q

تذهب بعض القراءات للمشهد الإقليمي، حد القول بأن الثنائي الروسي–التركي، قد حل محل ثنائي أمريكي–روسي، في رعاية الأزمات الإقليمية والعمل على اجتراح الحلول لها، أقله بالنسبة للأزمة السورية... ويذهب آخرون أبعد من ذلك، فيفترضون أن روسيا سائرة نحو تشكيل قطب عالمي (أوراسي) جديد، وأن تركيا تسير في الركب ذاته، وأن "شنغهاي" ستحل محل "الناتو"، ومن قبله "وارسو" كإطار لحلف دولي جديد، يستند إليه القطب الدولي الجديد.

وتنطلق هذه التحليلات والتقديرات، من جملة ظواهر، نشأت مؤخراً، وبدأت تطلق مفاعليها وتأثيراتها على بعض أزمات المنطقة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

(1) التقارب التركي–الروسي الذي ازدهر بعد قطيعة مؤقتة أعقبت حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي...

(2) رعاية أنقرة وموسكو لاتفاق إجلاء المسلحين وعائلاتهم من شرق حلب...

(3) اللقاء الثلاثي المنتظر في موسكو في السابع والعشرين من الشهر الجاري، والتي ستجمع وزراء خارجية كل من روسيا وتركيا وإيران... إلى غير ما هناك من شواهد.

والحقيقة أن موسكو نجحت في الآونة الأخيرة، في استدراج عدد من حلفاء واشنطن التقليدين إلى فلكها، ومنهم تركيا، التي شعرت بالخذلان والخيانة من قبل عواصم الغرب، قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة وبعدها، ما دفع برئيسها إلى إعلان استعداد بلاده للكف عن محاولة الحصول على عضوية النادي الأوروبي، ملوحاً بورقة "منظمة شنغهاي" كبديل عن ذلك، وسط تقارير عن تناقص الاهتمام التركي بعضوية النادي "المسيحي" هذا، بل وعزوف لم تتضح نهاياته بعد، عن معاهدة حلف شمال الأطلسي–الناتو.

والتجربة التي أجرتها تركيا وروسيا في الشمال السوري، أعطت الانطباع بأن هذا الحلف، معطوفاً على دور إيراني مقبول من العاصمتين، قد يصبح الراعي الرسمي لمعاجلة الكثير من أزمات المنطقة... موسكو كقطب دولي، وطهران كمركز للعالم الشيعي، وأنقرة، كزعيمة للعالم السني، بعد أن تراجعت أدوار المراكز العربية السنية، من القاهرة وحتى الرياض، مروراً ببقية العواصم العربية، مع أننا هنا نتحدث عن صفقة تكتيكية وإجراء عملاني، وليس عن حل للأزمة السورية برمتها.

حتى الآن، يبدو هذا التحليل منطقياً، لكنه كذلك على المستوى "التكتيكي" فقط، وقد لا يصلح أساساً للتنبؤ والقياس على المستوى الاستراتيجي، الأبعد مدى... فانشغال واشنطن في "مرحلة الانتقال" بين إدارتين، يترك فراغاً ميدانياً ودبلوماسياً، اعتادت أوروبا في العادة على شغله... لكن إدارة ترامب تقترب من تسلم زمام القيادة في الولايات المتحدة، وليس من المرجح أن يستمر الغياب أو "الفراغ" الأمريكي على حاله.

ثم، أن موسكو على نحو خاص، وأنقرة بدرجة أقل، تتوق لرؤية أوباما وإدارته وقد غادرا مواقع السلطة والقرار في واشنطن، وهما تنتظران بفارغ الصبر وصول ترامب وفريقه لشغل المناصب الأساسية في الإدارة الجديدة... ترامب، يبعث برسائل طمأنينة لموسكو، وهو أوفد أحد أقرب مستشاريه مبكراً إلى موسكو، لاستطلاع سبل رفع العقوبات الأمريكية عن روسيا، وهو تعهد العمل مع فلاديمير بوتين لتسوية النزاعات ومحاربة الإرهاب، والمؤكد أن كلاماً كهذا يطرب الكرملين، والأخير لن يقابل يد ترامب الممدودة، إلا بيد روسية ممدودة كذلك.

أما أنقرة، فهي بدورها تنتظر الساكن الجديد للبيت الأبيض، أقله للتخلص من إرث أوباما – كلينتون الداعم لأكراد سوريا والمنطقة، وهو إرث ينهض كتهديد للأمن القومي التركي، وترامب بهذا المعنى، يمكن أن يكون أفضل لتركيا، مع أن الرجل لم يكشف جميع أوراقه بعد... في مطلق الأحوال، لن تكون تركيا يوماً في وارد التخلي عن الدائرتين الأوروبية والأطلسية في علاقاتها الدولية، فتلكم مصلحة عليا للدولة، تسمو على الخلافات التي تتفاقم حيناً وتتلاشى أحياناً.

في "الوقت الضائع" بين إدارتين، سيكون بمقدور موسكو وأنقرة، أن تعملا على ملء الفراغ الأمريكي، ولكن ما أن تأتي الإدارة الجديدة بعد شهرٍ واحدٍ من الآن، حتى يجد الطرفان نفسيهما مضطران لإعادة النظر في مسار المعالجات التي عملا عليها للأزمة السورية على وجه الخصوص... موسكو أيضاً بحاجة للانفتاح على الغرب، وهي وإن قررت تعزيز دورها كقطب دولي، إلا أنها تؤثر أن تفعل ذلك، بالتعاون لا بالتضاد مع واشنطن وبروكسيل.

وربما هذا ما دفع بالوزير سيرغي لافروف إلى التأكيد على جملة من المؤشرات، منها أن الحوار مع الإدارة الأمريكية المرتحلة لم يعد مفيداً، مستطرداً بتأكيدات على أولوية الشراكة أمريكية روسية في الحرب على الإرهاب مع مجيء ترامب وإدارته... ومنها قوله أيضاً، إن "مسار الأستانا" للحوار السوري–السوري الذي أطلقه الرئيس بوتين مع نظيره التركي أردوغان، ليس بديلاً عن مسار فيينا – جنيف، بل توطئة له لا أكثر.

ما يجري الآن، ليس سوى نوع من "المشاغلة" تقوم بها أطراف إقليمية ودولية، لاجتياز مرحلة الانتظار وانعدام اليقين التي تخيم على عواصم العالم بانتظار مجيء دونالد ترامب، لكن مع تشكل الإدارة الأمريكية، سيكون لكل حادث حديث، والأرجح أن كلاً من الحليفين الروسي والتركي، يتطلعان لفتح صفحة جديدة من التعاون مع واشنطن، بعد أن أعيتهما المشاكل والخلافات مع الإدارة المرتحلة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق