إن الغزو الثقافي ليس بالجديد، أما ما هو حديث فهو تعبيره عن محاولة مجتمع ما لفرض قيمه على مجتمع آخر بالقوة حيث قد تحدد مضمون هذا المصطلح في ضوء انجازات العلوم الإنسانية، ودخل القاموس السياسي حديثا معبرا بذلك عن الوعي السياسي للشعوب المتحررة وإيمانها بدور الثقافية دعامة لبناء اجتماعي حيوي أصيل ومتجدد...
إن ثقافة الأمة تشكل العمود الفقري لها، مثلما هي مكانته بالنسبة للجسد، فلا يمكن لمجتمع أو أمة أن تستقيم وتشمخ وتصان من دون هذا العمود الذي يساعد على استقامتها وحماية هويتها، ولذلك فإن مجمل الصراع بين الأمم هو صراع ثقافي بالدرجة الأولى، فالغزو الثقافي مصطلح يتكرر بوتيرة ثابتة في مجمل الكتابات التي تتحدث عن الاقتصاد، السياسة، الإعلام والثقافة وفي الأدبيات الأخرى التي تتناول الفنون والآداب، وتطالعنا باستمرار هذه التحذيرات أو التخوفات التي يطلقها بعض الباحثين: الغزو الثقافي يهدد ثوابتنا وقيمنا، يهدد هويتنا، نحن مهددون بطمس شخصيتنا الحضارية...
لماذا نحن بالذات؟ الشروح لم تنضج والباحثون لم يقدموا ما يوقظ الوعي الواحد لفهم المخاطر والتهديدات التي تحيط بأمتنا. ولكي نصل إلى النتائج المرجوة فإننا سنستلهم من تراثنا المعاني الأولية للغزو.
الغزو في أدبيات التراث:
تشير معاجم اللغة العربية إلى أن كلمة غزو تعني في جوهرها: القتل والنهب، فقد جاء في معجم لسان العرب لابن منظور: الغزو: السير إلى قتال العدو وانتهابه.
وبلغتنا المعاصرة يعني الغزو تدمير البنية التحتية للمجتمع المغزو والقضاء على إنسانه، ويتضح أيضا أن الغزو يأتي دائما من الخارج، أي من قبل مجتمع بعيد يفترض العداوة في المجتمع الآخر فينقض عليه.
أما معجم اللغة الفرنسية فيعرف الغزو Invasion"" على أنه:
- تدخّل مسلح لدولة معينة على دولة أخرى.
- تدخل واسع مكثف مصحوب بالعنف وتدمير المنشآت يقوم به شعب معين خارجي ضد بلد معين، من أمثلة ذلك غزوات البربر والغزوات الكبرى.
وإذا قلنا أن الغزو جزء من الثقافة البربرية التي يرفضها الآخرون أي غالبية البشرية، فعندما يصبح الغزو ثقافيا فإن ذلك يعني أن الثقافة هذه تصبح هي كلها الإستراتيجية ويصبح الغزو أداة لتنفيذها، وبمعنى أوضح أن نظام القيم والرموز الذي وضعته أو أوجدته هذه الثقافة المعادية يسعى عن طريق الغزو لأن يحل محل أنظمة القيم والرموز الذي وضعته الشعوب الأخرى، وذلك بالعمل على تدميرها والقضاء عليها.
جاء هذا المصطلح إلى واقعنا العربي المعاصر ثقافيا، إعلاميا ولغويا مع ظاهرة الاستعمار الحديث الذي استولت فيه البلدان الأوروبية على معظم الوطن العربي منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين، وقد مارست الدول الاستعمارية الغزو الفكري بمجموعة من وسائل: الإعلام، التعليم، المنظمات (الشركات، النوادي والهيئات)، فالغزو الذي اجتاح الأمة الإسلامية مصاحبا الغزو العسكري ألحق هزيمة أصابت هذه الأمة في العمق وتسبب في خسائر مادية ومعنوية فادحة، فكما تقول سوزان سلامة:" الأعداء إذا شنوا غارة على بلد ما فإنهم لا ينزلون به سائحين عابرين، ولا زائرين متفرجين، وإنما ينزلون به مستبيحين عرضه وكاسرين شوكته، فإن كانوا طلاب مغانم استنفذوا خيره ولم يدعو لأهله إلا الفتات وإن كانت لهم أغراض دينية واجتماعية وضعوا الخطط الفكرية القريبة والبعيدة لمحو شخصية الأمة وتغيير ملامحها الفكرية والدينية.
ومن هنا فإن الغزو الثقافي ليس بالجديد، أما ما هو حديث فهو تعبيره عن محاولة مجتمع ما لفرض قيمه على مجتمع آخر بالقوة حيث قد تحدد مضمون هذا المصطلح في ضوء انجازات العلوم الإنسانية، ودخل القاموس السياسي حديثا معبرا بذلك عن الوعي السياسي للشعوب المتحررة وإيمانها بدور الثقافية دعامة لبناء اجتماعي حيوي أصيل ومتجدد.
عرّفه جلال أمين بأنه:" اعتداء رأسمالي على الهوية الثقافية للأمة المعتدى عليها، من أجل استقلالها اقتصاديا، كما يمكن أن نصنفه بأنه غزو دين لدين أو إحلال ثقافة أمة محل ثقافة أخرى".
