياسية (مثل البرلمان أو الرئاسة)؛ وثانيًا، بوصفه صمودًا انتخابيًا، أي القدرة على التطور إلى قوة ثابتة ضمن النظام السياسي".
أما في الفصل الرابع، "الزعيم الشعبوي"، فيبحث المؤلفان في ماهية الزعيم الشعبوي، ويتوصلان إلى أنه لا يمكن القول بوجود زعيم شعبوي أنموذجي بسبب الاختلاف الكبير بين الفاعلين الذين يوظفون الأفكار الشعبوية، و"يتجسد القائد الشعبوي النمطي، وفقًا للأكاديميين والعامة، في الرجل الكاريزمي القوي. وعلى الرغم من انطباق هذا الوصف على بعض الزعماء الشعبويين المعروفين، فإن نجاح هؤلاء يتحقق في مجتمعات دون غيرها.
كما أن الطبيعة الفذة للزعيم الشعبوي تتجلى في سمات دقيقة، وتختلف باختلاف الثقافة السياسية للدولة التي يعبِّئ بها. ولكن هذا الاختلاف لا ينفي اشتراك الزعماء الشعبويين جميعهم في سمة مشتركة هي تصوير أنفسهم صوتًا للشعب، أي إنهم سياسيون خارجيون يمثلون عامة الناس تمثيلًا حقيقيًا. ويتأتى للزعيم الشعبوي، بفضل صفاته الشخصية الاستثنائية، أن يرسم هذه الصورة بدقة متناهية، وإن لم تكن تعكس حقيقته في بعض الأحيان".
الشعبوية والديمقراطية
يدرس المؤلفان في الفصل الخامس، "الشعبوية والديمقراطية"، العلاقة بين الشعبوية والديمقراطية، وهي محطّ نقاشٍ كبير بين رأي تقليدي يرى الشعبوية خطرًا كبيرًا على الديمقراطية، ورأي يرى أنها الأنموذج الحقيقي والوحيد للديمقراطية. وبحسبهما، يمكن أن تكون الشعبوية تهديدًا للديمقراطية أو تصحيحًا لمسارها؛ إذ يقولان: "يتوقف تأثير الشعبوية على قوتها الانتخابية والسياق الذي تظهر فيه، وهذا يعني أن الشعبوية في حد ذاتها لا تصلح النظام الديمقراطي ولا تفسده؛ فهي كباقي الأيديولوجيات الأخرى، كالليبرالية والقومية والاشتراكية". ولفهمٍ أفضلَ لهذه العلاقة المعقدة، يقدم المؤلفان تعريفًا واضحًا للديمقراطية، بغية توضيح طرائق تأثير القوى الشعبوية في الديمقراطية، سلبيًا وإيجابيًا. ثم يقدمان مرجعيتهما النظرية الخاصة لتفسير أثر الشعبوية في الأنظمة السياسية المختلفة؛ من أجل التمييز بين أهم الآثار التي تنتج من الشعبوية في المراحل المختلفة لعمليتَي الدمقرطة أو الحد منها.
وينطلق المؤلفان، في الفصل السادس "الأسباب والاستجابات" (الفصل الأخير)، من واقع أن المجتمعات التي يوجد فيها طلب كبير على الشعبوية تمثل أرضًا خصبة لنجاحها، لكن ذلك يستلزم "أن يرى الناس في القوى الشعبوية الموجودة الصدق المطلوب. كما أن وجود عرض شعبوي قوي، في ظل غياب الطلب عليها، عادة ما ينتهي بإخفاق الفاعلين الشعبويين".
وللإجابة عن الإشكال المطروح بشأن الطرائق المُثلى في التعامل مع بروز الشعبوية، يحاول المؤلفان تحليل العوامل الأساسية في نجاح الشعبوية أو إخفاقها، بالنظر إلى ما لهذا الأمر من أهمية بالغة، ويستحضران الكيفية التي تعاملت بها أنظمة ديمقراطية مختلفة مع السياسة الشعبوية من حيث الطلب والعرض، وينتهيان بتقديم بعض الاقتراحات التي تتعلق بالكيفية المُثلى التي من شأنها تقوية الآثار الإيجابية للشعبوية في الديمقراطية (الليبرالية)، وإضعاف آثارها السلبية فيها.
اضف تعليق