مع نهاية عام 2016 وبداية العام 2017، ومع التركة الثقيلة التي اثقلت بها السنة المنصرمة كاهل السنة القادمة، تظهر هناك تحديات عالمية كبيرة في هذا العام، لاسيما في قارة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة الشرق الأوسط -المنطقة التي صدعت رأس الجميع- منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.
ويتجلى التحدي الأكبر بالنسبة للقارة الأوروبية والأمريكية بتصاعد وتيرة وحراك التيارات الشعبوية التي تهدد بينة النظام السياسي والديمقراطي والاقتصادي في أوروبا، لاسيما وأن بعض الدول الفاعلة في القارة الأوربية ستخوض انتخابات فاصلة في هذا العام.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يمثل تولي الرئيس "دونالد ترامب" تحديات داخلية وخارجية بالنسبة لأميركا، لاسيما في ما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الأوروبية والصراع مع المؤسسات الأمريكية حول فض الشراكة السياسية والاقتصادية والأمنية مع الدول الأوروبية والانسحاب من حلف شمال الأطلسي ومنظمة التجارة العالمية، وتفكيك الاتفاق النووي.
أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فستكون الأزمة السورية وأنهاء تنظيم "داعش" واستقرار العراق أبرز التحديات السياسية والأمنية في المنطقة، فضلاً عن تداعيات تفكيك الاتفاق النووي - في حال فكك، والصراع الإقليمي الطائفي بين إيران والسعودية الذي يشعل أزمات المنطقة، لاسيما في الدول غير المستقرة سياسيا والتي تمثل بطبيعة الحال بيئة خصبة للصراع الإقليمي بين القطبين.
تحديات الوحدة الأوروبية
إن الخروج الذي شهدته بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفوز الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في الرئاسة الأمريكية أواخر العام الماضي، وتصاعد الحركات الشعبوية المناهضة للسياسات الأوربية والأمريكية، أعطى ثقة كبيرة للأحزاب اليمينة المتطرفة والتيارات الشعبوية في أوروبا، لاسيما وأن هذه الاحزاب تتغذى على ردود الفعل الداخلية جراء سياسات الاتحاد الاوروبي اتجاه القضايا الوطنية مثل أزمة اللاجئين وموضوع الهجرة إلى أوروبا وتعمق الإرهاب الجهادي والضربات الإرهابية التي تشهدها أوروبا من تنظيم "داعش" أو غيره من التنظيمات الإرهابية الجهادية.
وستشهد العديد من الدول الأوروبية خلال هذا العام انتخابات فاصلة، لا تحدد مصير الاحزاب المتنافسة في الانتخابات فقط، وإنما ستحدد مصير الوحدة الأوروبية من خلال المخاطر التي تهدد الاتحاد الأوروبي جراء تصاعد الاحزاب والتيارات الشعبوية. ففي شهر مارس/أذار من هذا العام سيفعل البند الـ(50) من معاهدة لشبونة، وستبدأ بريطانيا بإجراءات الانسحاب الفعلي من الاتحاد الأوروبي، ويأتي ذلك على أثر الاستفتاء الشعبي الذي أجرته المملكة في يونيو/حزيران من العام الماضي.
وقد يزداد الوضع سوءً بالنسبة لأوروبا من خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع أجراءها في نيسان/أبريل من هذا العام، والتي من المحتمل أن تفرز فوز الاحزاب اليمينة المتطرفة، التي تضع هدف خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي (كهدف انتخابي ومشروع سياسي)، وستمثل تلك الاحزاب تحدياً حقيقياً بالنسبة للمؤسسات السياسية الفرنسية التي تخالفها الرأي من خلال توجهها السياسي والفكري للبقاء على فرنسا داخل النادي الأوروبي، لاسيما زعيمة حزب الجبهة الوطنية "مارين لوبان" التي تمثل اليمين الفرنسي المتطرف المناهض لسياسات العولمة الأوروبية والعالمية. فاذا تمكنت لوبان من الفوز في الانتخابات الفرنسية، فأن ذلك يعني بأن الاتحاد الأوروبي ربما سيواجه أزمة حقيقة غير مسبوقة تهدد مصير الوحدة الأوروبية، وربما ستلتحق فرنسا بالمملكة المتحدة أيضاً.
بالإضافة إلى ذلك، وفضلاً عن الانتخابات الفرنسية والايطالية وما تشكله من تهديد على البنية السياسية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي، لاسيما وأن البلدان (فرنسا وإيطاليا) تعتبران أرضا خصبة للقوى السياسية التي تحث على محاربة العولمة وتخالف عملية التكامل الأوروبي. فأن المانيا هي الأخرى التي ستشهد انتخابات في سبتمبر/أكتوبر من هذا العام، ولو أن خطورتها وحدتها وتهديدها للوحدة الأوروبية لا تصل إلى خطورة الانتخابات الفرنسية والإيطالية، إلا أن تصاعد خطر التيارات الشعبوية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتسنم الرئيس الأمريكي الجديد مقاليد الحكم بشكل فعلي والبدء بتطبيق برنامجه الانتخابي، وما تفرزه الانتخابات الفرنسية والايطالية مستقبلا وما يترتب عليها من نتائج سلبية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لاسيما في حال نجاح الاحزاب اليمينة المتطرفة في الانتخابات الفرنسية، كل ذلك قد يتسق مع تطلعات الشعب الألماني غير المتفق مع خطط ميركل الليبرالية المتعلقة بالهجرة.