ويصف باسم خريسان الغزو بأنه الوليد غير الشرعي للغزو العسكري إلا أنه يختلف عنه كثيرا، ذلك أن الغزو العسكري يضر بالغزاة أكثر مما يحقق أهدافهم، فهو يحرك في الشعوب المغزوة عاطفة الولاء للدين والدفاع عن ثرى الوطن، ويثير فيهم حسن العمل الجاد للاستقلال من التبعية للأعداء، أما الغزو الثقافي فهو لا يعتمد المواجهة المسلحة أو استخدام القوة، إلا أنه أفضل للغزاة فوسائل الغزو الثقافي ناعمة، خادعة ومحفوفة بالشهوات مثل الطريق إلى جهنم لذا فإن الاستجابة إليه اسرع وأكثر تأثيرا... حيث أن آثار الغزو العسكري تنتهي بانسحاب قوات الاحتلال في حين يبقى اثر الغزو الثقافي فائما في عقول وقلوب الناس أكثر بكثير من قتل الأفراد، بل من قتل جيل بأسره إذ يتعدى ذلك إلى قتل أجيال متعاقبة.
وكما يقول عبد الله أبو هيف فإذا كان هدف الغزو العسكري هو احتلال الأرض فإن الغزو الثقافي يهدف إلى احتلال العقل، فهو أخطر من الغزو العسكري وهلامة ذلك أن هذا الأخير يستمد قوته من آليات الإخضاع الداخلي، مما يبدو وكأنه تعمية للحال أو تجميل له فيُقبل الإخضاع على أنه شيء آخر غير الإخضاع لالتباسه بمفاهيم كثيرة تتصل بعمليات التكوين الذاتي كالنمو، الاستقلالية، الأصالة، الصلابة، السلطة، المناعة والوعي... أما محمد الميلي فمن جهته يرى بأن الاصطدامات الأولى بين الغرب الاستعماري والبلدان فقدت استقلالعا الواحدة تلو الأخرى في الماضي كانت في جوهرها اصطدامات ثقافية، صحيح أن الشكل الذي اتخذته والنتائج التي ترتبت عن ذلك جعلت الجانب السياسي العسكري فيها أوضح، لكن من البديهي أن الذي يرفع السلاح ضد محتل أجنبي إنما يرفعه في الواقع ضد مفهوم ثقافي يُراد أن يفرض عليه فرضا، فمثلا الغزو الفرنسي كان ولا يزال يهدف إلى تكوين مواطن فرنسي ثقافيا وليس إثنيا أو جغرافيا، يدين بالولاء لفرنسا ونجاحها في ذلك تحقق به ما لم يحققه لها نجاحها العسكري، ففي حالة انتصارها الثقافي يصبح الشخص المغزو جنديا مجندا لها، وفي حالة انتصارها العسكري يصبح الشخص المغزو مجندا ضدها لمقاومتها، والفرق بين الحالتين كالفرق بين من يرى أنه غير فرنسي حتى وهو يعيش داخل فرنسا، وغير الفرنسي الذي تعيش فرنسا داخله، وحتى وإن كان يعيش خارجها فهذا الأخير لا يتخلص من غزوه حيثما حلّ وارتحل، بينما صاحب الغزو العسكري متحرر حتى وهو داخل زنزانته وبين قيوده، فهو متحرر فكريا وثقافيا وسياسيا.
وهكذا فإن الغزو الثقافي كما مثله عبد العاطي نجم فهو آلية متممة لعملية التمغرب الثقافي ومن الواضح –حسبه- أنه عملية منظمة فلا جيش أجنبي يحتل البلاد، ولا عدو منظور (مرئي) يقاتله الشعب، بل هو كما يصفه صلاح البيطار:" غزو سلبي، بلغة أجنبية عذبة، ذات مذاق حلو على لساننا، يسعى إلى التشجيع على راحة البال اليومية للاطمئنان على الغد، كسل الذهن، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان". وللتذكير فجبهة الغزو الثقافي هي أخطر من الجبهتين: التبشير والاستعمار، كونها أعقد الجبهات أسلوبا وأفسحها ميدانا وأخفّها حركة، وسلاحها أكثر تنوعا ورجالها لا يتميزون عن العسكريين ورجال الدين، ولا يوجد لهذا الغزو مؤسساته الرسمية الخاصة كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات العسكرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والسياسية كلها في خدمته بطريقة أو بأخرى. وبالتالي فقد شكل الغزو الثقافي جزءا أساسيا من مشروع استعماري قديم يرقى إلى بدايات السيطرة الأوروبية على الوطن العربي، في إطار مشروع رأسمالي للسيطرة على العالم وتوحيده على قاعدة رأسمالية احتكارية، تشكل فيها أوروبا الصناعية مركز القلب وباقي المناطق مجرد أطراف تابعة وملحقة بها.
وفي الأخير لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة، هي أن الغزو الثقافي لا يتوقف حدوثه على الطرف الغازي فقط، وإنما على الطرف المتعرّضِ للغزو أيضا، خاصة إذا كان هذا الأخير لا يملك القدرة على تجديد ثقافته.
اضف تعليق