وحينها فأن ملامح الأزمة الأوروبية قد تكشفت، وقد يترتب على ذلك الانكشاف تقارب أوروبي-روسي في حال نجحت الاحزاب اليمنية المتطرفة من الصعود إلى سدة الحكم، لاسيما "فرانسوا فيون" ممثل اليمين المتطرف في الانتخابات الفرنسية المعروف بقربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وربما قد تسمح الانقسامات الأوروبية للروس بتعزيز نفوذهم الأوروبي وفي منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في حال عززت هذه الانقسامات بتقارب روسي-أمريكي في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة. وبهذا قد تكون هناك تحديات فعلية أمام الوحدة الأوروبية هذا العام.
التحديات الأمريكية المقبلة
هناك ضبابية كبيرة وغموض حول النهج السياسي للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس الجمهوري الجديد "دونالد ترامب" على الصعيدين الداخلي والخارجي. فطروحات ترامب السياسية والاقتصادية وعلاقته بالمؤسسة السياسية الأمريكية وخطابه المثير للجدل، وعلاقته مع القارة الأوروبية ورغبته بفض الشراكة السياسية والاقتصادية والعسكرية عبر الاطلسي والانسحاب من حلف الناتو، وتهديده للشركات العالمية وحلفاء الولايات المتحدة في شرق أسيا (التي اتهمها بالتطفل على قوة أمريكا)، ومغازلته للدب الروسي وغيرها من الأمور تشغل بال الكثيرين، لاسيما الأمريكيين. وقد تكون التحديات الأمريكية الداخلية أكثر تعقيد من التحديات الخارجية بالنسبة للأمريكيين أنفسهم.
وفي مقال نشر في مجلة (ذي آتلانتيك) الأمريكية ركز فيه على مسار الأحداث الأكثر تعقيدا للعام الحالي، اشار فيه إلى أن المسألة أكبر من ذلك، وهي أن ((الشيء الأكثر غموضا بالنسبة إلى المصالح الأمريكية في العالم الحالي قد لا تكمن في روسيا أو كوريا الشمالية أو الشرق الأوسط، بل في الولايات المتحدة نفسها)). لكون أن الرئيس الأمريكي القادم قال في مناسبات عدة "بأنه سيبتعد بشكل كبير (من ناحية الأسلوب والجوهر) عن عقود من الاتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين حول الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية".
وهذا سيزيد من عدم اليقين والتنبؤ بمستقبل العلاقات الأمريكية العالمية سواء بالنسبة للأوروبيين أو الحلفاء الشرق اوسطيين وشرق أسيا، ولربما سيعيد ترامب طريقة تنظيم العالم - على حد قول يوري فريدمان. وقد يدخل الرئيس القادم في صراع سياسي مع المؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية في واشنطن، لاسيما بخصوص التقارب مع الروس وفض الشراكة السياسية والاقتصادية والعسكرية مع أوروبا والخروج من حلف الناتو.
وربما قد يزداد الوضع سوءً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في حال جازف ترامب بعلاقاتها مع الغرب واقدم على تفكيك الاتفاق النووي مع دول (5+1) متجاهلا دور الأمم المتحدة والاطراف الدولية الأخرى. فضلاً عن تهديده للمكسيك وبعض دول القارة الأمريكية. وقد تلتقي الطروحات الترامبية في توجهاتها السياسية العريضة مع التطورات السياسية التي ستشهدها القارة الأوروبية في حال تمكن اليمين المتطرف من التسلق إلى سدة الحكم. مما يعني بأن القارتين الأوروبية والأمريكية والعالم أجمع مقبل على تغيرات في بنية النظام السياسي الدولي بشكل كبير للغاية.
التحديات الشرق أوسطية
ستكون الأزمة السورية وأنهاء ملف تنظيم "داعش" والحرب على الإرهاب، وكذلك الصراع في اليمن والصراع الإقليمي الطائفي في المنطقة بين إيران والسعودية على رأس التحديات السياسية والأمنية في المنطقة، فضلاً عن تداعيات احتمال تفكيك الاتفاق النووي -في حال قاربت الإدارة الأمريكية على هذه الخطوات والتغيرات السياسية الداخلية لبعض دول المنطقة، والتغيرات التي من المحتمل أن تشهدها خارطة التحالفات الدولية والإقليمية وتأثيرها على أمن المنطقة، لاسيما بين الروس والأتراك والإيرانيين.
ففي العام الحالي ستكون الأزمة السورية وانهاء تنظيم "داعش" التحدي الأكبر بالنسبة للجهود الدولية، لاسيما بالنسبة للروس وللإدارة الأمريكية الجديدة. وأن تكون الأولوية لإحلال السلام في سوريا، وهي المهمة التي تتطلب التعاون الإقليمي والدولي الوثيق. وقد يكون التقارب الثلاثي بين الروس والأتراك والإيرانيين خطوة مهمة باتجاه أنهاء الأزمة، وقد تشترك الرؤية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط مع الرؤية الروسية من أجل عملية انتقال سياسي وأنهاء الصراع في سوريا.
ومن المتوقع أيضاً أن تضع الإدارة الأمريكية الجديدة مع الروس استراتيجية عسكرية من أجل تحرير مدينة الرقة السورية بعد الانتهاء من تحرير محافظة الموصل العراقية وربما قد تعتمد نفس الاستراتيجية العسكرية في حال اثبتت نجاحها العسكري، إلا انها قد تواجه تحدي أخر يتمثل في الاندماج بين الفصائل والقوميات التي تشترك في القتال ضد تنظيم "داعش من (عرب وأكراد).
ومع تراجع قدرات التنظيم الدفاعية والهجومية وخسارته العسكرية في العراق وسوريا قد يتراجع التنظيم عن اهدافه الجغرافية ويعتمد على استراتيجيته السابقة في ضرب المدنيين، لاسيما في حال استمرار هذه الدول بحالات عدم الاستقرار السياسي، وضعف الاندماج الاجتماعي، خصوصاً وأن التنظيم الإرهابي يتغذى على الانقسامات العرقية والطائفية. وقد تتزايد حالات عدم الاستقرار السياسي في دول المنطقة، لاسيما في العراق وسوريا واليمن مع تزايد حالات الصراع والمواجهة الإقليمية بين إيران والسعودية التي ستزج وكلائها في تلك الدول وتجعل منها ساحة للمناورة السياسية والعسكرية. وفي اليمن قد تستمر المواجهة الإقليمية بين السعودية وإيران بالوكالة مما ينذر بتحدي حقيقي للجهود الدولية في إيجاد عملية سلام في اليمن.
وقد تتزايد التحديات الشرق أوسطية مع التغيرات السياسية الداخلية التي ستشهدها المنطقة من خلال الانتخابات الإيرانية المقبلة ودعوة اردوغان إلى الاستفتاء الشعبي من أجل منحه المزيد من السلطة والصلاحيات السياسية والعسكرية. إذ تشهد إيران منافسة انتخابية ربما تطيح بالرئيس الحالي حسن روحاني وتياره السياسي المعتدل نوعاً ما بالنسبة للغرب والمحبذ من قبل الإدارة الأمريكية الديمقراطية، لاسيما في حال نقض الرئيس الأمريكي الجديد الاتفاق النووي، مما ينذر بصعود التيار الإيراني المتشدد للسلطة، ومع تزايد نفوذ إيران في المنطقة ونقض الاتفاق النووي، ربما قد يزداد الصراع السياسي في المنطقة وتزداد معه حالات عدم الاستقرار لأغلب دول المنطقة. ولهذا قد يكون لمستقبل إيران السياسي وعلاقتها مع الغرب تأثير عميق في مجريات الاحداث في منطقة الشرق الأوسط.
أما بالنسبة للعراق، فسيكون طرد تنظيم "داعش" وأنهاء ملف النازحين واعمار الأراضي المحررة من قبضة التنظيم الإرهابي التحدي الأكبر بالنسبة للحكومة العراقية والجهود الدولية. وهذه التحديات لايمكن التغلب عليها ومواجهتها أو التخفيف من حدتها وكسب الإرادة الدولية لصالح العراق من دون استقرار سياسي حقيقي واندماج مجتمعي يعالج الشقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويمكن الاستفادة من مخلفات داعش وسخط المجتمع عليه، لاسيما المجتمع السني في عملية الاندماج الاجتماعي والسياسي وصهرهم ضمن مشروع الدولة العراقية. وقد يكون لارتفاع اسعار النفط وطرد التنظيم الإرهابي، فضلاً عن الدعم الدولي فرصة حقيقية أمام صانع القرار العراقي في بناء الدولة العراقية بعد كل النكبات السابقة.
وعلى الرغم من كل تلك التحديات العالمية، ستبقى الآمال معلقة بأن يكون العام الحالي أفضل من الأعوام السابقة، لاسيما بالنسبة للدولة العراقية، في ظل التحركات الدولية والإقليمية لأنهاء ملف تنظيم "داعش" وحل الأزمة السورية وتجميد مستوى انتاج النفط والتفاهم الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران، فضلا عن التقارب بين العراق وتركيا، والجهود الأممية لحل الأزمة اليمينة.
اضف تعليق